07-ديسمبر-2021

قيس سعيد (FT)

ألتراصوت- فريق الترجمة 

كتب روجر ماكشين، محرر شؤون الشرق الأوسط في مجلة "ذا إيكونوميست"


بعد بضعة أيام فقط من إقالته رئيس الوزراء، وإعلانه تجميد البرلمان، وتنصيبه نفسه على رأس السلطات التنفيذية، في يوليو/تموز 2021، دعا الرئيس قيس سعيّد عددًا من مراسلي نيويورك تايمز، الأمريكية، ليحدّثهم عن وقائع ما جرى. في تلك اللحظة، كان قطاع واسع من التونسيين يحاولون التواجد في الشوارع والميادين والتوجّه إلى محيط البرلمان، واصفين إجراءات سعيّد بالانقلاب.

قصّة سعيّد، فبدأت في انتخابات عام 2019، حين صوّت له التونسيون ليكون رئيسًا للبلاد، حيث رأى الناس في الأستاذ الجامعي المختص بالقانون الدستوري، وجهًا جديدًا يقدم وعدًا بالإصلاح والرخاء والبناء على المنجز الديمقراطي الذي حققه الناس بدمائهم وتضحياتهم

وفي محاولته لتصدير صورة عن نفسه بأنّه ليس الدكتاتور الجديد للبلاد، قال سعيّد للمراسلين الأجانب الجالسين من حوله جلسة الطالب مع أستاذه، بأنه لا يفكّر، وهو على أبواب السبعين، أن يبدأ مسيرة مهنية جديدة كديكتاتور، مقتبسًا ذلك عن شارل ديغول، الذي قالها إبان أزمة عام 1958 في فرنسا. 

غير أن سعيّد لا بدّ وقد استحسن هذا الاقتباس من أنّه يرى في نفسه شيئًا من ديغول. ففي العام 1958، شهدت فرنسا مرحلة حساسة للغاية كان عنوانها أزمة سياسيّة واضطرابات واسعة، جعلت البلاد على شفير حرب أهليّة، وطلب من ديغول وقتها أن يتدخّل لإصلاح المؤسسات السياسية قبل فوات الأوان.

تدخّل ديغول، ونشأت الجمهورية الخامسة، على يدّ رئيس حكومة وحدة وطنية، يتمتع بالقوّة والصلاحيات الاستثنائية، وكان أوّل من انتخب لقيادة البلاد ويأخذ بيدها إلى برّ الأمان، باتفاق واسع من معظم القوى المدنية والعسكرية في فرنسا حينها.

أما قصّة سعيّد، فبدأت في انتخابات عام 2019، حين صوّت له التونسيون ليكون رئيسًا للبلاد، حيث رأى الناس في الأستاذ الجامعي المختص بالقانون الدستوري، وجهًا جديدًا يقدم وعدًا بالإصلاح والرخاء والبناء على المنجز الديمقراطي الذي حققه الناس بدمائهم وتضحياتهم، في قصّة نجاح نسبيّ نادرة في مشهد الربيع العربي منذ العام 2011.

إلا أن عقدًا من الديمقراطية الناشئة لم تغيّر أوضاع التونسيين إلى الأفضل، وبات ثمّة شعور بحصول ردّة سياسيّة أو كفر بالسياسة وألاعيبها التي أسقطت من اعتبارها مصلحة التونسيين وتنكبت عن آمالهم بالعدالة والحرية والعيش الكريم. 

دخول سعيّد زاد المشهد إرباكًا وتعقيدًا، بعد انتصار وصفه الرئيس بأنه "ثورة جديدة"، واضطر التونسيون للانتظار حتى انتصف العام 2021، ليروا المعنى الحقيقي لهذه "الثورة". بعد شهرين من انقلاب سعيّد وتوليه السلطات التنفيذية، قال إنه سيحكم بموجب مرسوم، فوق دستوري، بمعنى أنه سيحكم وفق ـتدابير استثنائية، تقضي بإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وتولّيه إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بما أسماها "الإصلاحات السياسية"، التي ستفرز نظامًا رئاسيًا "قويًا". وقد حذّر العديد من الفقهاء القانونيين من مغبّة أن يعمد سعيّد إلى تركيز كل ذلك القدر من السلطات العمومية في يد شخص واحد. أما بقية التونسيين، فقد انطفأ كثير من ألق السياسة في نظرهم، وبات تركيزهم منصبًا على المطالبة بالوظائف وتحسين الظروف المعيشية، في ظل ظروف اقتصادية صعبة تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-19.

صحيحٌ أن تحركات سعيّد، في نظر أكثر المتفائلين بها، قد تكون كفيلة بإنهاء حالة الاستعصاء السياسي التي ـأحبطت إحراز أي تقدّم على صعيد تمكين التحوّل الديمقراطي والإنعاش الاقتصادي المأمول للتونسيين، لاسيما مع تراجع شعبية النظام الهجين المقسم بين الرئاسة والبرلمان، والمعطّل لتحقيق أي تقدّم ناجز، بالنظر إلى عمق التشظّي بين الفرقاء السياسيين، والذي جعل العديد يتطلعون بعين الأمل إلى نظام رئاسي قويّ قادر على فكّ بعض العقد والدفع قدمًا بالإصلاحات المنشودة.

 قصّة سعيّد، فبدأت في انتخابات عام 2019، حين صوّت له التونسيون ليكون رئيسًا للبلاد، حيث رأى الناس في الأستاذ الجامعي المختص بالقانون الدستوري، وجهًا جديدًا يقدم وعدًا بالإصلاح والرخاء والبناء على المنجز الديمقراطي الذي حققه الناس بدمائهم وتضحياتهم

لكنّ سعيّد رجل بلا خبرة اقتصادية ولا تنمويّة تذكر، وبالنظر إلى الخارطة السياسية الحالية، فإن ما قام به الرجل سيضع تونس على درب أكثر وعورة وخطورة من المرحلة السابقة للانقلاب. ولئن كان سعيّد، على سبيل الافتراض والجدل، بعيدًا عن الفساد وذا سمعة أكثر نزاهة من سواه، فلنتصوّر مثلًا ما الذي ينتظر الديمقراطية التونسية، لو وصلت إلى سدّة الحكم الرئاسي شخصية مثل عبير موسي، بشعبويتها وديماغوجيتها، وخطابها المرتكز على نظريات المؤامرة وتشريخ المجتمع. فلا أمل في ديمقراطية تونسية سليمة لو كانت الرئاسة من نصيب شخصية مثلها. ولو صدقنا ادعاءات سعيّد بأنه لا يسعى لأن يكون ديكتاتورًا، فإنه بإجراءاته الأخيرة، يمهّد الطريق لغيره من الدكتاتوريين المحتملين، للسيطرة على المشهد السياسي في تونس.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف تفاعل المختصّون في القانون الدستوري مع الإجراءات الأخيرة لقيس سعيّد؟

توجه نحو تعليق الدستور وتغيير النظام السياسي عبر استفتاء.. تخوّف وانتقادات