15-أكتوبر-2017

شارع في مدينة المالكية/ديريك (فيسبوك)

حين تمر في شوارع هذه المدينة، مدينة ديريك، فأنت لستَ بحاجة إلى مُرافق لتتعرف على أي شيء قد يخطر في بالك يتعلق بها، فجدرانها، بيوتها، شوارعها وحتى عجائزها الجالسون على أرصفة الزمن، إحدى هذه الشواهد كفيلة أن تحدثك عن تاريخ هذه المدينة، عن كل لحظة زهد وألم مرت بها ذات يوم وعلى مر أعوام طويلة.

ديريك، حين تمشي في شوارعها، لا تكاد تعبر جدارًا عاديًا حتى يبهرك آخر مصنوع من حجارة سوداء، هذه الحجارة التي أصبحت إحدى العلامات التي تميزها عن غيرها من المدن الأخرى، حجارة مرصوفة بتقنية تكاد تكون غير موجودة في زمن التطور الذي نعيشه، مُسنّو المدينة يروون حكايات كثيرة عن هذه الجدران السوداء، كيف كانت تقيهم برد الشتاء وحر الصيف اللاذع، كيف زادت من جمال كل بقعة بُنيت فيها.

ذاكرتي، طفولتي وحتى أيام شبابي التي أعيشها الآن، تحتل هذه الحجارة حصة كبيرة منها، جدار وحيد من منزلي لا زال محافظًا عليها، شعور غريب يعتريني حين أمر من جانبه وأنا عائدة من مكان ما، على الرغم من أن منزلنا القديم ذا الحديقة الكبيرة تحول إلى بناء عالٍ لكن لحسن حظي أن ذاك الجدار بقي في مكانه، لعل قدرة إلهية منعت ذاك المتعهد من الاقتراب من تلك البقعة الجميلة من منزلنا ليبقى لي شيء من رائحة طفولتي التي قضيتها وأنا ألعب مع بنات جيراننا بالقرب منه، نستظل به من الشمس، نستند عليه حين نتعب، أظن أنه على كل شخص أن يترك شيئًا ولو صغيرًا من حوله حتى لا تضيع سنوات عاشها ببراءة قد لا تتكرر ثانية.

بيوت كثيرة في ديريك تجملت بهذه الحجارة، عاهدها أصحابها أن يحافظوا عليها ما أمكن، وحتى البيوت المهجورة التي بقيت منتظرة على أمل العودة، تساندها تلك الحجارة السوداء المصفوفة التي تتوسطها نوافذ قديمة شهدت حكايات عائلات كثيرة، حكايات فرح وأخرى حزن، تساندها على الوقوف وتحميها من تعب الاشتياق والانهيار.

حين تمر بجانب تلك الجدران السوداء في مدينة ديريك، تصدفك الكثير من الذكريات المنقوشة عليها بتأنٍّ، وأخرى كُتبت على عجل قد يكون خوفًا من شيء ما، أسماء مزخرفة، تواريخ لحوادث قد تكون ذكرى أول لقاء أو حتى ذكرى وداع أحد ما، حتى أسماء الفرق الرياضية كان لها نصيب أن ينقش اسمها على تلك الجدران بقلم كلسي ذات لون أبيض.

هذه الحجارة لا تتحدث عن لقاءات الحب والوادع التي حصلت بجانبها فقط، بل تتحدث عن حب المكونات المختلفة لبعضها والتي تعيش معًا منذ عقود طويلة تحت سماء ديريك الصغيرة الكبيرة، يكون هذا الأمر واضحًا حين تمر بجانب كنيسة مزينة بهده الحجارة، وعلى بعد أمتار قليلة فقط ترى جامع تزينه نفس الحجارة.

كثيرون من أبناء ديريك ممن سافروا ليعيشوا في تلك البلاد الباردة، كانت هذه الجدران سندًا لهم يومًا، ولا زالت متماسكة على أمل اللقاء يومًا ما، ترى هل سيطول قدوم ذاك اليوم؟

هنا في ديريك، لا يمكنك أن تعتبر الجدران جمادًا لا يتكلم، هنا كل ما في هذه المدينة فيه روح وقلب ينبض، كل قطعة لها دور في حفظ تاريخ طويل من المحبة والبساطة.

ديريك، مدينة تستطيع رؤية تاريخها من جدرانها، لا تكفي كل صفحات التاريخ لكتابة ما حصل ويحصل وسيحصل فيها، مدينة تحتاج لمجلدات من الذهب لتفيها حقها مما تملكه من جمال وبساطة ومحبة، مدينة لم يتعبها سوى الاشتياق لأبناء غابوا عنها، لأطفال كانوا يوزعون الحياة أينما مضوا، هذه المدينة بجدرانها، بأحجارها السوداء، بشوارعها وبكل ما تملك تستحق عودة قريبة لتنعش بها الروح من جديد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وحوش الرغبة التي تعجز عن افتراس فأرة الكسل

نار للنداء!