09-يوليو-2020

الكاتب دومينيكو ستارنونه

أراد دومينيكو ستارنونه أن يجعل روايته "أربطة" (دار الكرمة 2019، ترجمة أماني فوزي حبشي) أقرب إلى بورتريهات مُتتالية تُقدِّم لعبة روائية تبدأ بشيء من التعقيد، وتنتهي إلى شيء من الوضوح الذي يصل إليه القارئ بعد عبوره عالمًا صغيرًا وضيّقًا يعيشُ حروبًا صغيرة وصراعات فكرية وأخلاقية نتيجتها مواجهات شرسة بين مفاهيم مُكرِّسة وأخرى جديدة، ليس بالضرورة أن يكون مصدرها جماعية فلسفية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية مُعيّنة، وإنّما إنسان واحد فقط.

قدّم ستارنونه روايته "أربطة" شحيحة الأحداث، والسبب تمحورها حول حادثة مُحدّدة تُروى عبر وجهات نظر مُختلفة ومُتشعِّبة يُقدِّمها أفراد العائلة

المفارقة أنّ الإنسان الذي وضعه الروائيّ الإيطاليّ في روايته، لا يبدو معنيًّا بتغيير الواقع، وهو ما يتناقض مع مفاهيمه بصفتها سلسلة أفكار تُحيل إلى إنسان متأمّل تسكنهُ الرغبة في الثورة على النُظم القائمة، سياسية كانت أو اجتماعية. فالحقيقة أنّ الأفكار والمفاهيم الصادرة عنه تبريرية وليست تحريضية، الغاية منها تبرير أفعاله التي تقودهُ إليها عوامل نفسية واضطّرابات مختلفة، بالإضافة إلى جهله في معرفة ذاته.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الجزائر عاصمة الثورة.. من فانون إلى الفهود السوداء": وثيقة هويّة

شكَّلت هذه البورتريهات أربع شخصيات وضعها ستارنونه ضمن حدود مكانية ضيّقة، بدأت بالمنزل وانتهت داخل حدود العقل بصفته ملاذًا للفكرة وأرشيفًا للأحداث المُعاشة. وضمن هذه الحدود التي ستكون فسحة رحبة للالتباس، رغم ضيقها ومحدودية أفقها، شيَّد الإيطاليّ مختبرًا سيحاول عبرهُ فهم طبيعة وأحوال وسلوك ومصائر هذه الشخصيات التي تتشارك مكانًا واحدًا للعيش باعتبارها عائلة تتألّف من أبّ وأمّ وابنيهما، تُخيّم الرتابة والملل والتكرار والبؤس على حياتها.

انطلق المؤلّف في محاولته هذه من الكيفية التي يصير عندها الشيء مألوفًا ثمّ عاديًّا ورتيبًا إلى أن يصير في نهاية المطاف مُملًّا لدرجةٍ تبعثُ على النفور شيئًا فشيئًا. وإذا كان هذا المألوف الذي سيصير عاديًّا بالنسبة إلى أفراد العائلة هو البيت ونمط حياتهم الرتيب، فإنّ العادي الذي سيصير رتيبًا ومُملًّا بالنسبة إلى ربّ العائلة، آلدو، سيكون زوجته فاندا التي يرى أنّها جعلت من البيت مكانًا لا يُمكن العيش فيه لوقتٍ أطول من ذاك الذي قضاه بين جدرانه برفقتها.

قدّم ستارنونه رواية شحيحة الأحداث، والسبب تمحورها حول حادثة مُحدّدة تُروى عبر وجهات نظر مُختلفة ومُتشعِّبة يُقدِّمها أفراد العائلة، آلدو وفاندا وابنيهما ساندرو وآنّا، ضمن قوالب سردية شكّلتها الكيفية التي ينظر عبرها كلّ واحد منهم إليها باعتبارها حادثة غيّرت حياتهم وقلبتها رأسًا على عقب، وأوصلتهم كعائلة إلى مرحلة الانهيار والتشتّت: مُغادرة آلدو البيت مُتخلّيًا عن زوجته وأبنائه بعد ارتباطه بفتاةٍ سينتقل ليعيش معها.

تسلَّمت فاندا دفّة السّرد راويةً ما دار بينها وبين زوجها عبر رسائل تسألهُ فيها عمّا دفعهُ لهجرانها. يتحوّل السؤال شيئًا فشيئًا إلى مساحة مفتوحة تُعرِّض فيها نفسها إلى مُحاكمة تسعى عبرها إلى معرفة ما إذا كانت مسؤولة في مكانٍ ما عمّا وصلت إليه أحوالهما: "ألم أفعل ما يكفي؟ هل مكثت في مفترق الطرق، فلم أنجح في أن أحاكي الأخريات وفي الوقت نفسه لم أظلّ كما كنت؟ أم أننّي بالغت؟ أصبحت جديدة بدرجة كبيرة، وتسبّب لك تغيّري هذا بالاضطّراب، جعلتك تخجل منّي، ولم تعد تستطيع معرفتي؟".

انتقلت فاندا من مرحلة مُحاكمة ذاتها ومسائلتها إلى تعذيبها وتحميلها ما لا تستطيع في الوقت الذي كان فيه سؤال "لماذا؟" يُطاردها طيلة الوقت. بالنسبة إليها، باتت الإجابة على هذا السؤال حاجة ملحّة: "إذا كنت ما زلت تعتبرني إنسانًا وليس مجرّد حيوان تبعده عنك بعصا، فأنت مدين لي بتفسير، ويَجب أن يكون التفسير مقبولًا". ولكنّ آلدو لا يُعطي لها بالًا، بل إنّه وبشكلٍ أدقّ، لا يعرف الكيفية التي سيجيب عبرها على تساؤلاتها، ليصل الأمر بها في نهاية الأمر إلى محاولة الانتحار مدفوعةً بشعورها بأنّ الأمر لا يُمكن أن يُقاس بالخيانة فقط، بل بالنقص الذي شعرت فيه منذ أن غادر آلدو البيت: "أنت ترغب في إقصائي، في ابعادي عن كلّ شيء".

تقوم رواية "أربطة" على أفكار مفاهيم جدلية للبطل، جميعها أقرب إلى وهم مفاده أنّه بزواجه وبقائه مع زوجته هناك شيء ما قد فاته

ظلّت فاندا تكتب له حتّى ملّت السؤال، وتكرّست عندها فكرة تقول أنّه لا نفع منه طالما أنّ آلدو بات في مكان مُختلف تمامًا يعيش فيه حياة مختلفة. في هذا الوقت، كان هو مُنشغلًا بفكرة ربّاها طويلًا في رأسه: إن غيّرت الموقع يتغيّر المنظور حتمًا، فتتغيّر الطريقة التي تنظر عبرها إلى العالم.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة حنان قصاب حسن

اكتشف آلدو بعد وقتٍ قصير أنّ تغييره لموقعه ونظرته لم يُغيِّرا ما فيه، بل وعلى العكس تمامًا كرّستهُ هذا التغيير كائنًا صامتًا مُشتّتًا لا يتكلّم إلّا حينما يشعر بضرورة تبرير فعلته بالإشارة المُستمرّة إلى تعفن أصاب روحهُ بسبب روتين حياته أوّلًا والَخراب النفسيّ الذي تركه النظام الاجتماعيّ داخله ثانيًا. بينما ترى فاندا أنّ ما فعله لا علاقة له بكلّ هذا لأنّه يعود أساسًا إلى جهله بنفسه وعدم ثقته بها، واضطّراباته النفسية.

يُعبِّر آلدو صراحةً عن امتعاضه من البيت ونمط العيش فيه الذي يعود أساسًا إلى فاندا التي يُجادلها مُحاولًا تغيير قناعاتها بشأن زواجهما الذي يجب ألّا يكون مُعيقًا لرغباتهم وحريّتهم بما في ذلك إقامة علاقات خارج إطاره، خصوصًا وأنّه يرى أنّ مفهومًا مثل الإخلاص ليس إلّا: "قيمة تتمسّك بها البرجوازية الصغيرة". هنا، يتحوّل الصدام بينهما إلى صدام قناعات تشعل حروبًا صغيرة وسلسلة تشتدّ وطأتها حينما يطرح آلدو قناعته بشأن الزواج والحبّ والخيانة التي يرى أنّها لن تكون حقيقية إلّا: "عندما يخون المرء غريزته واحتياجاته، جسده ونفسه"، وهو ما تراه فاندا: "هراء".

تقوم أفكار آلدو ومفاهيمه الجدلية جميعها على فكرة أقرب إلى وهم مفادها أنّه بزواجه من فاندا وبقائه معها هناك شيء ما قد فاتهُ. انطلاقًا من هذه الفكرة ولدت أفكار ومفاهيم جديدة عمّقت من المسافة الفاصلة بينهما، حتّى بعد عودته إليها وبدء حياة جديدة لن تكون إلّا حياة قائمة على الشكّ، أو الخوف: "كان كلّ منهما يَختبئ من الآخر، ولكن كان كلّ منهما يترك ما يُهدِّده لأن يُكشف في أي لَحظة"، يقول ابنهما ساندرو في توصيفه لأحوالهما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أسرار عن همنغواي بعد 59 سنة على رحيله

الطغيان.. أثر الشعر