01-فبراير-2019

إدوارد مونش/النرويج

ألّا يرن هاتفك.. ألّا ترين بعض الأرقام تتدلى هاتفة بفضائح اهتزازك، عندما تتصورين أنه اسمه يرتسم في لائحة الحضور العشقي راسمًا حوله ألوان التماهي في جنون الساعة.. أن تتحضري للرد عليه، حتى عندما تتأهبين لرفع السماعة لاختزال أناقتك أمام صوته، تتأنقين لرفع تنهداتك خلسة حتى لا تتعرى فاضحة رسمك العشقي المتهور.

راحت تسدل خواء احتمالها على الدقائق الماضية دون أن تهاتف الزمن وتسأله عنها. اختارت أن تتصفح عبارات النسيان تلهمها أسفها في منعرجات الوهم. علقت أوهام التشرد الأخير على نسمات الهبوب ووحدها راحت تسير دون أن تقطف أملًا من بقايا اللحظة. راحت تخاتل الضوء المنزوي في لحظة نهوضها. ها هي تطمئن انزعاجها تاركة وراءها بقايا لحظات انطفأت عرجاء على ذاكرة الزمن. تذكر أنها لم تلتفت وإنما هبت إلى حقل جديد وهي تنزل من السيارة تشق عباب أيام جديدة. لم يملأها في تلك اللحظة سوى خواء عابس ارتسم على حجر شفتيها  وابتسامة لعناء ترتضي الصلح مع القدر. إنها تمشي.. تتركه وراءها في ذلك الصمت، ترتب معه نهاية وعد كانت تحلم بتحقيقه. الآن وهي تقتفي مسافات الابتعاد لا هم لها سوى التهافت على لحظات التجاهل حتى تنسى ما كان.

صاحب الخصلات البيض يتسلل إلى جوف نضجها وشبابها، يحل ساكنًا في دقات فؤادها يأكله صمتها ويسدل الوطن الكليم جراحه عليه. صاحب الخصلات البيض يحل مرحبًا بعزفها على بقايا سننه، ذاكرته المثقوبة، انزياحه مع الزمن المثقل بكآبة الانفعال، ووحده هذا الرجل هو الذي يثقل على كبريائها مخطوطات من التاريخ العشقي، ينزوي في تأوهاتها فجاة ليسائل فيها كل السنين وكل تجاويف الماضي وعصيان الذاكرة.

كان لقاء محفوفًا بالعادية، تأملته وهي تصنف نظراته المنسكبة من خلف نظارته الشمسية إلى متاهة الذاكرة. كانت تعلم وكان يعلم أيضًا أنه اللقاء الأخير. ولكن لم يكن الأخير ولا زالت رغبتها ورغبته مغلقتين عند باب الانتظار، لم تصنف لتبقى أرشيفًا يتآكل مع الزمن. والآن وهي تنزل من السيارة  كانت تقفل على الحكاية توجعها بضروب من النسيان. كانت تذكر كلماته "دعينا على اتصال" ولم تجد ما تقوله. لكن أين هو الآن، في هذا اليوم المشهود؟ أين هو ليحرك ضروبًا من الانفعالات في جوفها، ليكسر نواميس الرتابة ويقفز من صمت الهاتف عازفًا على أوتار العشق.

ماذا ستقول لرجل أملى رغبته وانزوى في نرجسيته رافضًا حبها وحنانها وكونها الذي تحتويه. ما كان له إلا أن قال "أنا لا أناسبك فلنبق أصدقاء". ولكن كيف لها أن تسبك خيوط صداقة من رداء الحب، وأن تجبر على أن تخاطبه كسائر الناس تسأل عن أحواله، تستفسر عن جديده، تعامله كالسائد وهو يعني لها الكثير. كيف لها أن ترسم خيوط  التجاهل وأن ترسم حدودًا لقلبها  الذي امتلأ حبًا به. صاحب الخصلات البيض والعيون المتوردة تجاعيدًا، يعاودها الآن في صمت ما.. لا تجد أين تقرع  بابًا لتدخل عالمه، لتهديه ملامح أنوثة أخرى لم يعرفها بعد.

 واليوم، ألّا يرن هاتفك ليورد عبيرك بجميل الذكرى، ألا يسائل فيك تاريخك العشقي، سرمديتك الانفعالية، تهافتك على أنقاض الحنين. يحل هو هناك في صمته، تتأوهين خلسة ترممين داخلك المعبأ باقتتال الانفعالات فيك وأنت على شجن. تتعبدين في محراب العشق وتنفلت ذاكرتك الخرساء تمارس ضروب الاسترجاع  لعيد حب، لم يكن احتفالًا لديك. تسري فيك دعابة الخيبات فتتأوهين "فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني وذاكرتي، كل عيد وأنت كل  هذا".

 وتظل أحلامي معي وأتساءل ماذا لو أخذتك إلى صرح عال لنشرب نخبًا على حبنا؟ ولكن أي حب هذا؟ حب الثلاثين أم الخمسين أم كل هذا الذي يرتطم بأرضية الزمن محتسيًا ثنايا الاستثناء.. أنا وأنت، حكاية التماهي في عشق السنين.. وجوم الانسياب الباهت في عهد العادية، استثناء الساعة في تمام اليوم.

راحت تسائل نفسها ما هذا الشعور الذي يستفزها، ولمَ لها أن تلتقي رجلًا كهذا، رجلًا لا يشبه بقية الرجال.. يخطها بطلاقة عبيره، بصحو كبريائه، بسر رجولته بكل معاني الرجولة والاستثناء. وهي في سراديب الصمت ما زالت تمعن في احتمال الاستثناء وكسر العادة وتأمل المعاني المجنونة من تهافت القدر البليد في غضون الاستفهام.

والآن وهي تجوب بين لحظات اليوم، تمر قصية، تتأبط ابتسامة صفراء محياها، تقاتل الساعات الممرغة بالحنين الأجوف. في تماهي حضورها رن هاتفها معلنًا كسر الثواني العابسة.

الآن عندما يرن هاتفك وترين بعض الأرقام تتدلى معلنة فضائح اهتزازك، وتتصورين أنه اسمه يرتسم في لائحة الحضور العشقي  راسمًا حوله ألوان التماهي في جنون الساعة.. أن تتحضري للرد عليه.. حتى عندما تتأهبين لرفع السماعة لاختزال أناقتك أمام صوته. تتأنقين في رفع تنهداتك خلسة حتى لا تتعرى فاضحة رسمك العشقي المتهور. ويلوح الآن أنه ليس اسمه، ليس تدليًا لأرقام هاتفه، ليس انتظارًا لغاية انتظرتها منذ ساعات، ارتسامًا لعدولها عن تحويل هذا اليوم إلى احتفال قائم يستشرف استثناءات للحب. الرقم المفضوح على شاشة الهاتف يذكرها بأوقات ما أطفأتها يومًا على قارعة أحزانها. كانت ذكرى لأول حبيب وأول صفعة حب وأول خيبة ذات عيد حب. والآن وهو يلوح من وراء أرشيف السنوات، يسائل تحنيطه العشقي عنها وعن انبعاث ذكرى تتدلى وراء صنوف من الانفعالات. هنا تعدل يدها عن تناول الهاتف، عن الرد وعن أي شيء يتعالى ليكسر عراء خيبة حب وخيبات آخر.

وتتالت لحظات الصمت، في جوفها انحسر الوجوم وارتدت الدقائق على نفسها تشيع بنهاية اليوم وباحتفال لم يكن، ولم تستيقظ من سباتها المتنكر إلا عندما بث في نشرة الأخبار استشهاد جنود على الحدود التونسية إثر اغتيالهم. عندها تأبطت صمتها وأيقنت أن عيد حب هذه السنة مضرج بالدماء والكبرياء والغياب المستتر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلى نهاية النهاية