30-أكتوبر-2018

فاروق سوريت/ تركيا

يحرص بشار الأسد في جميع مقابلاته الصحفية، كما في لقاءته الدبلوماسية على تذكير مستمعيه بالوضع القانوني الذي يشغله الرجل كرئيس لدولة عضو في الأمم المتحدة، تتمتع بكامل حقها القانوني في ممارسة سيادتها على سكانها ومواردها في الحيز الجغرافي العائد إليها، أي حقها في تطبيق قوانينها المحلية على رعاياها بالشكل والطريقة التي تراها مناسبة. ففي كل مرة يجد فيها الأسد نفسه محشورًا أمام الاستحقاقات السياسية التي قد تنال من سلطته المطلقة يطلع على محاوريه ببطاقة "سيادة الدولة " الحمراء، التي لم يتوانَ أن يشهرها مؤخرًا في وجه مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف: "إن سوريا متمسكة بحقها الذي كفلته المواثيق الدولية، بعدم السماح لأي طرف خارجي بالتدخل في شؤوننا الداخلية".

كشف الأسد في خضم الدفاع عن سلطته المملوكية عن بعد نظر وعمق بصيرة في سبر الإمكانيات الكامنة في مفهوم "سيادة الدولة"

كشف الأسد في خضم الدفاع عن سلطته المملوكية عن بعد نظر وعمق بصيرة في سبر الإمكانيات الكامنة في مفهوم "سيادة الدولة"، الذي مكنّه من اقتراف جملة متنوعة من الجرائم التي  تبدأ  من جرائم الحرب، مرورًا بجرائم الإبادة جماعية، وصولًا إلى جرائم ضد الإنسانية، دون أن يتمكن أحد من سوقه إلى العدالة الدولية، لأنه وجد وكيلًا دوليًا مثل السيد بوتين راغبًا وقادرًا بالتغطية على جرائمه، ما دامت تتم ضمن الحمى الشخصي لدولته، وما دام ضحاياه يملكون كل ما يجعل من الضحية قربانًا مثاليًا على المستوى الدولي، عبر القيام بشيطنتهم ونزع الطابع الإنساني عنهم من خلال وصمهم بلعنة الإرهاب الناقل للعدوى والعابر للحدود.

اقرأ/ي أيضًا: هرطقة الأسد التشريعية.. المرسوم 16 مدخلًا

يشعر الأسد هذه الأيام، خاصة بعد تزايد الحديث عن الانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية، بالخذلان والإحباط من المجتمع الدولي بشقيه، سواء تجاه دولة مثل روسيا الذي أجازت له رخصة القتل تحت مظلة السيادة، أو تلك التي تواطأت معه على القيام بها تحت نفس المبدأ؛ أمريكا، مادام لم يخلَّ بالالتزام الذي قطعه على نفسه بحماية أمن اسرائيل. لذا تراه يسارع إلى وضع خمسة شروط على عمل وتشكيل اللجنة كي ينسفها من الداخل، حسب ما صرح رئيس هيئة التفاوض المعارضة السيد نصر الحريري، "فهو يشترط بحصوله على أغلبية أعضاء اللجنة وعلى تمتعه بحق النقض وعلى أن تكون رئاسة اللجنة بيده، كما يرفض رفضًا قاطعًا القيام بإعداد دستور جديد، إنما القيام بإجراء بعض التعديلات على دستور 2012، وأخيرًا يصر على رفض أي دور فاعل للأمم المتحدة". الأمر الذي يدعونا للتساؤل عن الشيء المنفر والكريه في دستور دولته، الذي يحاول أن يخفيه عن عيون العالم، كي لا يدفعه للتخلي عنه، ومن ثم خسارته لأختام سلطته المملوكية المكرسة له بموجبه.

في محاولة من الأسد لطمس طبيعة النظام السياسي الذي يدير شؤون دولته وفقًا للدستور كنظام رئاسي مطلق أو مستبد، اختار له صفة الجمهوري ليحرف أنظارنا عن الأسرة الأسدية التي يأتي منها رئيس الجمهورية، وكي يخفي عمدًا طبيعة الصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها والعلاقة التي تربطه بالسلطات الأخرى. قد تُحسب لبشار الأسد جرأته في دستوره المعدل 2012 على إيقاف التمييز بين السوريين القائم على  أساس من عقيدة البعث، التي كانت تقوم به السلطات لتجريم كل من يرفض أو يتحايل على اعتناقها، عبر إلغائه للمادة الثامنة  ـ حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع ـ من دستور السيد الوالد 1973، ربما لاعتقاده أنها أدت المهمة المطلوبة منها في تدجين المجتمع بالقبول بسلطة آل الأسد دون منازع، واستبدلها بمادة تتحدث عن فتح الفضاء السياسي أمام السوريين: "يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة المطلقة عبر الاقتراع"، مع علمه المسبق أن دولته قد نجحت في تحويل المجتمع السوري إلى مجتمع من "الهشيم" حسب توصيف الدكتور أحمد برقاوي، لا يقوى أفراده على التفكير خارج العقيدة البعثية التي أممت الفضاء الاجتماعي والسياسي لصالح عائلة الأسد، وجعلت منهم ذاتًا إلهية تمارس حضورها في وجدان السوريين وعقلهم الباطن .

لا أدل على تلك العطالة السياسية والروحية من تصريح أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية عام 2014، بعد تعديلات دستور 2012، إذ أفاد بأنه لم يطاوعه قلبه بأن يدلي بصوته الانتخابي لنفسه، لأنه لا يستحقه، في موقف ينم عن مدى الانسحاق الذاتي وعدم الشعور باللاجدوى التي أصابت عقل هذا الشخص وروحه، لا لأنه يقوم بدور الكومبارس الرئاسي لإنجاح هزلية الانتخابات الرئاسية، وإنما لأنه لا يصدق تلك الخديعة الأسدية القاضية بالتعددية السياسية وممارسة الديمقراطية، مع معرفته الكاملة بالكمين الذي نصبه له النص الدستوري نفسه، الذي أتاح التعددية السياسية في مادته الثامنة /فقرة ألف/، وعطلها عبر المادة الرابعة والخمسين: "تبقى التشريعات النافذة والصادرة قبل إقرار هذا الدستور سارية المفعول إلى أن تعدل بما يتوافق مع أحكامه على أن يتم التعديل خلال مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات ميلادية". أما هذه التشريعات النافذة التي تعهد الأسد بإزالتها فلم تكن سوى قانون الطوارئ الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم / 51/ لعام 1963، قانون إحداث المحاكم العسكرية لعام 1968، قانون إحداث محكمة أمن الدولة لعام 1968، التي تعتبر الجذر الروحي والسند القانوني لدولة الأسد البوليسية التي لا تعترف بالمعارض السياسي إلا باعتباره معارضًا ميتًا أو منفيًا، والتي وإن أزالها أزال سبب وجوده في منصب مقام الجمهورية الذي يمسك بتلابيبه عنوة.

قام بشار الأسد بإعادة الاعتبار لمبدأ سيادة الشعب باعتباره المصدر الرئيسي لكل التشريعات، بعد أن ظل لفترة طويلة أسيرًا لدى العقيدة البعثية، النسخة المعاصرة لنظرية التفويض الإلهي لدى ملوك القرون الوسطى، إلا أن ما أعطاه الأسد بيد سرعان ما أخذه باليد الأخرى، عبر إفراغ السلطة التشريعية ممثلة بمجلس الشعب من فعاليتها الحقيقية كمشرعة للقوانين ومراقبة لعمل السلطة التنفيذية. فحين منح الدستور مجلسَ الشعب الحقَّ بإصدار القوانين أعطى الحق لرئيس الدولة بتعطيلها، عبر منحه الحق بتوقيعها، أي بإصدارها، وإلاّ اعتبرت لاغية، وقام بردها إلى المجلس من جديد مشترط على أعضائه بالتوصيت عليها بأغلبية الثلثين، دون أي اعتبار لنسبة التوصيت التي أقرت به حتى لو تجاوزت الثمانين بالمئة.

في مسعاه لابتلاع صلاحيات السلطة التشريعية الأخرى، ابتدع الأسد فكرة المراسيم التشريعية، التي ماهي إلا مشاريع قوانين صاغها بنفسه

في مسعى الرئيس السوري لابتلاع صلاحيات السلطة التشريعية الأخرى ابتدع فكرة المراسيم التشريعية، التي ماهي إلا مشاريع قوانين صاغها بنفسه وأصر على انتزاع موافقة مجلس الشعب عليها، دون يسمح له بمناقشتها أو إجراء أي تعديل عليها، الأمر الذي يضع المشرّع إما تحت وطأة الشعور بالذنب تجاه الرئيس الذي تفضل عليه بفرصة الدخول إلى المجلس النيابيّ، أو الشعور بالخوف من تبعات رفض إملاءات الذات الرئاسية، ومن ثم الإجراءات العقابية لأجهزتها البوليسية. أما في مسعاه لتعطيل السلطة الرقابية لمجلس الشعب على عمل الرئيس وفريقه الوزاري، فقد حرم أعضاء المجلس من حقهم في منح الثقة أو عدمها للتشكيلة الوزارية التي يقترحها، أو لبرنامج الوزارة التي يشرف على خطوطه العامة، مع أنه سمح للمجلس بمناقشة برنامج الوزارة، الأمر الذي لا يمكن تفسيره، إلا باعتبار الرئيس لحق أعضاء المجلس في رفض بعض الوزراء أو البرنامج الوزاري بمثابة التصويت على الثقة به، وهو الأمر الذي لم يكن معد الدستور ليتسامح به إزاء الانتقاص من الذات الرئاسية المتعالية.

اقرأ/ي أيضًا: سيكولوجيا الجلاد.. التعذيب بوصفه فنًّا

لقد نجح واضع الدستور إلى حد كبير في عكس العلاقة الاستعلائية التي تربط مقام الرئاسة مع الهيئات الدستورية الأخرى، ففي حين يحق لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب لمرة واحدة على الأقل، وحقه في وضع المراسيم التشريعية بالرغم من أنف المجلس، وحقه في ممارسة التشريع خارج دورات انعقاده، فإنه يمنع على  أعضاء المجلس حقهم الرقابي المتمثل في منح الوزراء الثقة عند تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية، مع أنه يحق لهم نظريًا حجب الثقة عنهم، وهو أمر لم نسمع عنه طيلة الست السنوات التي مرت على تطبيق مفاعيل  الدستور، رغم الهجوم الهستيري على وزير الأوقاف الحالي محمد عبد الستار السيد على خلفية المرسوم التشريعي رقم 16، كما لا يحق لهم محاسبة الرئيس على الأعمال المتأتية عن مباشرته لمهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، مع سكوت متعمد من معد الدستور عن المقصود بالخيانة العظمى، وهو أمر يمكن تصنيف حدوثه في مرتبة المستحيلات السبع، لأنه منوط بتوفر مجموعة شروط أولها: التقدم باقتراح المحاسبة من ثلاث أعضاء المجلس الموالي للرئيس وثانيًا: إجبار الأعضاء على  التصويت العلني بدلًا من التصويت السري عبر الأوراق  ضد الرئيس، و لربما في حضوره ليعرف الرجل العدو من الصديق ويبيده في الحال، وأخيرًا: إيكال مهمة محاكماته للمحكمة الدستورية العليا التي يعين أعضاءها السبع رئيس الجمهورية.

يشعر قارئ جسد الدستور الحالي بتجذره في نص سابق عليه هو دستور السيد الوالد لعام 1973، فكلما أراد هذا الدستور الانطلاق للتماهي مع الدساتير الأوروبية الحديثة بالحديث عن حقوق الإنسان والاعتزاز بكرامته بوصفه شخصًا لا يكمن التعرف عليهم إلا كصحاب حق، نراه يهرول إلى فكرة الواجب التي لا ترى في أفراد الدولة الأسدية سوى عبيد أو خدم، وإلا كيف نفهم حديثه عن العمل مثلًا باعتباره حقًا وواجبًا معًا، فإذا كان العمل حقًا للمواطن في الدولة فهذا يعني أن الفرد يمتلك الخيار في أن يعمل أو لا يعمل، فاذا ما اختار الفرد أن لا يعمل، فعندها وبكل بساطة من حقه أن يطالب بحقوقه التي تكفلت له الدولة بتقديمها، باعتباره مواطنًا في دولة حق أي قوانين، وما عليها عندئذ إلا بأن تدفع له مالًا بما يحفظ حياته من الموت ويحفظ كرامته من الإهانة خوفًا من لجوئه للتسول، أما إذا كان العمل واجبًا فهذا يعني أنه مكره على العمل وتأمين قوت يومه، فإن لم يجد عملًا فلن تتكفل الدولة بإعانته، وهو الأمر الذي يؤكده عدم وجود نظام كفالة اجتماعي للعاطلين عن العمل في دولة الأسد، رغم تشدق النص بالحديث عن ضرورة تأمين الدولة العمل لجميع مواطنيها .

واهم هو الأسد وأعوانه إذا كانوا يعتقدون أن المجتمع الدولي سيقبل بهم كما كانوا على سيرتهم الأولى مجموعةً من المارقين الجالبين للفوضى

يعتقد القائمون على إدارة دولة الأسد المملوكية أنه ما يزال بمقدورهم إعادة انتاج دولتهم كدولة واجب من العيار الكبير، أي كدولة سادة وعبيد، بعد أن انتفض السوريين على شرط عبوديتهم إلى الأبد، عبر التمترس وراء دستور 2012 بحجة سيادة الدولة التي أودت بحياة ما يقارب المليون سوري، غير مبالين بالإنصات لصوت العالم الذي يدعوهم إلى كتابة دستور، قوامه عقد اجتماعي جديد يستند إلى فكرة المواطنة والحقوق المتساوية للجميع.

اقرأ/ي أيضًا: إجرام السلطة وقتلتها الكثر.. محرقة سوريا نموذجًا!

واهم هو الأسد وأعوانه إذا كانوا يعتقدون أن المجتمع الدولي سيقبل بهم كما كانوا على سيرتهم الأولى مجموعةً من المارقين الجالبين للفوضى والدمار وموجات أخرى من المهاجرين، ومن الإرهابين العابرين للحدود، دون أن يلتفت إلى معالجة أوضاع دولتهم الطفيلية المولدة للموت والدمار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بشار الأسد واعظًا.. جناية السلطة ضد النص والتفسير!

ترميم تماثيل الأسد.. استثمار عبثي في رموز السلطة