16-مايو-2020

الذكرى 72 للنكبة

مثلها مثل الكثير من القضايا الوطنية والقومية، تعرضت القضية الفلسطينية إلى تشويهٍ حادٍ وانتابتها الضبابية في أذهان العراقيين بعد 2003، ابتداءً من ربطها بنظام صدام حسين ومآسيه، ثم التهويل والبروباغاندا التي استخدمت في موضوع "الانتحاريين الفلسطينيين"، وتركيز وسائل إعلام على مظاهر احتفال فلسطينية بعيد ميلاد صدام ومشاعر كره اتجاه الشيعة وضحاياهم، ثم لاحقًا، وعلى طريقة النظام السابق، تبني إيران وحلفائها المحليين لشعارات تحرير القدس، مقابل غياب أي دورٍ تثقيفي تربوي وإعلامي يُعرّف الناس بحقيقة إسرائيل وصراعها مع العرب لا الفلسطينيين فحسب، وليس انتهاءً بفشل دعاة المقاومة بمختلف مشاربهم في تقديم نموذج مُقنع وعملي للشارع. أدت جملة هذه العوامل إلى أن تُحمّل شريحة ليست بالقليلة من المواطنين مسؤولية مآسيها المحلية إلى القضية الفلسطينية، وبالتالي النفور منها، ولنا نقاش طويل ومضني معهم في هذا الموضوع، وكذلك في استغلال اسم فلسطين وما أنتجه، الذي يستحق البحث في موضع آخر.

لم يكتفِ ما يسمى بمحور الاعتدال العربي بالمشاركة في تصفية القضية الفلسطينية ، بل راح يستهدف العائلة العربية في ثوابتها

وإذ يتفهّم المرء ـ دون أن يوافق ـ ردّة فعل العراقي كونه ضمن "دول المواجهة" مع الاحتلال ولم يَعلن بعد عن اتفاق سلام، أو يُباشر بالتطبيع على أي مستوى رسمي سياسي أو ثقافي، مع الجهل وغياب التوعية القومية، وارتباط القضية بالخسائر وجروح الماضي، يَصعب تفسير ما تقوله وتفعله بعض الأنظمة الخليجية وومثقفيها وصحفييها ومؤيديها الذين عاشوا رفاهيةً بالمقارنة مع نظرائهم السوريين والعراقيين مثلًا، دون الغوص في أعماق النفس البشرية وما تحمله من حمق، ليتسنى فَهم ولو النزر اليسير من كم الحقد الموجه ضد شعب اغتُصبت أرضه وشُرّد من وطنه.

لم يكتفِ ما يسمى بمحور الاعتدال العربي ـ وأنا أشكك بكل كلمة في هذه العبارة الثلاثية ـ بالمشاركة في تصفية القضية الفلسطينية عبر تهميش ركائزها، والتفرج على الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمةً لإسرائيل، بل راح يستهدف العائلة العربية في ثوابتها عبر الأعمال الدرامية التي تتزامن مع الذكرى الثانية والسبعين للنكبة، ناهيك عن الفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية والاجتماعية والرياضية والدينية التطبيعية، وتجنيد الكتّاب وصنّاع المحتوى، الذين لا شغل لهم سوى التثقيف للكيان الصهيوني وتبرئة العلاقات المشبوهة معه ومهاجمة الفلسطينيين.

لا تتحمل فلسطين وقضيتها المسؤولية المباشرة وغير المباشرة "لصيقة" التخلّف العالقة في أذهان الغرب عن العرب ودول الخليج التي تحاول بعضها اللهاث نحو إرضاء ذلك المتحضّر بمزيد من جلد الذات وتمزيق الهوية. إن التخلف مرتبط بطبيعة النظام وعلاقات الإنتاج ونوع المجتمع وتدينه، ودرجة تطوره ومدنيته.

لا تتحمل فلسطين وقضيتها المسؤولية المباشرة عن تُهمة الإرهاب، وهي "لصيقة" أخرى تلاحق بعض الدول الخليجية بوصفها دولًا عربية وإسلامية. فالإرهاب من حيث القابلية على إنتاجه يمتلك الأرضية الكافية في أنظمتنا ونوع التدين الذي تستثمره أو تغذيه تلك الأنظمة بطريقة أو بأخرى، والقضايا الاقتصادية، وفشل التحديث، والعديد من العوامل إضافةً للتأثير الخارجي.

إن رَبْط باحثين المسألة الفلسطينية بالإرهاب ـ بغض النظر عن تعريفه ـ ومع وجود الأدلة المنطقية لناحية صعود التطرف بالتوازي مع نكسة الأمة في فلسطين، وما يُمكن اعتباره ربطًا غير مباشر، لا ينفي فساد الحجة التي تربط زوال الإرهاب بالتخلي عن القضية الفلسطينية، والحق أن الدول التي تبنت القضية ودافعت عنها لم تنتج تطرفًا إلا كضدٍّ للنظام، وعلى العكس، فأن التطرف الناتج عن الأنظمة المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي كثيرًا ما يكون نتيجة خيانتها للقضية الفلسطينية، وليس تبنيها. وعلى أية حال، إن تنظيم التطرف الديني من قِبَل الدولة لم ينشأ لتحرير القدس، بل كابول!

لا تتحمل فلسطين وقضيتها المسؤولية المباشرة عن الإهانات التي يوجهها رئيس الولايات المتحدة ترامب، أو وسيلة إعلام إسرائيلية، أو برلماني شعبوي هنا وصحفي مغمور هناك، لبعض الدول العربية وحكامها، بل لمعرفتهم بألّا شيء سيصدر بالمقابل من هذه الدول الكارتونية، بعبارة أخرى، يُعزز إضحاك الجمهور الناخب على حاكمٍ عربي مثلًا من دعاية ترامب لنفسه كرجل أبيض متغطرس يحكم الإمبراطورية الأقوى في العالم، وبالتأكيد، لا تُخيفه ردةّ فعل من يُهينهم، كما تعمل الدول التي تحترم نفسها والذي قد يؤدي ـ أي الفعل ـ إلى فقدان ناخبيه. وباعتقادنا أن التخلي عن القضية الفلسطينية يُزيد من قناعة الآخرين بالهيمنة المطلقة على الدول العربية المتخلية عن مسألتها المركزية، والاستمرار بحلبِها.

لا تتحمل فلسطين وقضيتها مسؤولية هبوط أسعار النفط أو اعتماد دولنا العربية على ريعه دون تنويع في اقتصادها. لا تتحمل فلسطين وقضيتها الصراع الشيعي السني والابتزاز الكردي وفساد الحاكمين في العراق، والمسألة القبطية في مصر، والمسألة الطائفية في لبنان، والعجز الاقتصادي في الأردن وتونس، والهوّة بين النظام البحريني وشعبه، والطريقة الغبية التي قُتِل فيها خاشقجي، وانفصال جنوب السودان، وقضية الأمازيغ، ووحشية النظام السوري وطائفية الكثير من معارضيه، الاستمرار باستعراض القضايا العربية لن ينتهي.

التطرف الناتج عن الأنظمة المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي كثيرًا ما يكون نتيجة خيانتها للقضية الفلسطينية

 

الغرض من هذا السرد المستعجل المُخِل ربما هو التذكير والتنبيه لعدم وجود تفسير منطقي مباشر لحالة الكراهية تجاه فلسطين وشعبها من عوام الناس قبل السلطات، وإن كان تفسيرًا لا نتفق معه بوصفه تبريرًا، وذلك برهان على حماقة ما يُقال من هذا الطرف، بل ودليل على ارتباط القضية الفلسطينية بالصواب من حيث التوجه الأخلاقي والعقلاني، وأن التخلي عنها من قِبل نظام ما أدى في بعض الحالات إلى مسخ جانب من شعبه وجعلهِ كالقطيع التائه يردد ما تراه الأنظمة في مصلحتها، بل ومصلحة الشعب الواقع تحت الاحتلال والقصف والاعتقالات والحصار والتجويع.

وإنصافًا لشعوبنا العربية، يجب التذكير بأن تمسّك الأكثرية منها بالقضية المركزية يجعل الأنظمة التطبيعية مع الكيان الصهيوني أمام خيارات "خطابية" محدودة، فهي تريد تبرير التخلي عن فلسطين بربطها مع ظواهر الانحطاط (كالإرهاب)، وفي الوقت الذي تَعلم أن التآمر على مقدسات المسلمين سيزيد من تطرفهم، تَعصب ذلك التطرف برأس القضية قولًا واحدًا دون تحديد الأسباب، وبذات السياق توصم مقاومة إسرائيل بالإرهاب، وهو خطاب صهيوني على أية حال.

هيا.. تخلّوا عن فلسطين

الآن، كيف يُمكن لأصحاب النوايا السليمة ـ إن وجدوا ـ ولا بأس أن يُفكّر معهم في ذلك مثقفو السلطة وأجهزة الإعلام الحكومي، وما يُعرف بالذباب الإلكتروني، خدمةَ الأمة وفلسطين مع بقاء موقفهم السلبي ثابتًا من القضية؟

حسنًا، إن الغايةَ (على افتراض النوايا الحسنة مرة أخرى) من دعوات التخلي عن القضية العربية سواء التي تطلقها حواشي الأنظمة، أو كما حصل مؤخرًا عبر الأعمال الدرامية، أو حملات مواقع التواصل الاجتماعي وآخرها وسم #فلسطين_ليست_قضيتنا، هو التفرّغ للقضايا الوطنية المحلية وحل الأزمات والمشكلات المتفاقمة بسبب فلسطين!

من هنا ندعو هؤلاء الإخوة إلى الضغط على حكوماتهم في قضاياهم الداخلية، كمعالجة التطرف بوسائل لا تنتج العكس، والتقليل من خطاب الكراهية ضد الآخر الوطني والعربي، ودعم وتحفيز حكامهم لبناء دولة حقيقية ذات سيادة تقف بوجه من يجرؤ على إهانتها، والمطالبة بتنشيط الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل وتقليل الفوارق بين الطبقات، والنضال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والمواطنة ووقف التعسف والقتل والقمع وسجن الأبرياء وتعذيب المتهمين وتغييبهم.

مثلُ هذه الحملات مطلوبٌ أن تُوسّع لتشمل دولًا أخرى، على شاكلة #اليمن_ليست_قضيتنا أو #ليبيا... إلخ. وسيخدم هؤلاء الإخوة الأمة العربية والإسلامية إن نجحوا بإقناع أنظمتهم بوقف التدخلات في شؤون الدول العربية كدعم الاستبداد والاقتتال الأهلي والإرهاب وابتزاز بعضها، وترك شعوبها تقرر مصيرها كما ترغب، وهي خدمة لن تنساها لهم الأجيال.

ما دامت فلسطين مشكلة الفلسطينيين، ما معنى الدخول في مفاوضات تخصّ فلسطين والفلسطينيين؟

 

أخيرًا، ندعوهم للضغط باتجاه التخلي عن فلسطين وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. لقد رزحت القضية الفلسطينية تحت معاول الأنظمة التي تستخدمها كوسيلة للسيطرة على شعوبها ومساومة الولايات المتحدة وإسرائيل، وسيوف الأنظمة التي تتاجر بها بحسب الوضع المحلي والعالمي. وما دامت بعض الدول قد تخلت عن الثوابت العربية والإسلامية اتجاه القضية المركزية، فهي دعوة للتخلي عن فلسطين بمعنى الكلمة، وللضغط على الحكام من أجل الكف عن أذاهم للشعب الفلسطيني ومتجارتهم بقضيته، وإيقاف صفقات بيع البشر والمقدسات مقابل حماية العروش والمناصب.

لكي تكون فلسطين فعلًا ليست قضيتكم، لا بد أن تُترك وشأنها، وبذلك خدمة للقضية، فما دامت هي مشكلة الفلسطينيين، ما معنى الدخول في مفاوضات تخص فلسطين؟ والضغط على قادتها للقبول بتنازلات والتطاول عليهم إن لم يقبلوا؟ وما الذي جناه الفلسطينيون من هذه المزايدة بين ما يُصدّر لنا كأنه مجتمع يُطالب بالتخلي عن فلسطين وحكومة تتفضل بالتدخل لحل مشكلتها؟

جرّبوا أن تضغطوا على حكامكم من أجل القضايا التي تُطالبون بها، فأن قُمعتم وخسرتم فستشعرون بشيء من الظلم والاضطهاد الذي عاناه الفلسطينيون من محتل غاصب، وإن نجحتم فستكون لكم دولًا سيّدة حديثة يَخشاها الآخرون ويحترمون وجودها ويقدّرون رغباتها لا وظائفها، وستنتج بدورها جيلًا واعيًا وصحيًا ومتمكنًا لا يُساوم على قضاياه الوطنية والقومية.