21-يوليو-2017

دير القمر كما رسمها وليام هنري بارتليت (1858-1932)

الطريق نفسهُ أقطعهُ بشكلٍ يومي، ذهابًا في الصباح، وإيابًا في المساء. مارًّا بسوق البلدة وساحتها الأثّرية، حيث يمكنك، في هذا الوقت تحديدًا، رؤية الكثير من الوجوه من جنسيات مختلفة، تمامًا كما لو أنّك وسط معرض وجوه ضخم.

 في دير القمر، تاريخ مديد ومتنوع يمكن مشاهدته يتجوّل في الطرقات

وصلتُ إلى دير القمر لاجئًا قبل خمس سنوات من الآن، مدّة زمنيةً كافية جدًا للتّعرف على البلدة الأثرية ومعالمها، ولكنّني لو لم أفكر في كتابة هذا النص عنها، لكنتُ لا أزال أعرف عنها ما يستطيع سائح معرفته خلال دقائق قليلة جدًا. وخلال الثلاثة أيام الماضية، مدّة كتابة هذا النص، تغيّرت البلدة بشكلٍ كامل عمّا كانت عليه، تمامًا كما لو أنّني لم أكن أراها بشكلٍ صحيح فيما مضى.

اقرأ/ي أيضًا: فاس.. سيكولوجيا المعمار وطبائع التطرف

لا تبدو دير القمر، للوهلة الأولى، بلدةً أثّرية. وهذا ناتجٌ عن التوسع العُمراني الحديث الذي بات يُشكِّلُّ طوقًا حولها. ولكنّك حين تُصبح في وسط البلدة، تكتشفُ العكس تمامًا. بالإضافة إلى أنّك، إن أردت، وإذا كان لديك وقت كاف، شرط ألا تكون لاجئًا، لا تحتاج وقتًا طويلًا للتعرف على البلدة الصغيرة، أو على الأقل وسطها الأثري، حيث دير القمر الأصلية، دون إضافات. ولكنّك في الوقت ذاته، لن تتمكَّن – إن لم تسأل – من التعرف على الكثير من الأشياء الغامضة في بلدة دير القمر. على سبيل المثال، قد تظنُّ أنّ منزلًا قديمًا هو مجرّد منزل فقط، ولكنّك قد تكتشفُ لاحقًا أنّهُ كنيس لليهود الذين كانوا موجودين في البلدة قبل عام 1948، كما أنّهُ أقدم كنيس لليهود في منطقة جبل لبنان. وأنّ هناك أيضًا حيًّا في البلدة يُسمى "حي الدروز" والذي أسكن فيه حاليًا، مع العلم أنّ لا دروز في البلدة. وأنّ هناك جزءًا لا بأس به من البلدة تمت إزالته أو أُزيل في الحرب، وصار مجرّد ذكريات وصور يعلّقها سكّان البلدة على جدران منازلهم. تمامًا كتلك الصورة التي رأيتها قبل عدّة أشهر في أحد المنازل، واكتشفت حينها للمرّة الأولى أنّ هناك سينما كانت موجودة في البلدة "سينما أمبير"، وكانت ملاصقةً لمسجد البلدة الأثّري، المسجد الذي يقتصرُ به الأذان على صوت إمامه وبعض المصلين داخله، ذلك أنّه غير مسموح بالأذان عبر مكبرات الصوت، كما في كل المساجد الأخرى. لأسباب لا أعرفها، أو لا أريد الخوض في تفاصيلها الآن.

ولكنّ كل ذلك، وجود كنيس ومسجد، لا يعني أنّ المسلمين أو اليهود لا يزالون من سكّان البلدة. لأنّ دير القمر شهدت عدّة أحداث ساهمت في تغيير تركيبتها السكّانية. من أبرز تلك الأحداث الحروب الأهلية، إن كانت عام 1860، بين الموارنة والدروز – ويقال إن شرارة تلك الحرب اندلعت من دير القمر. أو هجرة اليهود منها عام 1948 بعد موجة الكراهية الناجمة عن أفعال اليهود في فلسطين. وأخيرًا الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. في ذلك الوقت، كانت دير القمر من البلدات القليلة التي سلمت من التهجير. كما أنّها في ذلك كانت محطةً للعديد من المهجرين. أمّا سكّان دير القمر الآن هم من المسيحيين الموارنة.

دير القمر زيارتها واجبة علينا جميعًا، الشرط الوحيد ألا تكون لاجئًا

التجوّل أو البقاء في وسط البلدة ليس ممتعًا مقارنةً بالسير في أزقتها المرصوفة بشكلٍ كاملٍ بالحجارة، تمامًا كما المنازل القديمة أيضًا، والمهجورة منذ الحرب الأهلية حتى الآن. وهذه المنازل، التي تحوّلت إلى خرائب أو التي لا تزال على حالها، تُكسب البلدة رونقًا خاصًا. حيث تشعر، إن زرت البلدة في الشتاء، حيث يكون معظم سكّانها في بيروت، بأنّك موجود في القرن السادس عشر.

اقرأ/ي أيضًا: في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة

لم تكن دير القمر لتصير ما هي عليه الآن لولا الأمراء المعنيون الذين اتخذوا من البلدة عاصمةً لهم، وصارت تُعرف لاحقًا بعاصمة الأمراء. وشيّدوا في تلك الأثناء عدّة معالم تُشكل اليوم الجزء الأكبر من أثار البلدة: سراي الأمير يوسف الشهابي، مبنى البلدية حاليًا. سراي الأمير فخر الدين المعني الثاني، والذي تحوّل إلى متحف للشمع، متحف ماري باز الآن. ساحة الميدان، وهي ساحة البلدة الأثّرية. ومسجد الأمير فخر الدين المعني الأول. بالإضافة إلى ستة كنائس. كما تحوي البلدة، كما ذكرت، أقدم كنيس لليهود في منطقة جبل لبنان. ولكنّهُ مغلقٌ منذ هجرة اليهود من البلدة عام 1948.

بلدة دير القمر نوعًا مختلفة عن الكثير من المدن والبلدات التي تنشط فيها العنصرية بشكلٍ واضح، إن كان من قبل السكّان أو البلدية ذاتها، ولكنّك في دير القمر قد تسمع كثيرًا عن العنصرية، ولكنّك لن تراها بشكلٍ مباشر، لأنّها في الأساس غير موجودة. وإن وجد بعض العنصريين، قهم أقليةٌ قليلةٌ جدًا هنا. ولكنّ على الجانب الآخر، البلدة لا تصلح نوعًا ما للجوء، كونها بلدة أثّرية تنشط فيها السياحة، وهذا ما يرفعُ من أسعار المواد الغذائية وعدّة أشياء أخرى، أهمها إيجار المنازل، حيث من الممكن أن تستأجر غرفةً واحدة بـ200 دولار أمريكي، هذا إن وجدتها أصلًا، لأنّ التنافس على المنازل يشتدُّ بيننا كلاجئين، وبين طلاب الجامعات. وفي النهاية، إنّ الحديث عن هذه البلدة لا ينتهي. ولذلك أنصحك بزيارتها، شرط ألا تكون لاجئًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العمران الجزائري.. تراث مضيّع وحداثة مستعجلة

الجسد والعمارة.. سجن الأنثى واستلاب الحرية