19-يونيو-2016

نهاد الترك/ سوريا

فجأة، محمودو ابن عمتي توفّيَ إثرَ مرضٍ مُبهم من سُلالةِ الأمراض التي تُسنَد إلى صفة السيئة في هذه البلاد، رغم كلّ الأقاويل التي أسهب بها أفراد العائلة من عوارضَ للمرض لاحظوها في وقتٍ سبق موته، لكنها لم تكن سوى طقوس غيبيَّة يتقن قاطنو هذه القرى النائية إرفاقها بالموت، كان طويلًا جدًا وذا قلبٍ خَشِن، قبل 20 سنة من موته كنّا في قرية "بندوري" المؤلفة من بيتهم فقط، الخانُ الطويل والمرتفع الذي يحوي في ثقوب سقفه مئاتَ الأعشاشِ للحَمَام وعصافير الدوري، يُخرج محمودو فِراخ العصافير التي لم يكسو أجسادها سوى القليلُ من الزَّغبِ الأصفر، يشقُّ بطونها بشفرَةٍ صغيرة، يرينا نحن أقرباءه المُقبلين من المدينة أجوافَ الفراخ، ثم يخيّط الشقوق التي أحدثها بإبرةٍ وخيطٍ ملوَّن ويُعيدُ تلك الكائنات مرَّةً أخرى إلى أعشاشها ويبتسم لنا: "انتهت العمليَّة".

مات محمودو بُغتةً دون أيَّة عملية في السابعة والثلاثين من عمره، لم يكُ من السهل لأيّ سيّارة أو راعي المرور بقريتهم دون تدقيق منه، كان ذئبَ المكانِ اليَقِظْ، ولجَ بئرًا عميقة خلف تلّ القرية وهو صغير وخرج منها بمخالبَ وأنياب وروحٍ قصيرة، في حينٍ آخر وبعدَ تجاربه الطبية على العصافير كان يجمع أكثرَ من خمسين عقربٍ في برميلٍ صغير ويشويهم.
*

ولدتُ في صيف العام الثمانين من القرن الماضي، تقولُ والدتي: تمامًا في فجر إعلان الحرب بين العراق وإيران. حربٌ أودت بحياة الآلاف من البشر في البلدين على مدى ثماني سنوات، ولأن قامشلي رقعةٌ قريبة من العراق فإن بثّ قناة التلفزيون الرسمي للعراق كان يطالُ مدينتي، لا زلنا نتذكَّرُ ملامح وكلمات العديد من العاملين في تلك القناة، وفيما عدا الإطلالات التهريجيَّة لصدام حسين وابتكاراته الفذّة بكيفية القيادة والتواصل مع الشعب، فإن مشاهدَ كثيرة طُبِعَت في ذاكرتي الغضَّة آنذاك، مسيراتُ طويلة لأسرى إيرانيين في صحراء العراق، الآلافُ من الجنود المُنهكين يسيرونَ في طابورٍ طويل لامتناهي، مُنحني الرأس بثيابٍ رثَّة ووجوهٍ مستسلمةٍ لقيظ الصحراء وشتائم الجنود العراقيين، تدنو الكاميرا حينًا لتُريَنَا الوجوهَ والأقدام الحافية، وحينًا آخرَ تبتعدُ لنُبصِرَ مشهدًا بانوراميًا كاملًا لطابور بدايته ونهايته تغوصان في تلال الرمال، وعرفنا أيضًا الخميني مَنعوتًا بالكثير من الصفات التي خصّه بها أبو حلا -حفظه الله ورعاه- حسب المذيع ذي الشاربين الكثّين في كل نشرة أخبار، مُنهيًا نشرته بأهازيجَ عن حبٍّ جمّ متبادَل بين الشعب والقائد وأُخرى عن بسالةِ العراقيين وصلابةِ الماجدات!!، كان أشهرها تلك التي يطلب فيها القوم الرافعينَ بنادقهم عاليًا من طائر الحوم اللاحم بالمضيّ خلفهم إذ هم أغاروا.. "ها خوتي ها.. ها.. يا حوم اتبع لو جرينا.. يا حوم اتبع لو جرينا".
*

كان ثمَّة مرجٌ واسع باسم "حِلكو" يفصل بين أحياء قامشلي الجنوبية حيث منزلنا وقرية مرتفعة سُمّيَ المرجُ باسمها، يمتلئ المرج في نهاية الشتاء وبداية الربيع بالمياه القادمة من الشمال عبر مجارٍ نهريَّة تلتقي كلها في هذا المرج المكسيّ بعشب الفريز الذي استُخْدِمَ جزءٌ منه في كُسوةَ أرضية الملعب البلدي في مركز المدينة، كان المرجُ في الربيع يعجّ بالوافدين من حيواناتِ وبشرِ المنطقة، في النهار أغنامٌ وماعز وكلاب وبغال وخيول وبقرٍ وجواميس وصغار البشر، أمَّا في المساء كان ثمة ضيوفٌ من نوعٍ آخر، سُكارى وعاهرات ومجموعاتٍ من السنونو والخفافيش والخِلد الموصوفِ بالأعمى، صفوفٌ طويلة من أشجار التين والتوت والكينا، وفي جزءٍ مرتفع من حافَّة المرج كان هناك منزلٌ أسطوريّ عرفنا فيما لحق أنه ماخور، في طريق عودتنا من المدرسة المسمَّاة أيضًا باسم القرية كنَّا نتسكَّع على مقربةٍ من بيت الدعارة ذاك، نشاهد لأول مرَّةٍ قشور البندق والفستق الحلبي والموز، قشورٌ كنَّا نتصارع ليحصل كلٌّ منّا على العدد الأكبر (تلك الأشياءُ النادرة)، كان أحد رفاقي يقول بأنَّ والدته أجابته آنَ استنطاقها عمَّا يكمُن داخل هذا المنزل: "فُروج، نساءٌ يبعن فُروجهن". نُردِّدُ الكلمةَ بإيقاعٍ متسارع ونلوذُ بالهرب بعد أن نشتمَ المكان الصَّامتَ كلَّ النهار بما حفظناه من آبائنا من شتائم حصيفة، المرجُ امتلأ ببيوتٍ وعَماراتٍ بشعة بشكلٍ خرافي وتشرّدت الكلابُ والبغال والخِلدُ الأعمى والسُّكارى والعاهرات في كلّ حَدبٍ وصَوب.
*

"أخو ال...."، ردّدها لاتو وهو يضربُ بقوَّةٍ بعصاه الغليظة جمجمةَ عصمت ابن "كريفنا"، بعد أن أخبرتُه بأنَّه يمنعني من اللعب في ساحة الحيّ، وولّى هاربًا بعد أن سقط خصمه مغشيًّا عليه، "لات" أو "كورو" أي الأعمى، كما تلقّبه الأمّ، هو خالي الذي يملكُ الرقم 12 بين ترتيب أخوالي وخالاتي والذين مجموعهم 19، كان عمره 13 سنة حينها، يأخذُ كيسًا كبيرًا ويمضي بنا إلى الحقول الممتدة من قامشلي إلى قرية "هيمو" على جانبي الطريق الواصل إلى عامودا، يملأ الكيس بالسحالي ثم يضربهُ مرارًا بالإسفلت اللاهب، ويتذكَّرُ فجأةً حمارًا عَليلًا أودعه قبل أيام في إحدى البيوت المهجورة، لاتو ذو الوجه الأبيض السّمح والنظّارة الكبيرة مُحاطًا بصديقين مُنصاعين له، يفكِّرون بمصيرٍ مُسلٍّ للحمار، "سنرميهِ في قاع البئر الكبير، سنحرقه في مكبِّ النفايات (روتكو)، سنذبحهُ ونبيعُ لحمه".

خائفًا طلبت إليه العودة للبيت متذرّعًا بالعطش، اقترح شُربَ الماء من إحدى بيوت عائلة "كُلو" القريبة في حي "هليليكي": "لديهم جراءٌ صغيرة سنسرق واحدًا". عاش حياتهُ كقاتلٍ مُحترف خارج المنزل, يبدِّدُ سكينة قامشلي المخنَّثة ويقصُّ علينا عودة أحد جيرانهم من الموت.

قبل نومه يتحدث عن هيامهِ بابنة المغني الشهير سعيد يوسف قبل أن يتحول لاتو إلى شجرةٍ على أرضٍ يونانيَّة في طريق رحلته إلى أوروبا، لمحتهُ خارجًا من معمل الجليد المقابل لمنزلهم مبتسمًا رافعًا نصف قالبٍ من الجليد في وجهِ ظهيرةٍ أبديَّة.

 اقرأ/ي أيضًا:
 
آكلُ الشمس قطعةَ شوكولا

السيد القائد