15-مارس-2025
مركز احتجاز لمهاجرين غير نظاميين في ليبيا (وكالة الأناضول)

مركز احتجاز لمهاجرين غير نظاميين في ليبيا (وكالة الأناضول)

تسببت الأزمة الليبية المستمرة منذ عام 2011 في انهيار مؤسسات الدولة وخلق فراغ أمني وسياسي كبير، الأمر الذي حول البلاد إلى نقطة عبور رئيسية للمهاجرين غير النظاميين نحو السواحل الأوروبية، وخلال السنوات الخمس الأخيرة تفاقمت ظاهرة الهجرة غير النظامية عبر ليبيا بشكل ملحوظ، مدفوعة بعوامل عدة مرتبطة بالأزمة.

ومع غياب سلطة مركزية وتنازع الحكومات والمجموعات المسلحة، وجد المهربون وشبكات الاتجار بالبشر بيئة مثالية للعمل والازدهار، حيث يقدَّر عدد المهاجرين المتواجدين داخل ليبيا بأكثر من 824 ألف خلال 2024 (79% من الذكور البالغين، و11% من الإناث البالغات، و10% من الأطفال، من بينهم 3% من القاصرين غير المصحوبين بذويهم) بحسب المنظمة الدولية للهجرة.

هذه الأرقام تعكس حجم الأزمة وأهميتها الإنسانية والأمنية، وفي هذا المقال سنستعرض تأثير الأزمة الليبية على ملف الهجرة غير النظامية وأوضاع المهاجرين خلال السنوات الخمس الأخيرة، مع التركيز على العلاقة بين الاضطرابات داخل ليبيا ونشاط شبكات الاتجار بالبشر داخليًا وعبر الحدود.

مع غياب سلطة مركزية وتنازع الحكومات والمجموعات المسلحة، وجد المهربون وشبكات الاتجار بالبشر بيئة مثالية للعمل والازدهار

الفوضى الأمنية وانتشار شبكات تهريب البشر

أدى انهيار الدولة الليبية إلى انقسام سياسي حاد وصراع بين حكومتين متوازيتين (إحداهما في الغرب والأخرى في الشرق) تدعمهما مجموعات مسلحة متعددة، وقد أفرزت هذه الفوضى الأمنية بيئة مواتية لازدهار شبكات تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، حيث تسيطر جماعات مسلحة على أجزاء واسعة من الأراضي الليبية وعلى مراكز ومنافذ الهجرة، وتستغل ضعف سلطة القانون لتحقيق مكاسب من التهريب.

كما أن العديد من مراكز احتجاز المهاجرين غير النظاميين الرسمية تخضع فعليًا لسيطرة مجموعات مسلحة، وهذا التداخل أدى إلى ما يسمى باقتصاد الحرب الذي تصبح فيه الأنشطة غير المشروعة كتهريب البشر جزءًا أساسيًا من تمويل الجماعات المسلحة واستمرار نفوذها.

وتتنافس المجموعات المسلحة أحيانًا فيما بينها للسيطرة على طرق ومنافذ التهريب، نظرًا للأرباح الطائلة التي تدرّها تجارة تهريب المهاجرين. فعلى سبيل المثال، شهدت مدينة الزاوية، الواقعة غرب طرابلس، صراعات متكررة بين فصائل مسلحة للهيمنة على الساحل الذي تنطلق منه القوارب باتجاه أوروبا.

إن تغلغل مهربي البشر داخل هيكلية أجهزة يفترض بها مكافحة الهجرة مثل جهاز حرس السواحل الليبي يوضح كيف ساهمت الفوضى وغياب المحاسبة في تمكين نشاط الاتجار بالبشر، وقد أبرمت السلطات الليبية مذكرة تفاهم مع إيطاليا في شباط/فبراير 2017 لمكافحة تدفقات المهاجرين، تلتها مبادرة أوروبية لدعم حرس السواحل بالتدريب والمعدات.

هذه الإجراءات أدت إلى انخفاض مؤقت في أعداد المهاجرين المغادرين عبر السواحل الليبية بين عامي 2018 و2019، إلا أنها تمت من خلال صفقات ظرفية مع فصائل محلية عززت من نفوذ تلك الفصائل بدلًا من إضعافهاـ ومنذ 2020 عادت وتيرة الهجرة غير النظامية للارتفاع مع سعي جهات مختلفة لاستغلال ورقة المهاجرين لتحقيق مكاسب مالية وسياسية.

القوانين الليبية وغياب إطار تشريعي لمكافحة الاتجار بالبشر

تعاني ليبيا من فراغ قانوني ومؤسسي كبير في ملف الهجرة والاتجار بالبشر، مما سمح بتفاقم الظاهرة دون رادع فعال. فعلى المستوى الوطني، لا تمتلك البلاد حتى الآن إطارًا قانونيًا شاملًا لمكافحة الاتجار بالبشر يتماشى مع المعايير الدولية. ولم يصادق مجلس النواب الليبي على قانون محدد لمكافحة الاتجار إلا في السنوات الأخيرة، وحتى وقت قريب كانت النصوص المطبقة مقتصرة على مواد متفرقة في قانون العقوبات.

وينص القانون الجنائي الليبي على تجريم بعض أشكال الاستغلال، حيث تجرّم المواد 418 و419 و420 بعض جوانب الاتجار لأغراض الدعارة، وتفرض المادة 425 عقوبة على جريمة الاسترقاق تصل إلى السجن 15 سنة، وتجرّم المادة 426 بيع وشراء العبيد بعقوبة سجن تصل إلى 10 سنوات.

إلا أن هذه المواد غير كافية، فهي لا تجرّم كافة أنماط الاتجار كالسخرة والاتجار لأغراض العمل القسري أو الاتجار الجنسي إذا كان الضحايا ذكورًا بالغين، كما أن التعريف القانوني المعتمد لجريمة الاتجار في ليبيا قاصر، حيث يعتبرها مرتبطة بحركة الضحايا عبر الحدود فحسب، خلافاً للتعريف الدولي الأشمل الذي يشمل الاستغلال سواء عبر الحدود أم داخل البلاد.

وإضافة إلى ذلك، فإن ليبيا ليست طرفاً في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين ولا بروتوكولها لعام 1967، ولا توجد لديها تشريعات وطنية لمنح حق اللجوء، وهذا الفراغ القانوني يترك الآلاف من طالبي اللجوء والمهاجرين بلا حماية قانونية، ويجعل احتجازهم أو إعادتهم القسرية أمورًا لا تخضع لضمانات المحاكمة العادلة أو لمبدأ عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه دوليًا.

إخفاقات المؤسسات الليبية في التصدي للاتجار بالمهاجرين

ومع تفكك سلطة الدولة منذ 2014 أصبحت ليبيا تصنف كحالة خاصة في تقارير مكافحة الاتجار بالأشخاص، نظرًا لغياب حكومة موحدة تسيطر على كامل التراب الليبي وضعف قدرة النظام القضائي على العمل، ويشير تقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2023 بشأن الاتجار بالأشخاص إلى أن السلطات الليبية لم تستطع استيفاء الحد الأدنى من معايير مكافحة الاتجار ولم تقدم بيانات عن ملاحقات أو إدانات للمتاجرين خلال فترة التقرير.

ورغم صدور بعض الأحكام النادرة ضد المهربين، مثل إعلان النائب العام الصديق الصور في طرابلس عام 2021 إدانة 38 مهربًا ثبت تورطهم في قتل 11 مهاجرًا بعد إرسالهم في قارب نحو البحر المتوسط، مما أدى إلى غرقهم، تبقى هذه الحالات استثناءً نادرًا. وبشكل عام، يتمتع غالبية المتاجرين بالبشر بحصانة فعلية نتيجة تحالفاتهم مع جماعات مسلحة نافذة أو اندماجهم في أجهزة أمنية موازية.

دوليًا، انضمت ليبيا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (باليرمو 2000) والبروتوكول الملحق بها لمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، إلا أن ترجمة هذه الالتزامات الدولية إلى أفعال على الأرض لا تزال منقوصة نوعًا ما، نظرا لأن بعض الأجهزة المكلفة رسميًا بمكافحة الهجرة غير النظامية تعمل بقدرات محدودة وتواجه اتهامات بالتواطؤ في الانتهاكات ضد المهاجرين.

كما أن نقص التدريب والموارد وعجز الأجهزة الأمنية عن فرض القانون في مناطق واسعة يحول دون ملاحقة تجار البشر عبر الحدود المترامية، وفي ظل هذه الأوضاع كثيراً ما يُعامل ضحايا الاتجار والمهاجرون أنفسهم كمجرمين حيث يُحتجزون بسبب دخولهم غير القانوني أو يُرحَّلون دون تقييم أوضاعهم كضحايا محتملين، ما يشكل خرقاً لمبادئ حماية الضحايا.

دور الاقتصاد الموازي في ازدهار شبكات تهريب البشر

أدت الاضطرابات والحرب الأهلية إلى خلق اقتصاد موازي يستفيد منه أمراء الحرب وشبكات الجريمة، حيث أصبحت تجارة تهريب المهاجرين والاتجار بهم من أكثر الأنشطة ربحًا في الاقتصاد غير الرسمي الليبي، وتُقدِّر دراسات بحثية أن عائدات شبكات تهريب البشر بلغت نحو 978 مليون دولار في ذروة أزمة الهجرة عام 2016 وهو مبلغ كبير جدًا شكّل مصدر تمويل أساسي لكثير من الجماعات المسلحة في ليبيا، وتوصف هذه الظاهرة بأنها جزء من اقتصاد الحرب الذي نشأ خلال الصراع أين يعتمد الكثيرون على أنشطة التهريب (سواء تهريب النفط أو البضائع أو البشر) كمصدر دخل في ظل انحسار الاقتصاد النظامي.

وهنا تعمل مدن سبها والكفرة بالجنوب، كمحطات تجارة ونقل تاريخية عبر الصحراء، وأصبحت تعتمد على تدفقات المهاجرين غير النظاميين والبضائع المهربة لتعويض غياب التنمية وضعف حضور الدولة، وفي الشمال الغربي ازدهرت أيضا أنشطة التهريب في مدن الساحل كالزاوية وزوارة مدفوعة بالطلب العالي على تهريب البشر نحو أوروبا.

وتغذي هذه الظاهرة العوامل الاقتصادية من عدة جوانب: فمن جهة يدفع اليأس والفقر في دول المنشأ آلاف الشباب إلى بيع ممتلكاتهم وتحمل تكاليف باهظة (تصل أحياناً إلى 10 آلاف دولار للشخص) للوصول إلى أوروبا عبر ليبيا، مما يغري الشبكات الإجرامية بمواصلة هذا النشاط المربح، وقد ذكرت بعثة لتقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة أن عمليات الاتجار والاستغلال للمهاجرين (بما في ذلك العمل القسري والاستعباد والابتزاز) أصبحت مصدر دخل كبير لأفراد ومجموعات وحتى مؤسسات رسمية في ليبيا، وهذا يعني أن أرباح الاتجار بالبشر تتسلل حتى لبعض المؤسسات الحكومية التي يفترض بها مكافحة هذه الظاهرة مما يخلق دوافع فساد قوية.

من جهة أخرى، أدى انهيار قطاع النفط وتدهور الاقتصاد الرسمي إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر بين الليبيين أنفسهم، ودفع بعضهم إلى الانخراط في أنشطة التهريب كوسيلة للعيش، حيث يوفر تهريب المهاجرين غير النظاميين دخلًا لشرائح من السكان المحليين على طول طرق القوافل في الصحراء (كتأمين النقل والإعاشة أو العمل كوسطاء)، خاصة مع غياب بدائل اقتصادية مشروعة في تلك المناطق المهمشة.

كما أن وجود مئات الآلاف من المهاجرين داخل ليبيا خلق سوق عمل سوداء يستغلها البعض، وهناك تقارير عن استغلال المهاجرين في أعمال شاقة بأجور زهيدة أو من دون أجر في الزراعة والبناء وخدمات أخرى، إما تحت تهديد السلاح في مراكز الاحتجاز أو بسبب ضعف موقفهم القانوني، ورغم الاستنكار الدولي الواسع لهذه الحوادث لا يزال الكثيرون يتعرضون لأشكال من الاستغلال القسري على أيدي مجموعات إجرامية تبحث عن العمالة المجانية أو الفدية المالية، وبات الاتجار بالمهاجرين جزءًا عضويًا من الاقتصاد الموازي في ليبيا يُطيل أمد الفوضى، فهو يُدر أموالًا طائلة تستثمر في شراء السلاح وتمويل المليشيات، ويُثري أفرادًا متنفذين لديهم مصلحة في إضعاف مؤسسات الدولة خدمة لمصالحهم.

الأبعاد الإنسانية: معاناة المهاجرين في مراكز الاحتجاز وعلى طرق العبور

أفرزت أزمة الهجرة غير النظامية في ليبيا واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية المعاصرة، حيث يواجه المهاجرون واللاجئون مستويات مروّعة من الانتهاكات، وتبدأ معاناة الكثيرين منهم منذ لحظة دخولهم الأراضي الليبية قادمين عبر الصحراء، إذ يقعون غالبًا فريسة لعصابات محلية تقوم بالخطف وطلب الفدية، ويتعرض المهاجرون للعنف والاستغلال في كل محطة على طريق الهجرة، من المهربين الذين ينقلونهم في شاحنات مكتظة عبر الصحراء، إلى الحراس في مراكز الاحتجاز الرسمية، وصولًا إلى حراس السجون السرية التابعة للمتاجرين.

داخل ليبيا، يُحتجز الآلاف من المهاجرين في مراكز احتجاز مكتظة تفتقر إلى أبسط مقومات النظافة والرعاية الصحية، ويُقدَّر وجود عشرات مراكز الاحتجاز الرسمية تحت إشراف جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، لكنها عمليًا خارج الرقابة القضائية ومعظمها تديره مليشيات محلية.

في هذه المراكز يتم احتجاز المهاجرين لفترات غير محددة دون أي إجراءات قانونية أو عرض على القضاء، ويتعرضون لمختلف أشكال سوء المعاملة، وقد وثقت منظمات دولية والأمم المتحدة حالات واسعة من التعذيب الجسدي والضرب واعتداءات جنسية بحق النساء وحتى الرجال، بالإضافة إلى إجبار المحتجزين على العمل القسري في المزارع أو ورش تابعة للجهات التي تسيطر على تلك المراكز.

ويُجبر الكثيرون على دفع رشاوي لحراس هذه المراكز أو الوسطاء في محاولة للإفراج عنهم والنجاة بحياتهم، ما يرسخ نمط الابتزاز المالي للمهاجرين الفقراء، وقد ذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن المحتجزين من المهاجرين غير النظاميين يتعرضون للابتزاز بشكل منهجي على يد الحراس وأفراد جماعات مسلحة؛ حيث يتم تعذيبهم لانتزاع أموال من ذويهم مقابل إطلاق سراحهم.

وثّقت تقارير أممية هذه الممارسات واعتبرتها جرائم ضد الإنسانية. ففي أذار/مارس 2023، أعلنت بعثة تقصي الحقائق الأممية بشأن ليبيا أن الانتهاكات ضد المهاجرين، من قتل وتعذيب واستعباد واغتصاب، تُرتكب بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع. كما صرّحت بأن الدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي للسلطات الليبية في اعتراض المهاجرين واحتجازهم، أسهم في هذه الانتهاكات وساعد في ارتكابها.

إلى جانب سوء المعاملة في مراكز الاحتجاز، يواجه المهاجرون مخاطر جسيمة جراء النزاعات المسلحة، حيث وجد الآلاف من المهاجرين أنفسهم عالقين في مناطق اشتباكات أو بالقرب من أهداف عسكرية، وإحدى أبشع الحوادث كانت في تموز/يوليو 2019 عندما أصاب قصف جوي مركز احتجاز في تاجوراء شرقي العاصمة طرابلس أثناء معارك بين قوات متصارعة، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 53 مهاجرًا ولاجئًا وإصابة العشرات.

كشفت هذه المأساة مدى هشاشة أوضاع المهاجرين كمجموعة مستضعفة تُترك دون حماية في مرمى النيران. ففي حادثة أخرى خلال اشتباكات جنوب طرابلس عام 2020، قَتل مسلحون 30 مهاجرًا في بلدة مزدة انتقامًا لمقتل أحد المهربين. كان المهاجرون محتجزين كرهائن لدى عائلة المهرب، التي نفذت بحقهم مجزرة جماعية. وتسّلط مثل هذه الحوادث الضوء على غياب أي احترام لحق هؤلاء الأشخاص في الحياة وسط الفوضى المستمرة.

ولا تقتصر معاناة المهاجرين على البر، بل تمتد إلى البحر، حيث تشكل الرحلة عبر المتوسط من السواحل الليبية إلى أوروبا خطرًا مميتًا. وتُقدّر المنظمة الدولية للهجرة أن أكثر من 2000 شخص لقوا حتفهم أو فُقدوا في البحر المتوسط خلال عام 2022 وحده أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا. ومع تشديد حرس السواحل الليبي الرقابة على القوارب، بات المهربون يستخدمون مراكب أكثر تهالكًا واكتظاظًا، ما يزيد من احتمالات وقوع كوارث بحرية. وغالبًا ما تعترض دوريات حرس السواحل الليبي هذه القوارب، وتعيد ركابها قسرًا إلى ليبيا، حيث يُزجّ بهم مجددًا في دوامة الاحتجاز والانتهاكات التي حاولوا الفرار منها

التدخلات الدولية وتأثير سياسات الاتحاد الأوروبي على الأزمة

تحولت أزمة المهاجرين في ليبيا إلى قضية إقليمية ودولية بامتياز، حيث تتداخل فيها سياسات الاتحاد الأوروبي ودول الجوار والمنظمات الدولية. فعلى الصعيد الإقليمي، تأثرت دول شمال إفريقيا بشكل مباشر بتدفقات الهجرة عبر ليبيا، إذ شهدت تونس، على سبيل المثال، تزايدًا في محاولات الهجرة غير النظامية من سواحلها في السنوات الأخيرة، بعضها لمهاجرين دخلوا عبر ليبيا ثم انتقلوا إلى تونس بحثًا عن طريق بديل نحو السواحل الأوروبية. كما تواجه تونس ومصر والجزائر تحديات أمنية على حدودها مع ليبيا بسبب تسلل المهربين والجماعات الإجرامية عبر الحدود الصحراوية الشاسعة.

أما دول الساحل الإفريقي، مثل النيجر وتشاد والسودان، فهي تُعد بلدان منشأ وعبور للمهاجرين إلى ليبيا، وقد تأثرت اقتصاداتها ومجتمعاتها بتجارة التهريب. فعلى سبيل المثال، أصدرت النيجر في عام 2015 قانونًا يجرّم تهريب المهاجرين تحت ضغط أوروبي، ما أدى إلى شنّ حملات أمنية في شمال البلاد، وتحديدًا في منطقة أغاديز، مما أسهم في إضعاف طرق التهريب هناك.

ومع ذلك، أشارت تقارير لاحقة إلى أن هذه الإجراءات دفعت شبكات التهريب إلى البحث عن مسارات بديلة أكثر خطورة عبر الصحراء الليبية، ما زاد من تعرض المهاجرين للاستغلال على يد مهربين أشد قسوة. أي أن الحملة لم توقف الظاهرة بل غيرت أنماطها، وهو ما يسلط الضوء على خطورة أي إجراء أحادي في دولة مجاورة، إذ قد تكون له تداعيات ارتدادية على ليبيا أو على دول الجوار الأخرى، ما لم يكن جزءًا من مقاربة إقليمية شاملة.

ممارسات الاتحاد الأوروبي بين العسكرة وإهمال البعد الإنساني

يعد الاتحاد الأوروبي طرفًا رئيسيًا في معادلة الهجرة بليبيا، نظرًا لكونها نقطة عبور نحو الوجهة النهائية لمعظم المهاجرين، ولا سيما إيطاليا ومالطا. وقد تبنّى الاتحاد الأوروبي ما يُعرف بسياسة العسكرة الخارجية للحدود، من خلال تعزيز قدرات حرس السواحل الليبي وتمويل مشاريع تهدف إلى احتواء المهاجرين داخل ليبيا، لمنعهم من الوصول إلى أوروبا.

ومنذ عام 2017، خصصت إيطاليا والاتحاد الأوروبي مئات ملايين اليوروهات في شكل دعم تقني ومادي للسلطات الليبية، بما يشمل القوات البحرية، وحرس الحدود، وجهاز مكافحة الهجرة غير النظامية. وشمل هذا الدعم بناء مراكز احتجاز جديدة وتحسين الموجودة منها، بالإضافة إلى تزويد حرس السواحل بزوارق ومعدات، فضلًا عن تنظيم دورات تدريبية.

وقد أسهمت هذه السياسات في تقليص عدد الواصلين إلى إيطاليا منذ عام 2018 مقارنة بذروة التدفقات عام 2016. ومع ذلك، تعرضت هذه المقاربة لانتقادات حادة من منظمات حقوقية دولية، اعتبرت أن أوروبا تُصدّر أزمة الهجرة إلى ليبيا دون اكتراث لما يحدث للمهاجرين هناك. إذ أسفر اعتراض القوارب في عرض البحر عن إعادة المهاجرين قسرًا إلى ليبيا، مما أبقاهم في دائرة الانتهاكات، في تعارضٍ مع الالتزامات الحقوقية لأوروبا التي تحظر إعادة أي شخص إلى مكان قد يتعرض فيه للخطر.

وقد انتقدت الأمم المتحدة بشدة تواطؤ أوروبا، إذ أكد خبراء أمميون أن دعم الاتحاد الأوروبي لحرس السواحل الليبي ولمراكز الاحتجاز أسهم بشكل مباشر في انتهاكات جسيمة بحق المهاجرين. كما وثّقت منظمات مثل العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" حالات اعتراض نفذتها قوات أوروبية بالتنسيق مع السلطات الليبية، أدت إلى حوادث غرق مميتة بسبب تأخر عمليات الإنقاذ، أو إلى إعادة مهاجرين فارّين من الاضطهاد إلى مصير مجهول في ليبيا.

ورغم هذه الوقائع، يجادل المسؤولون الأوروبيون بأنهم يقدمون مساعدات لتحسين إدارة ليبيا لملف الهجرة وإنقاذ الأرواح في البحر، وأنهم يشترطون على الشركاء الليبيين مراعاة حقوق الإنسان. لكن الواقع على الأرض يكشف عن فجوة عميقة بين التصريحات والممارسات، حيث تستمر التقارير في توثيق انتهاكات مروّعة بحق المهاجرين العائدين إلى ليبيا، رغم كل برامج التدريب والتحسين المزعومة.

الإجلاء الإنساني: حلول جزئية أم استراتيجيات غير كافية؟

في مقابل التشديد الأمني الأوروبي، سعت منظمات دولية إلى مقاربة أكثر إنسانية لأزمة المهاجرين في ليبيا، وقد أطلق الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مبادرة ثلاثية أواخر 2017 لإجلاء الآلاف من المهاجرين العالقين في مراكز الاحتجاز الليبية وإعادتهم طوعًا إلى بلدانهم الأصلية أو إعادة توطين من يحتاج للحماية الدولية، وبدعم من المنظمة الدولية للهجرة والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين أُعيد أكثر من 40 ألف مهاجر ولاجئ من ليبيا إلى بلدانهم بين عامي 2017 و2022 ضمن برنامج العودة الإنسانية الطوعية.

كما أنشأ الاتحاد الأفريقي مركزًا للعناية باللاجئين في النيجر لاستقبال عدد من طالبي اللجوء الذين يتم إجلاؤهم من ليبيا قبل إعادة توطينهم في أوروبا أو كندا، وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود في إنقاذ أرواح فردية فإنها تظل محدودة قياسًا بعدد المهاجرين الكبير في ليبيا، ولا تزال دول الاتحاد الأوروبي منقسمة حول تقاسم مسؤولية استقبال اللاجئين، مما يجعل اعتمادها الرئيسي على إبقائهم خارج الحدود الأوروبية.

إقليميًا، لا تقتصر أزمة ليبيا على ملف الهجرة فحسب، بل تبقى عاملًا رئيسيًا لعدم الاستقرار، إذ يساهم استمرار الفوضى في ازدهار شبكات تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود، فضلًا عن موجات نزوح الليبيين أنفسهم إلى دول الجوار خلال فترات التصعيد العسكري. وقد أدى ذلك إلى تداخل مسارات معقدة، حيث استقر بعض المهاجرين الذين فشلوا في عبور المتوسط مؤقتًا في ليبيا، وانخرطوا في أعمال هامشية، بينما حاول لاجئون من دول مجاورة، مثل تشاد والسودان، استغلال الوضع للوصول إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية.

هذا التشابك يعكس أن حل أزمة المهاجرين مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا، إلى جانب تحسين الأوضاع الاقتصادية في دول المصدر الأفريقية. ومن دون معالجة جذور المشكلة، ستستمر الحلقة المفرغة: صراع يولد الفوضى، الفوضى تغذي تهريب البشر، وعائدات التهريب تمول الصراع من جديد

ضرورة مقاربة شاملة لحل أزمة الهجرة غير النظامية

في المحصلة، يتضح أن الأزمة الليبية والصراع الداخلي وفّرا بيئة خصبة لازدهار الهجرة غير النظامية وشبكات الاتجار بالبشر، ما أدى إلى كارثة إنسانية وأمنية ممتدة خلال السنوات الأخيرة. فقد تداخلت العوامل السياسية، مثل انهيار الدولة وتنازع السلطات، مع العوامل الاقتصادية، كاقتصاد الحرب والربح من التهريب، لتشكّل منظومة يستفيد فيها المتاجرون بالبشر من استمرار الفوضى، بينما يتحمل المهاجرون الثمن الأكبر، سواء بفقدان حرياتهم وكرامتهم أو حتى أرواحهم. كما أثبتت التطورات بعد عام 2017 أن المعالجات الأمنية وحدها، مثل صفقات وقف القوارب مع المجموعات المسلحة أو دعم حرس السواحل، ليست حلًا مستدامًا، بل قد تؤدي إلى تفاقم الانتهاكات وتعزز اعتماد أطراف الصراع على ورقة الهجرة.

إن تفكيك شبكات التهريب وإنهاء معاناة المهاجرين يرتبطان ارتباطًا مباشرًا بتحقيق الاستقرار في ليبيا وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس سيادة القانون. لذا، لا بد من اعتماد مقاربة شاملة تعالج جذور الظاهرة بدل الاكتفاء بمعالجة تداعياتها، بحيث تشمل دعم عملية سياسية حقيقية لتوحيد المؤسسات الليبية، وبسط الأمن تحت سلطة الدولة الشرعية في جميع المناطق، ما يمكّنها من ملاحقة المتاجرين.

كما ينبغي الإسراع في تبني وتنفيذ قانون وطني شامل لمكافحة الاتجار بالبشر يتوافق مع المعايير الدولية، ويوفر حماية قانونية للضحايا، إلى جانب بناء قدرات القضاء والأجهزة الأمنية لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب. وفي السياق ذاته، تتطلب هذه المقاربة تعزيز التنمية في المناطق التي أصبحت تعتمد على اقتصاد التهريب، عبر برامج بديلة تتيح سبل عيش مشروعة للسكان المحليين، وتحدّ من انخراطهم في أنشطة الاتجار بالبشر.

تحولت أزمة المهاجرين في ليبيا إلى قضية إقليمية ودولية بامتياز، حيث تتداخل فيها سياسات الاتحاد الأوروبي ودول الجوار والمنظمات الدولية

نحو استراتيجية دولية تحترم حقوق المهاجرين وتدعم استقرار ليبيا

دوليًا، ينبغي إعادة النظر في سياسات الهجرة الأوروبية تجاه ليبيا بحيث توازن بين الاعتبارات الأمنية والمسؤولية الإنسانية. فقد آن الأوان لتوجيه جزء أكبر من الموارد نحو إنقاذ الأرواح وحماية الحقوق بدلًا من التركيز الحصري على منع الإبحار. ويشمل ذلك زيادة حصص إعادة توطين اللاجئين من ليبيا، وتوفير ممرات آمنة لطالبي اللجوء الأكثر ضعفًا، ودعم عمليات الإجلاء الإنسانية بإشراف الأمم المتحدة، فضلًا عن وضع آليات فعالة لمراقبة مراكز الاحتجاز وتحسين ظروفها بشكل عاجل.

كذلك، ينبغي إشراك الاتحاد الأفريقي ودول الجوار في أي خطة عمل، فالمسؤولية مشتركة، ولا يمكن لدولة واحدة أو لتحالف محدود النجاح في معالجة أزمة معقدة وعابرة للحدود بهذا الحجم. وفي الوقت نفسه، يبقى احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون حجر الزاوية لأي حل مستدام، فلا بد من محاسبة المتورطين في الجرائم ضد المهاجرين، سواء كانوا مهربين أو مسؤولين، أمام العدالة، سواء عبر المحاكم الليبية أو المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لردع غيرهم وإحقاق العدالة للضحايا.

ختامًا، تؤكد التجربة المريرة للسنوات القليلة الماضية في ليبيا أن الهجرة غير النظامية ليست مجرد قضية تنقل بشري عبر الحدود، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتشابك مع غياب الاستقرار السياسي، وضعف التنمية، وتفشي الجريمة المنظمة. وأي محاولة لعلاجها بمعزل عن هذا السياق الأوسع مصيرها الفشل. من هنا، فإن الطريق إلى الأمام يتطلب رؤية شاملة وتعاونًا دوليًا يضعان استقرار ليبيا واحترام كرامة الإنسان في صميم الأولويات، وعندها فقط يمكن كسر حلقة الاستغلال وإنهاء معاناة عشرات الآلاف من المهاجرين.