23-أغسطس-2020

مؤلفة كتاب "دموع بيضاء ندوب سمراء" روبي حمد (وسائل التواصل الاجتماعي)

في 17 شباط/فبراير 2018، نشرت المؤرخة المعروفة والبروفسورة في جامعة كامبريدج، ماري بيرد، تغريدة عبر حسابها الشخصي في تويتر، تعليقًا على التقارير التي انتشرت وقتها، عن فضيحة اعتداء موظفي الإغاثة في منظمة أوكسفام على عاملات الجنس، بعد زلزال هايتي عام 2010. "بالطبع لا يمكن للمرء أن يتغاضى عن السلوك (المزعوم) لموظفي أوكسفام في هايتي وأماكن أخرى. لكنني أتساءل عن مدى صعوبة الحفاظ على القيم "المتحضرة" في منطقة منكوبة. وعمومًا ما زلت أحترم أولئك الذين يذهبون للمساعدة، في أماكن لم يكن معظمنا ليخطوا فيها".

المرأة البيضاء يمكن أن تكون حليفة، متفهمة، طالما لم يتم تهديد هويتها العرقية. وهذا لا يعني أن بكاءها ليس صادقًا. على العكس، فإنه قد يكون دليلًا على صدقها، من ناحية تعبيره العفوي عن الامتياز الأبيض

كانت تلك تغريدة مخيبة للآمال من الأستاذة في جامعة كامبريدج، أثارت انتقادات واسعة من أكاديميات وناشطات نسويات ملونات على غرار زميلتها في نفس الجامعة بريامفادا جوبال، التي اعترضت على مداخلة بيرد، ووصفتها بأنها "الطريقة العنصرية النبيلة اللطيفة" المنتشرة في الأوساط الأكاديمية.

لم تدفع الانتقادات الواسعة بيرد للاعتذار، لكنها نشرت صورة سيلفي، مع آثار دموع واضحة، وكتبت فوقها: "أنا لست المستعمر المتوحش كما تعتقدون.. وإن كان لا بد أن تعرفوا، فإنني جالسة هنا أبكي". صورة دفعت عددًا كبيرًا من الناشطات والناشطين للدفاع عن النسوية البريطانية، حيث اعتبروا أنها تتعرض للتنمر، وأنها من خلال الصورة، تشارك جمهورها "لحظة ضعف جلية".

لكن، وبالنسبة للكاتبة الأسترالية روبي حمد، فإن المدافعين المتحمسين أخطأوا تقدير الموقف، لأن تلك الصورة لم تكن تمثل لحظة ضعف على الإطلاق. على العكس، وكما توضح في كتابها الصادر بالإنجليزية في عام 2019، بعنوان "دموع بيضاء، ندوب سمراءWhite Tears, Brown Scars، فإن بيرد كانت من خلال الصورة عينها، تستعرض واحدة من مشاهد القوة والسلطة، بالنسبة لامرأة بيضاء. حيث طالما كانت الدموع، باعتبارها المجاز الأقصى لجمال الضعف الأنثوي، استراتيجية تتبعها النساء البيض من أجل إسكات النساء الملونات، ومواجهة أي إدانة بالعنصرية. كانت هذه واحدة من أمثلة كثيرة، تكثف من خلالها حمد أطروحتها الجديدة، لشرح "كيف خانت النسوية البيضاء النساء الملونات؟".

الدموع كاستراتيجية

إن صورة السيلفي التي نشرتها بيرد لنفسها وهي تبكي، وغيرها من الأمثلة، لم تكن مجرد لحظة عابرة، بل ترتبط بالنسبة لحمد بتاريخ طويل من خلق الأنوثة البيضاء.

فمن خلال نشر لقطة مقرّبة لها وهي تبكي، فإن بيرد مثلها مثل كثير من النسويات البيض، تحولت من هويتها "الأدنى"، كامرأة، إلى هويتها "الأعلى" ،كبيضاء، ومن دورها المعتاد كناقدة نسوية إلى دور الفتاة "الهشة" التي تمر في محنة. حيث لم تكتف فقط حسب المؤلفة الأسترالية بإدامة الخطاب المهين عن البلدان غير الغربية باعتبارها "غير متحضرة"، ولكن في اللحظة التي بدأت فيها بالبكاء، تغير الحدث بأسرِه. لم يعد الأمر يتعلق بما قالته أو لماذا أزعج العديد من الأشخاص الملونين. لقد أصبح يتعلق بمشاعرها وبراءتها وكونها ضحية، وبالتأكيد "أنوثتها البيضاء الاستراتيجية".

إنها قاعدة واضحة، فبمجرد أن تبكي المرأة البيضاء مع أي تهديد تشعر به، ستعود الأضواء جميعها إليها، بينما سيظهر ذلك في المرأة الملونة أسوأ ما فيها. وبالتالي فإن المرأة البيضاء يمكن أن تكون حليفة، متفهمة، ومدافعة عن الحقوق المشتركة، طالما لم يتم تهديد هويتها العرقية. وهذا لا يعني أن بكاءها ليس صادقًا. على العكس، فإنه قد يكون دليلًا على صدقها، من ناحية تعبيره العفوي عن الامتياز الأبيض.

تستشهد حمد بدراسة بعنوان "عندما تبكي المرأة البيضاء.. كيف تضطهد دموع النساء البيضاوات النساء الملونات" لموتوانسي أكسبادي، لتؤكد أن تاريخ "الأنوثة البيضاء" الطويل، قام على ثنائية الفضيلة والخير، لكنهما للمفارقة مرادفان للعجز والضعف في أعلى صورهما. وهو العجز الذي يحكم في نظرها طبيعة الأنوثة البيضاء بشكل صارم، ويتجلى بصورته الرمزية القصوى من خلال البكاء، والدموع التي يتم استحضارها في لحظات التهديد، وفي الحوارات اليومية في المؤسسات الأكاديمية والمؤتمرات والسوشال ميديا عن العنصرية. حيث إن قبول المرأة البيضاء لهذه الصورة، ككائن هش وبريء، هي أساس امتيازها العنصري.

لقد حدد الامتياز الذكوري حسب حمد وأكسبادي، للمرأة طبيعة أن تكون امرأة، بينما حدد الامتياز الأبيض، واقع المرأة البيضاء باعتباره الطبيعة الكونية لأن تكون امرأة. فيما تبقى المرأة الملونة عرضة لهاتين الطبقتين من القهر والاضطهاد. وباختصار فإن المرأة الملونة عرضة لعمليات متواصلة من التعريف العرقي والجندري، بشكل لا يمكن فيه أن يتم أخذها على محمل الجد.

بالتالي فإن الظهور العاطفي للمرأة البيضاء، كضعيفة وهشة، يستدعي تدخل "المتحمسين" لمساندتها، لكنه ينطوي على صورة أخرى في حالات الصدام التي تشير إليها حمد، وهي أنه يُنظر إلى النساء ذوات البشرة الملونة بطريقة سلبية تعتبرهن أقل شأنًا، عدوانيات، مخيفات، وباردات. فعندما تتصرف امرأة ملونة تنعكس أفعالها على مستوى ما على مجتمعها العرقي، ولا يمكنها أن تفصل هويتها العرقية عن ذاتها كامرأة.

المرأة الملونة وتاريخ "الأنوثة البيضاء"

في عام 2018، تلقت روبي حمد، رسالة عبر حسابها الشخصي في تويتر، من الصحفية الأمريكية الأفريقية ليزا بينسون، تناقش مقالًا كانت قد نشرته قبل ثلاثة أشهر في صحيفة الغارديان البريطانية. كان المقال بعنوان "كيف تستخدم النساء البيض الدموع الاستراتيجية من أجل إسكات النساء الملونات"، وشرحت فيه الكاتبة الأسترالية كيف تقوم النساء البيض باستخدام بكائهن كـ"سلاح" أو استراتيجية دفاعية في النقاشات العرقية، وفي مواجهة أي نقد أو سجال مع النساء السود أو الملونات، وهو ما أثار جدلًا واسعًا وغير مسبوق بالنسبة لكاتبة مثلها، كما توضح هي نفسها في غير مرة.

عمومًا، لم تكن بينسون تريد إجراء نقاش أو إبداء رأي سريع في المقال، ولكنها كانت تشير إلى قصة شخصية صادمة. لقد أعادت نشر المقالة عبر صفحتها في فيسبوك، ما لم يرق لزميلاتها البيض، ممن قدمن شكوى ضدها، قبل أن ينتهي الأمر بوقف عقدها بتهمة "المساهمة في خلق بيئة عمل عدائية، استنادًا إلى العرق واللون".

بعد سنة تقريبًا، يبدو أن ردود الفعل تلك قد ألهمت حمد لتفسير أطروحتها، مقدمة تصورًا أعم عما تعتقد أنه موقع المرأة الملونة في الغرب اليوم، في سياق تساهم فيه النساء البيض في الاضطهاد العميق للنساء الملونات، وتجميل صورة تهميشهن، في زمن صوتت فيه نسبة كبيرة من النساء البيض لصالح الرئيس اليميني الشعبوي، دونالد ترامب.

تجادل حمد أنه وبدون إقرار النسوية البيضاء الكامل بآثار الاضطهاد العنصري والاستعماري والتعامل مع آثارهما، والاعتراف بأن ماضيهما يحدد علاقات السلطة ونمط العلاقة بين النساء البيض وغير البيض، فإنه "لا يمكن أن تكون الحركة النسوية الغربية السائدة أكثر من تكرار آخر للفوقية البيضاء".  فيما تقوض الادعاء الراسخ في بعض الأطروحات النسوية، بشأن كون النسويات البيض الحليفات، لا يمكن أن يكن عنصريات، ربما في استغلال للنقد الموجه للعنصرية العسكية (Reverse Racism)، حيث تم اعتبار أن النساء البيض من ضحايا التمييز، لا يمكن أن يستفدن من علاقات السلطة التي يفرضها تاريخ وحاضر العنصرية. حيث غالبًا ما يتم إخفاء قمع النساء الملونات تحت مظلة "الأختية" ((Sisterhood، التي اُتهمت حمد نفسها بتقويضها.

على العكس، تشير حمد بكثير من الأمثلة، وبلغة مباشرة وسلسة، إلى موقع المرأة البيضاء الراسخ في الترتيب العنصري، باعتبارها غير منفصلة عن الامتياز الأبيض، الذي يظهر بشكل مباشر في الحالات التي تشعر فيها بالتهديد أو عدم الارتياح، أو تتعرض لنقد يتعلق بالعنصرية والتمييز. كما تدعو المؤلفة الأسترالية بجرأة إلى أن على النسويات البيض الانكشاف على دورهن المفترض، الذي أناطه بهن التراث الاجتماعي للعنصرية والتفوق الأبيض، بأنهن يعرفن ما هو الأفضل للنساء غير البيض وأن وظيفتهن هي إنقاذهن من أنفسهن. حيث تجادل بأن الترتيب الذكوري في الغرب اليوم، فرض نوعًا من الاعتقاد بأن المرأة البيضاء في أزمة وصراع دائم مع المرأة الملونة في تارة، أو أنها وصية عليها في تارة أخرى.

في المقابل، ورغم الإشارات المتواصلة من بعض رائدات النسوية الغربية، إلى التهميش المزدوج وإلى التقاطعات بين العنصرية والتمييز على أساس الجنس، فإنها غالبًا ما بقيت مجادلة سطحية، دون أن يتم تطبيقها ضمن رؤية نسوية فاعلة، حيث تنتهي نفس النسويات إلى إدانة النساء الملونات، مع أي حديث مباشر عن دور النسوية البيضاء في تهميش النساء غير البيض والإبقاء على بنى السلطة القائمة.

يتميز كتاب حمد، بأنه لا يستند إلى تعريفات صارمة لمفاهيم مثل "الملونين" و"المرأة الملونة" أو "المرأة السمراء"، بقدر ما يتعاطى بمبررات نظرية واضحة مع مرونتها وديناميكياتها، ومع التحولات التي طرأت عليها، مستشهدًا بمسارات تاريخية على غرار صناعة العربي كهوية فرعية منفصلة بعد تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر.

 

لقد حدد الامتياز الذكوري حسب حمد وأكسبادي، للمرأة طبيعة أن تكون امرأة، بينما حدد الامتياز الأبيض، واقع المرأة البيضاء باعتباره الطبيعة الكونية لأن تكون امرأة

يسلط الكتاب الضوء على ضرورة فهم مسار خلق الأنوثة البيضاء في نفس الترتيب الاجتماعي الذي تم فيه رسم تفوق الرجل الأبيض. وفيما يبدو فإنه يقترح إستراتيجية لا بد من أخذها على محمل الجد، لا تقتصر على التغني بالبلاغة النسوية بشأن التقاطع بين الذكورية والعنصرية والاستعمار، ولكنها تؤمن بأن إبقاء تلك التقاطعات معلقة، بدون نقاشها والإقرار بها وفهم تأثيراتها على موقع المرأة غير البيضاء في الغرب اليوم، لا يجعل الحديث عن نسوية للجميع ممكنًا.