22-نوفمبر-2020

لوحة لـ هيلدا حياري/ الأردن

كنت في الثامنة من عمري تقريبًا، أتأمل الحمرة الفاقعة على شفتيّ بفضول مشاكس، أمام مرآة ملصقة على حائط في السكن الجامعي للبنات، خلفي البنت صاحبة الغرفة تبتسم وتقول لصاحبتها: دون المكياج أجمل! هكذا تفقد براءتها. خطر لي لحظتها أن هذه ستكون مبالغة أخرى من مبالغات الكبار، وجهي بالمكياج يبدو أجمل حتمًا، لكن هل يمكن حقًا أن أفكر مثلها يومًا ما؟ أن يكون هنالك ما لست قادرة على إدراكه الآن وسأعرفه عندما أكبر؟

كنا نقيم في الأردن وقتها، وكانت طالبات الجامعة العمانيات يعرفن أمي ويزرنها في البيت، وبحكم افتقادهن لجو العائلة توطدت بيني وبينهن صداقة مرحة، فكنت أقضي نهارات طويلة برفقتهن، وأبيت في السكن الجامعي أحيانًا. كانت الموسيقى تملأ كل زاوية في المدينة، الكافتيريات، والدكاكين، وسيارات التاكسي، والشرفات المضيئة، ولا يمر يوم دون أغنية عبد المجيد عبد الله "يا طيب القلب"، تتسلل من شريط كاسيت ما، وتملأ الشوارع المحفوفة بالزيتون، برائحة الخليج البعيد.  

 في الليالي التي كنت أقضيها في سكن الطالبات، أجلس على طاولة المكتب المجاورة للنافذة، وأصوب ضوء الليزر الأحمر الدقيق –الذي بدأ يُلحق بالميداليات والأقلام وقتها- على نوافذ البناية المقابلة، وحين يخرج أحد السكان من الشرفة متلفتًا لا يجدني، كان يكفي أن أعيد ظهري للوراء قليلًا لأختفي عن نظره تمامًا. منذ تلك الأيام أحببت فكرة السفر للدراسة، غرفة مستقلة وكتب للمطالعة، ونزهات يومية إلى المطاعم، والأهم من هذا، لا آباء ولا أمهات يحددون مواعيد النوم والاستيقاظ، ويجبروننا على طعام لا نحبه.

ثمة بقعة حمراء باهتة بين مفاصل أصابع يدي اليمنى، أذكر أنها ظهرت فجأة، ومع أن وجودها بحد ذاته لم يكن مزعجًا إلا أن عدم معرفة صفتها أقلقني، هي ليست شامة أو كدمة، لم يسبب ظهورها أي حادث، كأنما كانت إشارة إلى ما سيحدث دائمًا دون مبرر واضح، وسيبقى في محله مثل بقعة غامضة على ظاهر اليد. ذات مساء كنت برفقة زميلاتي في مطبخ السكن الجامعي بالكويت، كنت قد أدركت حلمي البعيد، وأصبحت طالبة جامعية مبتعثة، تقضي النهار بين محاضرات علم النفس وأندية القراءة، وتحلم بمستقبل لامع. على سبيل التغيير كنا نحضر وجبة عشاء سوية، ولقلة اهتمامي بالطبخ لم يكن دوري يتعدى تقليب البطاطا في الزيت، لأعود بعدها للوقوف على النافذة. كانت رفيقتي تمازحني حين سحبت يدي من على إطار النافذة، لكن طرفه المعدني الناتئ اخترق جلد ذراعي اليمنى، قالت لي: ليس جرحًا غائرًا، سيختفي قريبًا بلا شك، لكنني أحسستُ بأن ذلك لن يحدث، وأن جسدي بات يُعرف الآن بعلامة إضافية.

في بداية هذا العام بدأت أنتبه لشعيرات بيضاء عديدة في رأسي، ومرة أخرى لم يكن الأمر مزعجًا بحد ذاته، كان الهاجس فقط أن هنالك ما يتبدل دون عودة في الوقت الذي لم أصل فيه إلى ذروة حياتي بعد. ما زالت مسودات كتاباتي الناقصة تملأ أجزاء مختلفة من ذاكرة الكترونية تتوزع على الحاسب والهاتف وأجهزة الهارد ديسك. لا أكتب كثيرًا، لأنني أخاف على القصيدة العائمة في رأسي من أن تبدو بلا ملامح واضحة على الورق. علاقتي بالكتابة تشبه قصيدة مارك ستراند "المحافظة على كمال الأشياء": في الحقل أنا غياب الحقل. ستراند كشاعر يبرر الغياب ويفهم كيف يمكن له أن يكون سعيًا لا شعوريًا للإبقاء على الكمال، في حين لا يتردد إدلر في تسمية الحالة ذاتها بالعصاب، وصفٌ قاسٍ ومحدد للغاية، لكنه محرض على الرغبة في التحرر.

رغبة تشبه رجفة الفتى في "جبل الرب" لآري دي لوكا، حين يحتفظ بخشبة مرتدة (بومرانغ) تحت قميصه، ويحلم كل يوم باليوم الذي سيطلقها فيه من أعلى قمة للجبل، اليوم الذي ستشتد فيه ذراعه وستكف يداه عن الارتجاف، حينها ستهب ريح مواتية، وستكف الحجارة التي تقرقع في صدره عن إحداث الضجيج. ثمة سحرٌ يتعلق بالتوقيت، كأن الوقت يدين لنا بقمةٍ ما، قمة نستحق الوصول إليها بعد كل هذا التعب، وإلا فلا طائل من إعادة دفع الصخرة باتجاه أعلى التل، بعد كل سقوط مدوٍ.

يثيرني التفكير في الحافز الداخلي الذي يشدني إلى خيارات بعينها دون أن أعي أنني أنساق إليها تلقائيًا؛ عناوين الكتب والنصوص التي تضم مفردات "الوحدة/مطر/ منفى/.. إلخ، قمصان بيضاء واسعة، صور راقصات الباليه، أزهار البيوني، الوجوه ذات الملامح الدقيقة، والأصوات ذات المساحة المحدودة.

قبل أسابيع وقعت عيني على عنوان "امرأة في الثلاثين" لبلزاك على رف علوي في متجر الكتب، كانت التفاتة مباغتة، من ذلك النوع الذي يصاحبه شعورًا بالتماهي التام، رغم أني رأيت العنوان من قبل. أقرر بأني سأشتري الكتاب وسأقرؤه قبل ديسمبر، قبل أن أصبح امرأة في الثلاثين. بقدر ما يبدو قرارًا تافهًا، شعرت بأنه فعل إلزامي، فكرة قهرية مثل محاولة المشي على قطع الاسمنت الوردية في الرصيف.

أتصفح مقالًا عن مشكلات ضعف التركيز، يقول بأن كفاءة الدماغ تبدأ بالتباطؤ التدريجي بعد الخامسة والعشرين، ينبغي العمل على إبطاء هذا التراجع عبر التمارين العقلية، هكذا يوصي الكاتب، وأتذكر دعاية صابون قديمة كنت أستمتع بالتندر عليها، تقول فيها الممثلة: "بعمر السطاعش بدك عمر العشرين، بعمر العشرين بيصير بدك عمر الخمسة وعشرين، وقربوا التلاتين، ويا ويلي من التلاتين! وفجأة صار بدك الوقت يرجع لورا". أستطيع تكرار العبارة بلهجة لبنانية جيدة، وبنبرة متقنة. ذهني الشارد يخذلني في استدعاء كل شيء تقريبًا إلا النُكات، شهيتي للضحك لا تخفت، وآلية الدفاع اللاشعورية خاصتي تتطور اطرادًا مع التقدم في السنوات. المرأة في سياق رأسمالي، منتج آخر يفقد بريقه بمرور الوقت، لذا تخفي النساء أعمارهن، يفرحن حين يخمن أحدهم بأنهن أصغر عمرًا مما هن عليه في الواقع، ومع أني أعرف بأن ترسبات كهذه مازالت تشكل طبقة من لاوعيي، إلا أن هذا ليس هاجسي، الهاجس هو الحياة التي لن يتسع لها الزمن، والذراعان النحيفتان اللتان لا تكتسبان أي صلابة ملحوظة بمرور الوقت.

من شرفة شقتي في الطابق السادس أتأمل سيارة الجيب وهي تصعد الجبل الرملي الشاهق، مصدرة زمجرة عالية تضاعف صخب الشارع المزدحم، أفكر في مزاج صاحب السيارة الذي يخاطر لصعود جبل بهذا الانحدار لأجل المتعة وحسب، وبالشاب الكويتي الذي توفي في حادث دراجة نارية منذ أيام، هل تستحق اللذة أن نقترب من الموت إلى هذا الحد أم أن هذا السؤال لا يخطر إلا ببال الضجرين الكسالى أمثالي وهم يتثاءبون في الشرفات؟

كنت في حدود الخامسة من عمري حين كان والدي يخيرني بين حديقتين متلاصقتين في إربد، حديقة الألعاب الكهربائية (الملاهي) وكنت أسميها الحديقة الكبيرة، وبين الحديقة الصغيرة التي تضم الأراجيح والمزالق، وكنت أختار الحديقة الصغيرة، في الوقت الذي كان فيه أطفال كثر يهذون بأحلام يقظتهم حول الملاهي، حيث الألعاب الضخمة الملونة والقطارات والأنفاق السرية للأشباح. لم أكن أحتمل الضجيج ولا الرهبة التي تصاحب التجارب الجديدة، وحين عرفتُ نظرية إلين آرون عن الشخصية مفرطة الحساسية، شعرت بمزيج مُربك من العزاء وخيبة الأمل، صندوق آخر يتسع لكل ما يؤرقك، تفسير مقنع للقلق المزمن والحاجة المطّردة للهدوء والتوقف لالتقاط الأنفاس، فعالمك الداخلي صاخب وكل حركة في الخارج تسحب خيوطًا متشابكة في الداخل وتشعل الفوضى، لكن صوتًا بداخلي يردد بسخرية: اللعنة على كل الصناديق.

تقول أمي بأنها في كثير من الأحيان لم تشعر أن لديها طفلة في البيت، كانت تتركني وأنا في حدود الثالثة من العمر أمام حوض زجاجي تدور فيه سمكة حمراء، أراقبها بينما أستمع لشريط كاسيت، وأنقل نظري من حين لآخر إلى فتحات السماعة بحثًا عن النمل الذي يغني بداخل جهاز التسجيل (أذكر هذا في سنوات لاحقة)، ثم أضغط على الزر الرمادي المخصص لتسريع الصوت وأضحك. إذا توقفت الأناشيد أنادي أمي من المطبخ لتقلب الشريط وأعود لمراقبة السمكة الحمراء وهي تدور بدأبٍ غير مفهوم في حوض دائري صغير، كما لو أن الدائرة ستستحيل أفقًا ممتدًا في أي لحظة، ودون أي تدخل خارجي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أصدقاء وموت

حبّ وسواس خنّاس