06-يناير-2025
غادر غالبية  سكان غزة مدينتهم جراء العدوان الإسرائيلي (رويترز)

غادر غالبية سكان غزة مدينتهم جراء العدوان الإسرائيلي (رويترز)

لا تفارق الذكريات أهالي غزة عن حياتهم قبل أن تبدأ إسرائيل حربها الشاملة على القطاع، التي أدت إلى تدميره، وأمعنت في ممارسة إبادتها الجماعية المستمرة. فالذكريات هي وسيلتهم الوحيدة للحفاظ على ارتباطهم بمدنهم وبلداتهم والتمسك بحريتهم.

تتذكر الكاتبة وعضوة مشروع "نحن لسنا أرقامًا"، هدى سكيك، الأيام التي عاشتها في مدينة غزة، التي كانت تنبض بالحياة والجمال. وصراعها الحالي مع شعورها العميق بالتشرد، الذي أصبح الآن جزءًا لا يتجزأ من هويتها، كما هو الحال بالنسبة لجميع الفلسطينيين الذين طُردوا من منازلهم في شمال غزة نحو جنوبه.

تعتبر سكيك أن التهجير ليس مجرد "مسألة جغرافية". فألم الفراق يتعمق عندما تفكر في أصدقائها وأقاربها الذين ما زالوا في شمال غزة

وفي مقال على موقع "ميدل إيست آي"، تقول سكيك إن جذورها تعود إلى شمال غزة، حيث نشأت في حي الرمال في قلب مدينة غزة. كان صدى الضحك يتردد في شوارعها المزدحمة حين كان الطلاب يتجهون إلى مدارسهم وجامعاتهم، وكانت أصوات الآذان تملأ سماءها. وكانت التحيات الحارة المتبادلة مع الجيران تشكل نسيج حياتها اليومية في غزة.

تعبر سكيك عن شعورها بالفقدان للحي الذي سكنته، حيث كانت رائحة الخبز الطازج والمعجنات تنبعث من المخابز المحلية، وكانت الروائح الشهية للفلافل والحمص والكنافة تملأ الهواء من المحلات التجارية القريبة. وإلى جانب الروائح العطرة للقهوة والمكسرات والتوابل، والروائح النفاذة للمخللات والزيتون والفلفل الأحمر، كان كل هذا يخلق جوًا رائعًا.

تتذكر الفساتين الجميلة المعروضة في واجهات المحال التجارية. وفي الليل، كانت الشوارع ساحرة ومذهلة، مضاءة بأضواء ساطعة. لكن اليوم، أصبحت كل تلك الذكريات ممزوجة بألم مرير، حيث تحول الحي الذي عاشت فيه سابقًا إلى رماد وظلام.

بينما هي تجلس في خيمة بخانيونس جنوب قطاع غزة، عبرت عن شعورها بأن المسافة بينها وبين منزلها في غزة هوة لا يمكن التغلب عليها، وهذه الهوة تزداد عمقًا مع كل يوم يمر. وتشير سكيك إلى أن إسرائيل قصفت منزلها في شباط/فبراير، مما أجبر عائلتها على الفرار جنوبًا. وتقول: "شوقي للعودة إلى المنزل يثقل كاهلي بشدة".

وتضيف: "ألم الفراق هنا، في شوارع التهجير، أواجه الطبيعة غير الملموسة للوطن، مكان لا يحتضن الذكريات فقط، بل يحمل أيضًا شعورًا عميقًا بالانتماء والدفء. الوطن هو مكان بُني وأُسس بالحب، وليس بالحجارة".

وتعتبر سكيك أن التهجير ليس مجرد "مسألة جغرافية". فألم الفراق يتعمق عندما تفكر في أصدقائها وأقاربها الذين ما زالوا في شمال غزة.
تفتقد الأمسيات التي قضتها مع أحبتها مجتمعين، وتقول: "النقاشات التي كانت تتدفق مثل أنهار من الأفكار، الأحاديث العميقة التي بدت وكأنها تمتد إلى اللانهاية، والراحة التي وجدناها في التجارب المشتركة. تلك اللحظات الآن أصبحت أشباحًا، تذكيرًا بالروابط التي قطعتها الظروف الخارجة عن إرادتنا".

تجد الكاتبة الفلسطينية العزاء في القدرة على التواصل مع أحبتها وسماع أصواتهم عبر الهاتف. لكنها ترى أن هذه التفاعلات ليست سوى ظل للدفء الذي يمنحه العناق الحقيقي. إذ لا يمكن للمحادثات الافتراضية أن تعوض الضحك الذي كان يتردد صداه في المساحات المشتركة، أو الراحة التي تجدها في لمسة بسيطة. والشوق للحضور الجسدي عميق. فالأصوات التي كانت تملأ شوارع غزة موجودة الآن فقط في الذاكرة، مثل "لحن شجي يلوح في الأفق".

تشير سكيك إلى أنها في كل مرة تتواصل فيها مع أصدقائها وعائلتها الذين لا يزالون في شمال غزة، يصفون لها الوضع الكارثي، حيث تغذي قسوة الإبادة الجوع والمرض والدمار. وتلفت إلى أنها تتجنب عمدًا الحديث عن الطعام، خاصة الدجاج والخضروات والفواكه والبسكويت، لأنها أصبحت نادرة بسبب الحصار الإسرائيلي، وإن توفرت، فهي بعيدة المنال ماديًا.

وفي كل مرة تتحدث فيها مع أهلها، ينهي أحدهم المحادثة قائلًا: "ستعودين، إن شاء الله. لا نستطيع الانتظار ليوم اجتماعنا". تسأل سكيك صديقتها سارة كيف تشغل وقتها وسط هذا الجحيم. تجيبها: "أحاول شغل وقتي بقراءة الكتب والقرآن، لكن في كل مرة أسمع فيها صوت قنبلة أو صاروخ، يغمرني شعور بالخوف. لقد عانيت من هذا الشعور منذ أكثر من عام الآن".

تتركها هذه المحادثة قلقة وعاجزة، لكنها تحثها على التحلي بالقوة. تجيبها صديقتها في رسائلها الصوتية: "أفتقدك كثيرًا يا عزيزتي هدى. لا أستطيع الانتظار لرؤيتك مرة أخرى والتحدث بعمق. أنظر كثيرًا إلى صورنا، وأتذكر الأيام الجميلة التي قضيناها معًا في الجامعة. ستعودين، إن شاء الله". تعترف سكيك أن كلمات صديقتها هي مصدر قوة لها، تغذي قدرتها على التحمل.

تشير الكاتبة الفلسطينية إلى أنه لسنوات عديدة، وبسبب القيود الإسرائيلية، لم تتمكن من زيارة القدس أو أي مدينة فلسطينية محتلة أخرى. أما اليوم، فلا يُسمح لها حتى بزيارة أحيائها المحببة في شمال غزة. فالمهجرون إلى جنوب القطاع مقطوعون عن ماضيهم وعن مستقبلهم المحتمل، بينما يعمل معبر "نتساريم" الذي فرضه الاحتلال على تعميق الفصل.

بالنسبة لسكيك، الحواجز التي تقيدها ليست فقط مادية، بل هناك أيضًا الحواجز غير المرئية للاحتلال والحصار. تجد نفسها تتساءل باستمرار عن الحياة خارج غزة، خارج معبر رفح. هل يشاركنا الناس على الجانب الآخر أحلامنا ومعاناتنا؟ أم أنهم يعيشون في واقع لا تمسه الظلال التي تخيم على حياتنا اليومية؟

تعترف سكيك أنها تواجه تناقضًا صارخًا بين حياتها في غزة، المليئة بعدم اليقين والقيود، وحياة الآخرين الذين يتمتعون بحريات لا تستطيع سوى الحلم بها.

التهجير بالنسبة لسكيك هو عبء، لكنه أيضًا مصدر إلهام. وألم الفراق هو ما يغذي كتاباتها ويدفعها لالتقاط جوهر الوطن ولتخليد الذكريات التي تشكل وجودها. كما يقول أستاذها السابق في الجامعة الإسلامية في غزة، رفعت العرعير، الذي استشهد في غارة إسرائيلية في أواخر عام 2023: "على الرغم من أن الأرض محتلة ماديًا، إلا أنها لا تزال تعيش في ذاكرتنا وقلوبنا".

تختم سكيك مقالها بالقول: "كلماته تُشعرنا بعمق في غزة. الشوق للوطن يربطنا بماضينا، ويجعلنا متجذرين في الأماكن والأشخاص الذين شكلوا هويتنا. رغم أن الجدران قد تقيدنا، إلا أن أرواحنا لا تزال حرة. أتمسك بالأمل في أن تنهار هذه الحواجز يومًا ما، مما يسمح لنا بالسير بحرية مرة أخرى في شوارع غزة وما وراءها؛ لنعانق أصدقاءنا ونقطع الطرق المؤدية إلى القدس. حتى ذلك الحين، سأحتفظ بذكرياتي قريبًا من قلبي".