06-ديسمبر-2016

أنسي الحاج، غادة السمان، غسان كنفاني

أولا فلنحاول تصنيف مبررات من يهاجمون (يهاجمن) أو يهزؤون أو يسخرون من نشر غادة السمان لرسائل أنسي الحاج لها، وهو هجوم في حقيقته امتداد لهجوم مستمر عليها مذ نشرت رسائل غسان كنفاني.

الفئة الكبرى وكما هي العادة في عالم السوشال ميديا لا يظهرون مبررات واضحة، هم ينضمون للجوقة التي تقول في شأن رائج، ولا يبدو أن كثيرًا من التفكير سبق التهكمات والهجمات الكثيرة، وهي في شق كبير منها تكرار أو تنويعات على هجوم أعجبهم وقرأوه، وبالتالي ليس هنالك ما يناقش على مستوى ثقافي أو أدبي هنا، لأن هذا الفعل متصل بدينميكيات السوشال ميديا وعوالمها الخاصة، وجمع الإعجابات والتظارف وإبداء الرأي في كل شأن يشغل العامة.

الفئة الكبرى، كما هي العادة في عالم السوشال ميديا، ينضمون للجوقة التي تقول في شأن رائج

أما مبررات الفئات الأخرى فمتنوعة، فمنهم من يستنكرون إخراجها الخاص وطرحه على العام، فالمراسلات كانت خاصة ونشرها جرى بعد موت كتّابها وبالتأكيد لم يستأذنوا فيه. فئة أخرى تستنكر نشرها رسائلهم لها دون رسائلها لهم، على اعتبار أن هنالك نصف حقيقة مفقودًا ولا بد من إظهاره. وفئة أخرى يهاجمون ما يعتقدون أنها أسباب خفية أو مضمرة لدى السمان وراء نشر رسائلها، ويظهر منها اعتقادهم أنها بهذه الوسيلة تحاول إبقاء نفسها في دائرة الضوء، أو وصل اسمها بالأسماء الكبيرة وحفظ مكان لها في الذاكرة الأدبية والثقافية بطرق مختلفة. ومما يمكن استنتاجه بسهولة من الهجمات والتعليقات من يعتقدون أنها بما تفعل تريد إرضاء غرور شخصي عبر مركزة نفسها كمهوى قلوب الكتاب والشعراء في عصر ذهبي، وكل ما يتصل بارتباطها رمزًا للمثقفة المرغوبة ممن لا يشك في قيمتهم الأدبية.

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

وإن كان الجدل في مستوى منه يبدو خفيفًا، إلا أنه في مستويات أخرى يستحق انتباهًا والتفاتًا، وهو بالضرورة أعمق مما يبدو، ويتصل بأسئلة مهمة أدبيًا وثقافيًا.

السؤال الأول: من يملك الرسائل؟ المرسل أم المرسل إليه؟ وهذا يدفعنا للتمعن في الرسائل كوسيلة اتصال وتواصل بالدرجة الأولى، وكل ما كان يحمل إرسالها عبر البريد مكتوبة وبعنوان واضح ومنمقة بجهد كبير، من قصدية ووعي في انتقالها إلى طرف ثان هو مالكها. الرسائل بمجرد خروجها من يد كاتبها لا تغدو ملكه بل ملك المرسل إليه، وهذه بديهية، ومهما حوت الرسائل من خصوصيات فهي لا تعني أي شيء من ناحية الملكية، هي لمن ترسل له. والأهم أن مرسلها واع بذلك، ولا بد له أن يكون واعيًا بذلك. وعلى هذا المستوى فلا شك في ملكية غادة للرسائل.

هذا يستتبع السؤال الثاني، إن كانت ملكها فهل من حقها التصرف بها كيف تشاء؟ نعم، حتى إن لم يعجبنا الأمر. ومن كان عليه أن يحتاط لأمر كهذا هو كاتب الرسائل نفسه. ولكن الأهم هنا هو وجود من يعتقدون ان في نشر الرسائل انتهاكا ما، فما هو هذا الانتهاك؟ هل تجاوزت الرسائل أحاديث الحب والرغبة والشوق واللهفة؟ هل نشرت خصوصيات تتعلق ببشر آخرين سوى طرفي المراسلة؟

المشكلة هنا أن المعارضين للنشر ومهاجميه ينطلقون من تصورات ذاتية عن أصحابها، ويعتقدون أن الأفضل لهم لو لم تنشر. فبما أن المرسلين قد توفوا فثمة صورة لهم في الأذهان لا يريد لها مريدوهم أن تتبدل أو تتغير. وهنا لا ينتبه هؤلاء لتجاوزهم موقعهم من القضية، فهم يتصرفون كأوصياء على صورة الكاتب الفلاني، حتى بما يتناقض ومواقفه أو آراءه هو نفسه. هنالك نقد شرس لنشر الرسائل من باب أنها رسائل متزوجين ولديهم أطفال لامرأة أخرى!! وهذه زاوية لطيفة للنظر في الفهم العجيب للحالة، فموقف الرافضين لهذه "الخيانة الرسائلية" المنطلق من تصورهم عن الحب والعلاقات الإنسانية، لا مشكلة له مع الإعجاب بفلان رغم هذا التعارض مع موقفهم، ولكنهم شرسون ضد من يذيع هذه الحقيقة لا ضد كتابهم المفضلين الذين يحاولون تكريسهم وفق صورة يحبونها هم.

يحفل التاريخ الأدبي بشواهد عديدة على أوراق وجدت بين متعلقات كتاب وقرر أقرباؤهم نشرها

هنا سطو على صورة هؤلاء، والذين ربما كان فهمهم للحب أو سلوكهم فيه، مناقضًا تمامًا لمعجبيهم ومعجباتهم، وصورتهم في المراسلات هي الأقرب لما كانوا عليه فعلًا. فمن هذا الذي يملك الحق في تقرير أي صورة لهؤلاء يجب أن تكرس؟!

اقرأ/ي أيضًا: باريس، عمّان، دمشق: عن حتمل وطمّليه

يحفل التاريخ الأدبي بشواهد عديدة على أوراق وقصاصات وجدت بين متعلقات كتاب وكاتبات بعد موتهم وقرر أقرباؤهم نشرها، وبالتأكيد لم يكن لهم أي يد في الأمر ولم يستشاروا فيما إذا كانوا موافقين أو لا على نشرها. بعضها قد يفوق في أهميته رسائل غرامية. ولكنها تنشر، ويبدو هذا الأمر رغم ما يكتنفه من أسئلة وشك وطول تفكير، بديهيا بالمحصلة، وتنشر النصوص على علّاتها، حتى إن كانت تنشر جوانب خفية، حتى إن كان مستواها الأدبي أقل من أعماله الأخرى. وهذه ببساطة هي سطوة الموت، لا تعود قادرًا على التحكم بما اتصل بك، ولا يبدو الأمر مأساويًا إن كنت تؤمن بأنك لم تنتقل إلى مكان ما تراقب منه ما يجري بعدك.

بالمنطق العملي ليست هنالك صورة للكاتب، ثابتة ومستقرة، هو يظل يتشكل مع الزمن حتى بعد موته، كتاباته جزء وحياته جزء وفهم كتاباته وحياته جزء آخر وربما أهم. والمريح والمهم هنا أنه لم يعد موجودًا حتى يتضرر من سوء الفهم والتجيير. أما تضرر صورته فهذا حكم نسبي، هنالك من يحبه نبيًا وهنالك من يحبه إنسانًا عاديًا تغويه امرأة عابرة، هنالك من يحب دناءته ومن يحب عزة نفسه وأنفتها. كل هذا لا يعني الكاتب بشيء ما دام متوفيًا.
يمكن أن تقول السمان: "من حق القراء الاطلاع على هذا الجانب من حياة كتابهم"، ومعها حق كثير.

ومن جهة أخرى، هنالك ما يدعوني للتفكير في أن مراسلات من هذا النوع كتبت لتنشر. يعيش الكتّاب بهذا الهوس، أن كل حرف يكتبونه سيخرج للنور وإن بطريقة مخاتلة، بل يبدو الأمر سحريًا. إن تغليف كل هذه الحاجات البشرية البسيطة كالشوق والرغبة واللهفة، بزخرف لفظي وشعري وأدبي بديع يتجاوز مجرد إغواء المرسل إليها. ألم يطلب كافكا من صديقه أن يحرق نصوصًا له، فلم يفعل، ونشرها بعد موته، وبرر ذلك بالمسؤولية تجاه الأدب، ثم قال أحدهم إن كافكا خلق هذه الدراما حول النصوص لأنه يعرف أن صديقه لن يحرقها وستنشر.

ولعل الشعور بالمسؤولية تجاه نصوص كهذه هو ما يستحق التفكير. تخيلي عزيزتي القارئة أنك تلقيت رسائل عديدة محملة بكثير من الشعر والأدب من شخص غدا بعد عقود من أشهر كتاب عصره. ألن تفكري ألف مرة في نشرها؟
لماذا لا نستنكر وثائقيات يتحدث فيها قريبون وحبيبات لممثلين وكتاب عن كل تفاصيل حياتهم، ثم نستنكر أن تنشر نصوص كتبوها هم؟!

هل نستطيع إنكار أن كون السمان "امرأة" سبب إضافي للتهكم والهجوم؟

اقرأ/ي أيضًا: علي بدر.. الرواية سباق مع الخراب

ثمة سؤال يطرح أكثر من مرة، لماذا لم تنشر رسائلها هي لغسان مثلًا؟ (في حالة أنسي قالت إنها لم تكتب له). أفكر في أنه هل من الطبيعي أن تنسخ رسائلها له وتحتفظ بنسخة لديها؟! هذا ليس بريدًا إلكترونيًا نجد أرشيف الرسائل المرسلة فيه بسهولة. ناهيك عن لفت الانتباه البديهي هنا إلى أن من حقها أن تنشر أو لا.

هنالك من يريد لنساء أن يبقين حبيبات سريّات لذاك الكاتب الشهير أو الموسيقي الأسطورة، ويبدو لي أن خروجهن عن هذا الإكراه فعل يستحق التقدير مهما كان شكله. إن كانت لديك مشكلة مع فكرة الحبيبة السرية فلتكن مع نجمك وأسطورتك الأدبية وليس معها هي، فهذا أولى.

ماذا بشأن الاعتقاد بالحاجات النفسية لدى السمان التي تدفعها لنشر المراسلات؟ هذا نقاش ممتع، ولكنه لا يدينها بشيء ولا يبرر الهجوم عليها، بل إنه من الجيد التفكير في الضيق النفسي الذي قد يعصف بمن كتبت وكتبت ثم لم يذكرها الناس إلا بما كتب العشاق لها. على الأغلب هذا مصدر توتر نفسي لو لم يجابه بتوتر آخر نتيجة المسؤولية عن النصوص، لما نشرت.

أخيرًا، هل نستطيع إنكار أن كون السمان "امرأة" سبب إضافي للتهكم والهجوم؟ لا أعتقد، بل هذا سبب رئيس برأيي، والمعبر في الأمر أنه هجوم ذكوري وإن كان يرد على ألسنة وكتابات نساء بالدرجة الأولى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

غسّان كنفاني.. العودة إلى الدرس الأول

أنسي الحاج.. نصوص غير منشورة