21-ديسمبر-2016

تقفل المكتبات في عمان وتتحول إلى أكشاك صغيرة أو توزع الكتب على الرصيف (خليل مزرعاني/أ.ف.ب)

قد لا تكون عمّان مشهورة بسوق منفرد أو حرفة عريقة في مجال بيع الكتب القديمة والمستعملة بخلاف بعض العواصم والمدن الأخرى كالقاهرة وأزبكيّتها، أو شارع المتنبي في بغداد أو شارع "الصحّافين" في الشقّ الآسيوي من إسطنبول (وصحاف في التركية تعني بائع الكتب المستعملة، ويقابلها في العربيّة الآن كلمة "ورّاق")، أو شارع كولج المعروف باسم "مستعمرة الكتب" في كولكاتا الهنديّة.

أشهر دكاكين بيع الكتب المستعملة في عمّان هي مكتبة "خزانة الجاحظ" والتي أنشأها ممدوح المعايطة

وهي شوارع وأزقّة صارت لشهرتها عناوينَ أو مواضيعَ لأعمال أدبيّة شهيرة. ولكنّك مع ذلك لا تعدم أن تجد في وسط البلد عددًا من الدكاكين المغمورة أو "البسطات" الموسميّة التي تبيع الكتب المستعملة وتجد لها روّادًا أقلّ ما يمكن أن تصفهم به هو أنّهم مثيرون للفضول. كما أنّ الحال التي آلت إليها هذه الصنعة تثير القلق والحزن، لأنّها تنذر بتلاشي هذه الثقافة تمامًا، بعد أن بقي دكّانان أو ثلاثة فقط تختصّ بهذا المجال في وسط البلد في عمّان.

لعل أشهر دكاكين بيع الكتب المستعملة هي مكتبة "خزانة الجاحظ"، مقابل مبنى البريد القديم في وسط البلد في العاصمة عمّان، والتي أنشأها ممدوح المعايطة، ابن الكرك، الذي شارك مع جدّه حسب الرواية التي يتداولها الأحفاد، في حرب فلسطين، وعاد إلى عمّان لاجئًا ليسترزق من مهنة بيع الكتب التي افتتن بها مرّة حين ذهب إلى بيروت للعلاج. ولا يزال هذا "الكشك" الصغير قائمًا، له روّاده وزوّاره، وإن كان في السنوات الأخيرة قد بدأ بتقديم الكتب الجديدة وعرضها.

وحين تذهب للشراء من هذا الكشك، وتسأل عن سعر كتابٍ ما وتشعر أنّه غالٍ قليلًا، يبادرك أحد القيّمين عليه ليقول لك: "لدينا برنامج لاستعارة الكتب، مقابل رسمٍ صغير، إن كان السعر لا يناسب ميزانيتك". وحين تسألهم عن السبب الذي يدفعهم لتقديم هذا الخيار للمشترين يقولون لك: "نحن نفضّل نشر الثقافة على ربح المال". وقد أكسبهم خيار "استعارة الكتب" هذا شيئًا من "ولاء" الزبائن لاقتناع البعض برسالة القائمين على خزانة الجاحظ.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الآخرين

وبجانب حلويّات حبيبة الشهيرة في وسط البلد، تجد مكتبة المحتسب، والتي وجدت فيها قبل سنوات عديدة الترجمة العربيّة لرواية "موبي ديك" لهرمان ملفل، والتي أنجزها إحسان عبّاس، وذلك بعد أن أضناني البحث عنها في مكتبات وسط البلد. وبالصدفة ولجت إلى هذه المكتبة فوجدت في صدرها غرفة صغيرة تحوي كتبًا عديدة بـطبعات قديمة من مصر وبغداد وبيروت، يعود معظمها لخمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثمّ تجوّلت أكثر بين الرفوف وعثرت على نسخة قديمة من الترجمة العربيّة لموبي ديك، صادرة عن مؤسسة ناصر للثقافة في بيروت عام 1980.

"ألترا صوت"، التقى بصاحب المكتبة التي افتتحت عام 1963 وسط البلد، أمين المحتسب، الذي ورث المكتبة عن والده محمّد المحتسب، والتي كانت بدايتها أصلًا في مدينة يافا عام 1953 وكان لها أيضًا فرع آخر في مدينة القدس. ولكن حين دخلنا المكتبة هذه المرّة، وجدنا أن الأنوار في القسم الداخلي من المكتبة مطفأة، فسألناه عن السبب، فأخبرني: "إسراف وتكاليف لا داعي لها، لا أحد يدخل المكتبة هذه الأيّام، ولا أحد يسأل عن الكتب والطبعات القديمة".

سألناه عن أولئك الذين لا يزالون يتردّدون إلى مكتبته، فأكد أن: "مجموعة نادرة من النّاس، تشبه كتبي القديمة، يبحثون عن طبعات قديمة لكتب تراثيّة لأنهم يشتكون من اجتزاء الطبعات الحديثة لبعض الكتب" وذكر لي أمثلة من عنده، كترجمات "الكوميديا الإلهيّة" لدانتي أو "مقامات الحريري" وبعض الكتب التراثيّة في التصوّف، والتي نالها الكثير من الحذف والاختصار في الطبعات الحديثة. وقد أثار فضولي أثناء الحديث مع السيّد أمين، طالبٌ تبيّن أنّه في الثانويّة، يقضم من سندويشة "فلافل" بيده ويتجوّل بين الكتب ويسأل عنها. أخبرني السيّد آمين أنّ هذا الشاب اشترى منه مئات الكتب القديمة، وأنّه من أعزّ الروّاد لديه وأكثرهم ثقافة.

أغلقت عديد المكتبات وأكشاك الكتب القديمة والمستعملة في عمّان، ولم يبق سوى ثلاثة أو أربعة تشكو قلّة القرّاء وضعف الدعم

وقد حاولت أثناء تجوالي في وسط البلد أن أتحدّث مع صاحب مكتبة الأصدقاء لبيع وشراء الكتب المستعملة، ولكنّي وجدت أبوابها مغلقة، وكأنّها لم تفتح منذ فترة. وأخبرني جيران الدكّان أن صاحبها قد توفّي، وكنت قد اشتريت من هذه المكتبة قبل عدّة سنوات أيضًا طبعة ممتازة من ترجمة وديع البستاني لأشعار طاغور، والعديد من المجموعات القصصية المترجمة. وقد حاولت التواصل مع ابنه ياسر، الذي رافق والده سنوات طويلة في المكتبة، ولكن دون جدوى. حزنت لذلك، وساءني أن يكون حبل المدينة مقطوعًا مع أهلها. كيف يمكن أن تمرّ وفاة ورّاق وجامع كتب أمضى في المدينة نصف قرن من الزمان كأنّه ما كان.

تغيّرت منطقة وسط البلد كثيرًا. شرطيّ السير مستعدّ لتحرير المخالفات، صوت بائعي العصائر الطبيعية ليس صاخبًا كما كان قبل سنوات، ساحة المسجد الحسيني خالية من العمّال، أمّا مكتبات وأكشاك الكتب القديمة والمستعملة فقد أغلق الكثير منها، ولم يبق سوى ثلاثة أو أربعة تشكو قلّة القرّاء وضعف الدعم، وبدا لي أنّ هذا السوقَ في عمّان، يلفظ حروفه وكتبه الأخيرة، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي أشعر بها، حقًّا، باحتضار المدينة.

اقرأ/ي أيضًا:

الأردن.. الثقافة في خبر كان

أصوات.. من طرب عالحطب إلى "أوبرا البلكونة"