14-أكتوبر-2020

ملصق دعائي من فترة الطوارئ في الهند (India today)

في حين أن "العديد من علماء الأنثروبولوجيا لا يزالون يؤيدون (صراحة أو ضمنًا) الفصل الزائف بين البنية والحدث" (ص 5)، ويرفضون التفاعل مع أحداث العنف التاريخية، فإن إيما تارلو في "ذكريات مقلقة.. سرديات الطوارئ في دلهي" (University of California Press, 2003)، تقدم منظورًا مختلفًا، مجادلة أن الحدث والبنية ليسا مفاهيم متناقضة.

يركز الكتاب على الحياة اليومية للفقراء في فترة الطوارئ في الهند 1975-1977، وهي فترة شهدت حملات واسعة من هدم العشوائيات والتحكم بالخصوبة وفرض "العقم"

بالتركيز على الحياة اليومية للفقراء في فترة الطوارئ في الهند 1975-1977، وهي فترة شهدت حملات واسعة من هدم العشوائيات والتحكم بالخصوبة وفرض "العقم" من خلال عمليات جراحية إجبارية على أكثر من 160 ألف شخص، تجادل تارلو ضد تبجيل الأنثروبولوجيا لـ"الحاضر الإثنوغرافي" وضد "الأنثروبولوجيا غير التاريخية". عبر "إثنوغرافيا حدث حاسم" (Ethnography of a critical event)، يسعى كتابها إلى فهم ما تكشفه هذه الفترة التاريخية المعقدة عن "الحياة اليومية لفقراء الحضر في عاصمة الهند" (ص 4-5) مع التركيز على تجربة "ويلكم"؛ مستعمرة لإعادة توطين الأشخاص الذين هُدمت منازلهم من قبل هيئة تنمية دلهي (DDA).

اقرأ/ي أيضًا: "دموع بيضاء ندوب سمراء" لروبي حمد.. كيف خانت النسوية البيضاء النساء الملونات؟

على عكس الافتراض الكلاسيكي، لا ترى تارلو أن البنية الاجتماعية هي الشاغل الوحيد للأنثروبولوجيا، كما لا ترى أن البينة هي مسار مستقر تقاطعه لحظات عنف مؤقتة غير عادية أو استثنائية. لكنها تتبنى وجهة نظر فريدة بأن لحظات العنف ولحظات الهدوء دائما ما كانتا في علاقة ديناميكية وجدلية. فيما توضح مستشهدة بمصطلح فينا داس "Critical events" "الأحداث الحرجة" (1995 ,Oxford University Press) والعديد من الأدلة من تاريخ بعض البلدان الآسيوية، كيف كانت هذه الديناميكية حاسمة في تشكيل وإعادة تشكيل ما يسمى بالبنية.

تشرح تارلو أن "الأحداث الحرجة" ليست مجرد لحظات عابرة استثنائية تجذب انتباه الصحفيين وكتاب الأدب، لكنها يجب أن تكون فرصة لعلماء الأنثروبولوجيا أيضًا للكشف عن العلاقة المعقدة بين الناس العاديين ومؤسسات الدولة والمسؤولين البيروقراطيين والمجتمع والأسرة، وهي مهمة لا يبدو أن الإثنوغرافيا التقليدية قادرة على إنجازها.

 في سياق حالة الطوارئ في الهند على سبيل المثال، على الرغم من خصوصيتها كلحظة تاريخية، فهي توفر القدرة على فهم البنى الاجتماعية والسياسية للحياة اليومية. حيث يمكن أن تكون دراسة الممارسات البيروقراطية اليومية أساسًا لما تسميه تارلو "إثنوغرافيا للدولة"، من خلال فهم تأثير الدولة القومية الحديثة، والتصورات التي يحملها صانعو القرار عن الحداثة والتنمية على الحياة اليومية للناس العاديين.

في الجزء الأول، يقدم الكتاب نبذة تاريخية عن حالة الطوارئ، والروايات التي تم تداولها حول تلك الفترة، سواء من خلال الوثائق الرسمية، والدعاية السياسية، والصحافة الموالية للحكومة، وبعض الكتب. مع خطة صارمة تضمنت التحكم في الخصوبة والإنجاب وعمليات واسعة من فرض العقم على الرجال والهدم الجماعي للعشوائيات، تم تمثيل حالة الطوارئ كضرورة سياسية للتنمية والحداثة والرفاهية والمستقبل الواعد للأمة والدولة والأفراد. وتم الإعلان عن التعقيم باعتباره الأداة التي يمكن من خلالها لكل هندي، غني أو فقير، أن يساهم في مستقبل أفضل وأكثر ازدهارًا. لكن على الأرض، لم يكن الأمر طوعيًا، حيث اضطر بعض الفقراء، الذين هُدمت منازلهم، إلى الاختيار بين التهجير أو الإنجاب، لأن تقديم شهادة بأنهم أجروا عملية التعقيم كانت متطلبًا من أجل الحصول على مسكن بديل في أراضي الدولة.

في وقت لاحق، بعد أن خسرت إنديرا غاندي الانتخابات في عام 1977، ظهرت سردية جديدة، وتم تمثيل حالة الطوارئ كحدث تاريخي مخجل، وعنف "جامح غير مقيد". من خلال تحليل الذكريات البيروقراطية، يُظهر الكتاب أن حالة الطوارئ لم تكن فترة جنون غير عقلانية، لكنها كانت ممارسات عنيفة مخطط لها بشكل منهجي. يتتبع هذا الجزء أيضًا كيف يتم تذكر قصص الطوارئ ونسيانها في تخطيط المدينة، وأسماء الشوارع والمتاحف والآثار.

في السرديتين الرئيسيتين للطوارئ كخطة تنمية، أو كمرحلة جنون مظلمة استثنائية في تاريخ الهند، يتم تقديم القصص بشكل متماسك. لكن في قلب هذا التناسق المحكم، تكمن بالنسبة لتارلو، سياسات "الذاكرة العامة" و"النسيان العام".

هنا، يبدو أن نقد الكتاب للانقسام الزائف بين الحدث والبنية كان نقدًا سياسيًا وليس نقدًا منهجيًا أو إبستمولوجيًا فقط. فعلى الرغم من أن حالة الطوارئ كانت تمثل لحظة خجل وطني، ووصمة عار على التاريخ الديمقراطي للهند، فقد سعت هذه الروايات الرسمية إلى التأكيد على أن هذا الحدث العنيف كان استثناءً منفصلًا عن البنية المستقرة للدولة الهندية الديمقراطية. وهكذا "تم بناء حالة الطوارئ كلحظة للنسيان أكثر من كونها لحظة للتذكر" (ص 97).

نظرًا لأن "تاريخ الهند المستقلة، مثل كل تاريخ، يمكن قراءته كتاريخ للتذكر والنسيان" (ص 21) كان من المهم من منظور أنثروبولوجي ليس فقط معرفة ما تم تذكره أو نسيانه ولكن أيضًا الدافع وراء سياسة "النسيان العام".

هنا، تقترح تارلو أن هذه الأحداث الحرجة تميل إلى أن يتم تذكرها على أنها لحظات جنون استثنائية، كطريقة للتأكيد على أنها لا تتماشى مع السردية القومية عن التاريخ كمسار تقدمي وعقلاني.

لاحقًا، يعرض الكتاب "ويلكم" كمنطقة رمادية، من خلال الذكريات البيروقراطية وروايات السكان، حيث تفشل السرديات الرئيسية في فهم ما حدث. في حين أن الثنائيات مثل "المجرم/ الضحية" "الرسمي/ غير الرسمي" و "القانوني/ غير القانوني" لم تكن واضحة.

 إن بيروقراطية الدولة، من خلال نظام معقد من المخاوف وعدم اليقين والفوائد والمكافآت، استطاعت خلق مساحة للتلاعب والاستغلال. حيث تحول العديد من الضحايا إلى عملاء و "انتهازيين براغماتيين". وحلت استراتيجيات البقاء البراغماتية محل المقاومة. (ص 178 - 200). بعد أن حاول عدد كبير من الضحايا إجبار آخرين على التعقيم من أجل مصالح معينة.

كانت تفسيرات الضحايا لما حدث رمادية أيضًا، حيث كانوا يميلون إلى إلقاء اللوم على المسؤولين البيروقراطيين أكثر من نظام إنديرا غاندي. كانت سياسات الدولة رمادية أيضًا، وغير متسقة، حيث تأثرت بمصالح السياسيين وعوامل أخرى. هنا، تقترح تارلو فهم ما تصفه بأنه "بنية الحوافز/الدوافع"  التي تساهم في خلق هذا الفضاء غير الأخلاقي، بدلاً من تمسك الأنثربولوجيين بتصورهم الرومانسي عن "الضحية البريئة" أو تمسكهم بمفاهيم مثل "أخلاق التابع" subaltern morality  (ص 200-203).

من الناحية المنهجية، تقترح المؤلفة تجديدًا في رؤية علماء الأنثروبولوجيا للتاريخ والعنف، مشيرة إلى أن الأهمية الأنثروبولوجية للوثائق الرسمية لا تكمن فقط في محتواها، ولكن أيضًا في الظروف المحيطة بإنتاجها وتداولها وتفسيرها. تنتقد "الإثنوغرافيا التقليدية" لعدم قدرتها على فهم تعقيد "اللحظات الحرجة"، لكنها في نفس الوقت تعيد تفعيل بعض الأدوات الإثنوغرافية الكلاسيكية. على سبيل المثال، تؤكد أن الملاحظة البصرية لا تزال مفيدة على الرغم من تحول الإثنوغرافيا الحديثة من المرئي إلى اللفظي، ومن مراقبة الناس إلى الاستماع إليهم. كما اعترفت بأنها، بصفتها مؤلفة، قامت بتنسيق السرد الجماعي كما ظهر في الكتاب، وهو أمر لا تعتبره بالضرورة شيئًا سلبيًا.

تتفق حجة تارلو مع مجموعة من الأدبيات التي تناولت قوانين الطوارئ، وتاريخ "حالة الاستثناء" أولًا كمساحات تبرر خروجًا مؤقتًا عن القيم القانونية والأخلاقية، وهو ما كان واضحًا في خطاب حكومة إنديرا غاندي والبيروقراطيين الذين برروا الخطوة على أنها ضرورة وطنية. ثم من خلال الاعتراف بالحدث ووصمه بـ "العار الاستثنائي" كوسيلة للتستر والنسيان.

اقرأ/ي أيضًا: بورديو "عن الدولة".. التفكير في العصي على التفكير

يمكن ربط الكتاب أيضًا بالعديد من الإسهامات النظرية التي أكدت أن تصورات الدولة وافتراضاتها الأساسية غالبًا ما تتجسد في الحياة اليومية للبيروقراطيين، وفي استجابة الناس لإجراءات القواعد والقوانين، على غرار مساهمة بيار بورديو "عن الدولة" (المركز العربي للأبحاث، 2016).

على عكس الافتراض الكلاسيكي، لا ترى تارلو أن البنية الاجتماعية هي الشاغل الوحيد للأنثروبولوجيا، كما لا ترى أن البينة هي مسار مستقر تقاطعه لحظات عنف مؤقتة غير عادية أو استثنائية

يكتسب الكتاب أهمية منهجية على ثلاثة مستويات؛ أولاً لأنه يجسد قدرة الأنثروبولوجيا على دراسة "الأحداث العنيفة" و"لحظات الاضطراب" كطريقة لفهم المجتمع في "لحظات الهدوء". ثانيًا، كدراسة إثنوغرافية لحدث تاريخي، مزجت بين الوثائق الرسمية وروايات الموظفين البيروقراطيين والضحايا. ثالثًا، كمحاولة لكتابة "إثنوغرافيا للدولة" من خلال معالجة سياسات التذكر والنسيان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 ​غونتر غراس وبيير بورديو.. أسئلة الأفواه الكبيرة