26-سبتمبر-2017

إحدى بدويات سانت كاترين (بوابة الهلال اليوم)

ساهمت الكثير من الأفلام السينمائية في تشكيل صورة نمطية، غير حقيقية، عن المرأة البدوية في مصر، حيث يتم إبراز شخصية ضعيفة غير قادرة على اتخاذ القرار أو خاضعة غير ذات أهمية، أو أحيانًا غير قادرة على التمتع ولو بقدر قليل من الاستقلال وإن كان داخل جماعتها. والحقيقة أن إعادة البحث في هذا المجال تجعلنا نعيد اكتشاف المرأة الراعية في صورة مختلفة، بواجباتها ومسؤولياتها التي تجعلها أهمّ في كثير من الأحيان من الذكر، الذي يعرف عنه في المجتمعات القبلية، بأنه القائد.

الرعي حياة كاملة بالنسبة للبدوية إذ يتجاوز أهميته الاقتصادية إلى منظم لسير حياتها وواقع القبيلة بأسرها

الرعي: حياة كاملة خارج المنزل

على سبيل المثال، قبيلة الجبالية هي قبيلة سكنت سيناء بعد حرب عام 1973، وتحديدًا في مدينة سانت كاترين، تتوزع موارد رزقهم من العمل في المجال السياحي، من خلال بيع منتجاتهم التقليدية للسائحين والإرشاد بالإضافة إلى رعي رؤوس الغنم بين الوديان المختلفة للمنطقة وفي مناطقها الجبلية.

ما سنركز عليه في هذا المقال هو ما تقوم به الفتاة الراعية خارج دائرة المنزل، ألا وهو الرعي خاصة. فهو حياة كاملة لها، وهو لا ينحصر فقط بوصفه ذا أهمية اقتصادية لها أو لأسرتها أو لمن تعمل في رعي أغنامه من الأقارب أو من أهالي القبيلة الأخرى، بل يمتد الأمر لكونه "منظمًا" لسير الحياة بأكملها بين الأهالي، فهي ترعى رأس المال الأهم، لأن الغنم في المجتمعات الصحراوية أهم من الورقة المالية.

"السرح بالغنمات"، يكون بمثابة إعلان اجتماعي، على أساس سوسيولوجي ولاعتبارات اجتماعية، عن أن هذه الفتاة تخطت مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، وستخرج في رحلة الرعي الآسرة التي ستكوّن شخصيتها وسمعتها فيما بعد كامرأة وزوجة قوية، حتى أن نساء الأسرة يحطنها بالود والهدايا الرمزية مثل الخرز والخيوط وإبر التطريز.

اقرأ/ي أيضًا: الرحّل في المغرب.. صراع البقاء

حقيبة الرعي: الناي والطعام والشاي والسكر

تحمل الفتاة البدوية الراعية في حقيبتها زاد الطريق، والتي يكون من ضمنها شيء من المشغولات اليدوية، مما يعملن عليه في أوقات الرعي الطويلة، كما تحمل معها الشبَابة (الناي) للعزف والتسلية، حيث تتبارى الفتيات فيما بينهن في العزف أحيانًا، وأحيانا أخرى تستخدمها في الغزل، كما تحمل معها كوبًا للشرب من البلاستيك أو الفخار، ويكون معها أيضًا "برطمان" صغير من الزجاج، وسكينًا صغيرة للتقطيع، وطبقًا وبراد شاي وكبريتًا أما ما تحمله من طعام، فهو وجبة صغيرة من الخبز أو اللبة (عجين خبز نصف مطهو وطري) أو الفطير، وثمرات من الطماطم، وبعض الدقة (ملح وحار وكمون) والجبن والزيتون، وقليلًا من اللبن، وشيئًا من الفاكهة الموسمية، والسكر والشاي وهما الأساس في الرحلة. ويتنوع زاد الفتيات البدويات بين هذه القائمة ولا يخرج عادة عنها.

قطيع الغنمات الذي ترعاه البنت الراعية يكون غالبًا مما تمتلكه نساء الأسرة من رؤوس الأغنام في سانت كاترين، وتستشير الراعية أمها في ضم غنمات النسوة الأخريات إلى غنماتها في الرعي، ويكون للنسوة القرار الأخير في الأمر. يتراوح العدد الذي ترعاه البنت بين عشرين وخمس وعشرين رأسًا من الأغنام والماعز عادة.

وترعى الفتيات الأغنام طوال أيام السنة حتى خلال الشتاء ما دام الجو صحوًا، وتعود البنت قبل غروب الشمس، وقد تمشي في رحلتها في الرعي خمسة كيلومترات، ومثلهن أثناء العودة، حيث المسافات في الأماكن الصحراوية تختلف كثيرًا عن الحضر أين تتقارب فيها المسافات، فتذهب مثلاً الراعية إلى وادي الأربعين والمناطق الموجودة في سفوح الجبال مثل جبل موسى وجبل الصفصافة.

أما الأكثر إثارة على الإطلاق فهو نوع من الرعي تكون فيه الفتيات وحدهن تمامًا دون مرافقة الأهل، وهو رعي يسمى "المعذبة"، يعتمدن فيه على أنفسهن في إعداد الطعام والخبز، وتمتد فيه فترة الرعي إلى أربعة أو ستة أسابيع، يمول رحلاتهن أقاربهن من الذكور، الذين يعملون في السياحة أو في التجارة البسيطة، ويضعن لهن كل ما يحتجنه في الرحلة حتى السجائر (ينتشر التدخين وهو أمر عادي بين الراعيات)، في تلك الفترات يبحثن عن الأماكن المليئة بالعشب، ويلتقين في أماكن الرعي مع نظيراتهن. بعد مرور أسبوع، يأتي إليهن عادة أقاربهن من الرجال، من الآباء أو الإخوة، حاملين طعامًا من البيض أو الدجاج المحمر، تبعثه الأمهات والأخوات تعبيرًا عن اشتياقهن واعتزازهن بالراعيات.

"المعذبة"، هو نوع من الرعي تعتمد خلاله الراعيات البدويات على أنفسهن بشكل كامل تقريبًا ويبتعدن خلاله لفترة عن الأهل

أجر الراعية: ملابس جديدة ومشغولات وخدمات للأسرة

يكافىء المجتمع الراعية بصور مختلفة، يتنوع المقابل وتتعدد اعتباراته، فقد يكون على هيئة خدمات لها ولأسرتها، وأحياناً يكون على هيئة مشغولات خزرية تدفعها النسوة إلى أخ الراعية أو أبيها ليبيعها في السوق للسائحات ويعطي ثمنها للفتاة الراعية، وللبنت الراعية الحق في الاحتفاظ بأثمان هذه المنتجات المباعة عادة.

هذه هي الصورة للبدويات الراعيات، وهي مختلفة عن ما نعرفه في المجتمعات البدوية التي كان تحليل مكونها ينطلق عادة من "أبوية المجتمعات الحضرية"، بيد أن هناك نموذجًا للمرأة في المجتمعات البدوية مثل هذا الذي عرضناه، كراعية ومنتجة، يضعها في مكانة تكاد تكون أهم من الأب والابن، فالراعية تقوم بالخروج خارج البيت، في مجتمع خاص يحتويها هي ومثيلاتها من البنات.

وصحيح أنه يحظر على البدويات الراعيات عادة الاختلاط بالغرباء أو محادثتهن، ولكنهن في الصحراء الواسعة، يكون لهن الحق في اتخاذ قرارات الرعي والإقامة والسعي وتفاصيل الحياة الأخرى، وتكون الراعية الماهرة هي التي لا تشرد لها غنمًا، وتنعكس المهنة بكل مكوناتها على شخصية الفتاة فتحولها إلى شبه مستقلة ولو كانت ظاهريًا تحت رعاية أسرتها من الذكور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السياحة الإسرائيلية في مصر.. عبث بالتاريخ "على عين التاجر"

سيناء.. ذلك البؤس في الشمال