24-أبريل-2018

رابح خدوسي

هناك من تجرع مرارة قنابل الاستعمار الفرنسي في القرى الجزائرية، سنوات الثورة التحريرية 1954-1962، ليجد نفسه بعد الاستقلال مضغة سائغة للتجريح والتلفيق والتهميش والازدراء. رواية "الضحية" للأديب القدير رابح خدوسي تخوض في سرد حيوات متناقضة اجتماعيًا وتاريخيًا، على وقع شجون ماضٍ قريب، لأناس عاديين ضحت بهم الأقدار على نصب الأكاذيب والجشع والأنانية والخيبات.

هناك من تجرع مرارة قنابل الاستعمار الفرنسي في القرى الجزائرية، سنوات الثورة التحريرية، ليجد نفسه بعد الاستقلال مضغة سائغة للتلفيق والتهميش

اتخذ ابن بني مِيسرة (مواليد 1955) إحدى القرى التاريخية بالأطلس البليدي مكانًا تدور فيه أحداث مثيرة ومشوقة للقارئ. شخصيات محورية وأخرى ثانوية أثثت متن الرواية التي جاءت في لغة من السهل الممتنع، تذكرنا ببريق مؤلفات الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة، إذ أعطت لكل شخصية ريفية حقها الوافي في السرد والتمرد.

اقرأ/ي أيضًا: "السلْبُ" لرشيد بوجدرة.. محوُ ذاكرة الألوان

لكن يتساءل قارئ هذه الرواية عن هوية "الضحية". لكل حرب أبطالها وضحاياها، التي تعتبر معادلة حتمية لا مفر منها. نفس الألسن والحناجر التي بحَّت ونادت بدحر الاستعمار الفرنسي، تراها بعد تحرير الأرض، التي شهدت رجالًا مهروا الأرض دمًا، تنفث إشاعات قاتلة لكبرياء الإنسان، فما بالك بامرأة صماء وبكماء من جراء التعذيب ترد قرية وفي حضنها رضيع باكٍ؟ أول طعنة، لقبوها "بكوشة"، وثاني طعنة اتهموها بحمل طفل غير شرعي، اسمه سالم. تمر السنون وبكوشة تحتطب وتكابد معاناة الحياة لتربية ابنها، "اللقيط" في نظر سكان القرية التي احتضنتها على مضض، بعد خروجها من السجن العسكري الفرنسي.

اكتوت بنار حمئة، وعاشت على أمل ظهور الحقيقة واستعادة شرفها الذي اغتصبته الذاكرة الجماعية. تمكنت من ضمان تمدرس ابنها الذي بلغ المستوى الثانوي، وأصبح قدوةً لمحمود، ابن الشيخ يحي الذي لم يبرح فصول الرواية بمزحه تارة، وانفعاله تارة أخرى. بل حدث وأن استعار محمود كتبًا ودفاتر من سالم. احتار محمود من تكرار كلمة "الصفصافة" في دفاتر صاحبه، واعتقد للوهلة الأولى أنها اسم الثانوية التي يتمدرس فيها سالم بن بكوشة. شاءت الصدف أن يعتلي محمود صفصافة تطل على عين ماء تروي ظمأ سكان القرية صيف شتاء. انهمك محمود في تأمل المناظر الأخاذة للأطلس البليدي، وفلتةً يجد نفسه يسترق حديث عشيقين مألوفين على وقع رقرقة الماء الزلال، إذ لم يصدق رؤية سالم يواعد الحسناء صفية، ابنة بلقاسم بوعكاز، الذي سيدفع ثمن سذاجته لاحقًا. تعهد سالم بطلب صفية للزواج عن قريب، بالرغم من حالته الاجتماعية المزرية. وبمجرد اكتشاف سالم "عش الجاسوس" محمود، تعكرت صداقتهما أشهرًا عدة. وحده الدهر جبر الشرخ غير المتعمد.

الضحية : رواية

الأقدار مكتوبة في عنان السماء، نازلة بمقتضى قانون نيوتن للجاذبية. تظهر في الرواية شخصية بارزة، اسمه الحاج بوعلام، ابن " قَايْدْ" سابق (خائن في نظر الثوار لتمثيلها فرنسا الاستعمارية لدى الأهالي). يملك أراضي زراعية من تركة مصادرات إبان حقبة الاحتلال، له منزل في القرية وآخر في المدينة. جسّدت شخصية الحاج بوعلام، الذي لم يضع قدمًا في مكة، الجشع والقسوة والخيانة والخدر واحتقار الغير وسلبه. وعد والد صفية بقطعة أرض بالمدينة، واستدرجه إليها لحاجة في نفس يعقوب. خصّص الحاج بوعلام غرفة في منزله الفاخر بالمدينة لبلقاسم بوعكاز وزجته عزيزة وابنتهما صفية، ذات الجسد البض، الذي أسال مني الحاج بوعلام. هذا الأخير له ابن، اسمه بوزيد، من زوجته المتوفاة، وزوجة ثانية، اسمها جوهرة التي سرعان ما تخلص منها الحاج بوعلام وأهدى لها رحلة إلى فرنسا.

جاء موسم الحصاد، فكلف الحاح بوعلام بلقاسم بوعكاز ليدير شؤونه في الريف، وطلب منه أن يترك له الشابة صفية لتطبخ له، متحججًا: "إن بقائي وحيدًا في المنزل يسبب لي تعبًا في تحضير الأكل، وأنت تعرف حالة الكبار، لذلك أرجو أن تبقى صفية هنا إلى أن تعود زوجتي". قبل والدها ولم تمتلكه أي شكوك من الطيبة المزيفة لمضيفها، فاتجه بوعكاز إلى حقول سيده رفقة عزيزة، تاركًا ابنته فريسة ذئب لم يتوان عن جعلها حبلى في غضون أسابيع. أغدقها بأغلى الجواهر وأفخر الملابس. بعد نهاية عملية الحصاد، عاد والدها ليأخذها إلى القرية لتمضي أيام العيد مع عائلتها. حين دق بوعكاز الباب، كان الحاج الوهمي ملتصقًا بجسد صفية. ارتبك سيد المنزل، ولم يزل إلا بعدما أدرك أن والد صفية لم يع شيئًا. صُعقت صفية وهي تسمع الحاج بوعلام يعرض على والدها تزويجها بموحوش (محمد سعيد) اليتيم، ابن الزوج الأول لجوهرة، والذي اغتاله الحاج بوعلام طعنًا بالسكين ليستحوذ على أرملته الممتلئة الجسم، الفاتنة جوهرة.

نفس الألسن والحناجر التي بحَّت ونادت بدحر الاستعمار الفرنسي، تراها بعد تحرير الأرض تنفث إشاعات قاتلة لكبرياء الإنسان

لقد أخلف الحاج بوعلام بوعده ولم يتزوج صفية. هذه الأخيرة أصرت على العودة إلى القرية مع أبيها في نفس اليوم. انزوت صفية في غرفتها، وذبل جسدها، واشتدت الآلام مع مر الشهور. تألمت لحملها غير الشرعي وخيانتها لسالم. في ليلة باردة، وبينما الناس نيام، خرجت صفية من منزل والدها وتاهت في الأحراش، ورمت بنفسها من منحدر، منهية معاناتها النفسية والجسدية. حزن والداها ولم يبرحا البيت أسابيعَ. بعد عودة سالم ومحمود من النظام الدراسي الداخلي، أي بعد ثلاثة أشهر، وجدا ملامح القرية تغيرت واصفرت كأنها صحراء قاحلة. الحاح بوعلام عبث بالغابة كيفما شاء. لم تسلم حتى الصفصافة الباسقة الأغصان. كانت نذير شؤم تجسد بعدما علما بانتحار صفية، وحرق بوزيد كوخ بكوشة انتقامًا لتعرضه لضربة حجر منها قرب مكان دفن زوجها. غفا سالم برهةً، ثم هرول مسرعًا إلى المقبرة، بحثًا عن حبيبة زُفت إلى ديدان الأرض ونملها. ليت البكاء يحيي الأموات.

اقرأ/ي أيضًا: فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها

لكن الحاج بوعلام نال جزاءه واقتيد إلى السجن رفقة ابنه بوزيد بتهمة قتل أب موحوش (الذي ظن أن الثور هو من غرس قرنه في أحشاء أبيه، حسب نتائج التحقيق)، وقطع الأشجار بدون رخصة (بتواطؤ من حارس الغابات، السي توفيق)، واستغلال وسائل الدولة لأغراض شخصية: في صباح باكر، جرَّ بلقاسم بوعكاز جسمه المتآكل حزنًا على فقدان ابنته الوحيدة، متجهًا إلى مقر الدرك الوطني بالمدينة لإيداع شكوى ضد الحاج بوعلام بتهمة الاغتصاب والقتل. هناك يسلمه الدركي استدعاءً لسالم قصد تأدية الخدمة الوطنية، وهي الورقة التي فكت كرب سالم حيال جحيم حياته المجهولة نسبًا.

ولج سالم ووالدته بكوشة مكتب ضابط عسكري، ليطلب منه إعفاءه من أداء الخدمة العسكرية مراعاة لوضعية بكوشة. وكم كانت المفاجأة جميلة عندما نطق الضابط لخضر باسم أمه: فاطمة، ابنة الشيخ الطاهر. لم يتوقع سالم وأمه أن تفرج غبنهما صورة حائطية للضابط رفقة صديق السلاح، عامر، أب سالم وزوج فاطمة. جثم سالم على ركبتيه باكيًا حين علم أن أباه مات شهيدًا. عاتب أمه البكماء عن كتم ذلك السر الجلل. استرجعت فاطمة الذكريات الأليمة.

استضاف الضابط لخضر في بيته سالم وفاطمة، ليسرد مسار أبيه عامر، الذي التحق بصفوف جيش التحرير ولم يكمل بعد تذوق شهر عسله مع فاطمة، وهي التي اقترحت عليه مرافقته إلى الجبل كمجاهدة. كانت له سندًا خاصة بعد وفاة أمه حليمة والحنة في يديها، أيامًا فقط بعد زفاف ابنها عامر. الاستعمار الفرنسي كان قد سوى قرية حليمة بالأرض جراء القصف الجوي بالقنابل والنابالم. استذكر الضابط لخضر آخر الأوقات التي أمضاها مع عامر وهم محاصرين في مخبأ بالجبل. ارتؤوا إلى القفز من منحدر عال ينيف على "وادي الآخرة". وثب عشرة مجاهدون للنجاة من طوق التمشيط العسكري الفرنسي، عدا عامر وفاطمة، حفاظًا على الجنين، سالم! كان عامر يردد: "أقاتلُ العدو للانتقاص من ذخيرته، وهذا مفيد لثورتنا". استشهد عامر ودُفن عند سفح الجبل، وقُبض على فاطمة وأُلبست البدلة الزرقاء، وتعرضت إلى أبشع أساليب التعذيب التي أفقدتها نعمتَيْ السمع والكلام. بمساعدة الضابط لخضر، أعيد اكتشاف رفاة عامر من طرف فاطمة وحضي بإعادة دفن رسمية. لملم سالم جراحه ورمم ذاكرته، وتخلص من شبح العار الذي لازمه سنين طويلة، عكفت فيها الألسن على نعته بلقيط بكوشة.

تطرقت رواية "الضحية" إلى الخرافات والتطير التي تميز المجتمعات العربية. فهذا بلقاسم بوعكاز يتذرع إلى أحجار "ضريح سيدي رحمون"، طمعًا في إكرامية تقيه شر الحياة. ولكن هذا الطقس الأسطوري لم يمنع الحاج بوعلام من اغتصاب شرف ابنته صفية. وهذه بكوشة أثملت أحجار سفح الحبل بالشمع تطيرًا ببشرى قريبة يزيح همومها المتراكمة. كما أتحفنا الروائي والقاص رابح خدوسي ببعض الطرائف التي زادت النص عبقًا وتألقًا.

لم تخلُ الرواية من توابل التهكم والسخرية على ألسن شخوص مزاجيين، قنابل إشاعات موقوتة. تحول دكان بوزيد إلى مخبر تزييف الأقاويل وتهويل الأفعال ونتف الطير الأبابيل. حزنت القرية على قتل حارس الغابة حمار معمر، فتساءل بوزيد في دكانه الحاضرين، مستهزئًا: "أتحزنون لأجل حمار مات، ومئات الأشخاص تموت في فلسطين كل يوم والعرب صامتون؟".

ما يلفت الانتباه، تماسك حبكة النص السردي، وتسلسل الأحداث في مسارات خطية، وملتوية أحيانًا، مما يجبر القارئ على مواصلة قلب الصفحات بدافع التشويق الذي "غرسه" الكاتب رابح خدوسي بلمسات فنية تحكم فيها من البداية إلى النهاية.

هذا سالم يعبر عن تحقق المعجزة التي فكت غصته: "ما أسمى الشرف... أستطيع التحديق في كل وجه والتمعن في كل عين. أتحدى النظرات الشائكة برأس مرفوع، أتحدى الغربة التي أضنت وجودي. سيعلم الجميع، كل من في الوجود أن أبي موجود. لست لقيطًا. ما أعذب الشرف! وأمرّ الاهانة!".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "أكراد أسياد بلا جياد".. نداء الحرية

تنتهي الرواية بحدث سار لسالم، إذ قبل الضابط لخضر تزويجه ابنته سعاد سعيًا لضمد الجراح.

إذًا، رواية "الضحية" هي تفكيك للإنسان الهش نفسانيًا، وتجريد لصراعات المجتمع القروي الذي يجيد نسج الأوهام وتقديسها، ظاهرها عفوية وباطنها جهل وافتراء.

رواية "الضحية" هي تفكيك للإنسان الهش نفسانيًا، وتجريد لصراعات المجتمع القروي الذي يجيد نسج الأوهام وتقديسها

رابح خدوسي أديب جزائري زاخر بكتاباته المتنوعة والمتميزة، من إطارات التربية، عمل أستاذا ومفتشا للتربية، له روايتان "الضحية"، و"الغرباء". ومقالات أدبية وتربوية، واختص في كتابة قصص موجهة غالبًا لفئة الأطفال (أكثر من عشرين كتابًا). كما أثرى المبدع خدوسي، خلال أربع وثلاثين سنة من مسيرته الابتكارية، المجال الثقافي الجزائري بـ"موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين"، و"موسوعة الجزائر في الأمثال الشعبية"، و"انطباعات عائد من مدن الشمال"، و"المدرسة والإصلاح، مذكرات شاهد". أنشأ "دار الحضارة للنشر"، ونال العديد من الجوائز وحظي بتكريمات داخل الوطن وخارجه. ترجمتْ معظم أعماله إلى اللغة الفرنسية، وتشرفتُ مؤخرًا بترجمة روايته "الضحية" إلى اللغة الإنجليزية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلى "حيث لا دمشق هنا"

"عيّاش".. المجتمع المصريّ دون رتوش