27-أبريل-2022
طه حسين (مجلة العربي)

طه حسين (مجلة العربي)

ينتظر كثير من العرب بفارغ الصبر تلك اللحظة التاريخية "الوشيكة" عندما ستحتل الصين الزاحفة من الشرق مكان الغرب في قيادة العالم. ومع أن الولايات المتحدة هي التي تتسيد الآن هذا الغرب، والعالم من ورائه، فإن الشماتة المسبقة تنصب على أوروبا التي، حسب أمنياتنا (أوهامنا)، سوف تنهار قريبًا، إما بفعل حرب مدمرة على أرضها بين قوتي الحرب الباردة العظميين، وإما بفعل انهيار اقتصادي شامل، وإما بفعل مؤامرة شريرة من واشنطن التي، لسبب لا يعلمه أحد، لا تكف عن الكيد للقارة العجوز ولن تتوانى عن تقديمها لقمة سائغة لأي قوة راغبة وجائعة! وإذا كان كل هذا غير كاف، فثمة "معلومات مؤكدة، يروج لها علماء من أوروبا ذاتها، تقول إن التيار البحري الذي يدفئ القارة يتباطأ عامًا بعد عام، ما سيحول أوربا بعد سنوات ليست كثيرة إلى بحر من جليد"، فيريحنا ويكفينا شر القتال.

طه حسين: "لماذا يخيفكم البحر المتوسط كأنه ليس بحرنا، أم أنكم صدقتم أنه بحر الروم، إنه بحرنا كما هو بحرهم"

ولم كل هذا الغل؟! كيف لا! أليست أوروبا هي التي أذلت كبرياءنا وتسببت لنرجسيتنا بجرح لا يندمل، حطمت كياناتنا واستعمرت بلداننا، وقسمت أرضنا بحدود لم نقو أبدًا على إلغائها أو حتى تعديلها؟

وبقدر الحماس لوداع العصر الأوروبي، يأتي الحماس لاستقبال القوى البازغة من الشرق. لا نعول عليها فقط في أن تميل كفة الميزان لصالحنا في صراعنا الاستراتيجي الأبدي، بل في أن تملأ الأرض عدلًا بعد أن ملأتها أوروبا جورًا!

في حواره الصحفي الأخير الذي أجراه قبيل وفاته (1973)، يقول طه حسين: "لماذا يخيفكم البحر المتوسط كأنه ليس بحرنا، أم أنكم صدقتم أنه بحر الروم، إنه بحرنا كما هو بحرهم، وهو ليس عازلًا مائيًا بين الأمم بقدر ما هو وسيلة اتصال.. فرنسا وإيطاليا واليونان يخصوننا كما نحن نخصهم. قرابتنا لهم قرابة حضارية، فمن المستغرب أن يضمنا معهم شاطئ واحد، ولا نتأثر بهم أو نؤثر فيهم. والطبيعي أن نتبادل وإياهم التأثير والتأثر، لا بمنطق الدائن والمدين ولا بمنطق التاجر والزبائن، وإنما بمنطق الجوار. قد يسيء أحدهم معاملة جاره وقد يحسن الآخر، قد تتيح الظروف للجميع معاملة الند للند وقد تسمح بقهر الواحد للآخر. لكن التأثر والتأثير موجودان في جميع الأحوال. وليس المهم أن نأخذ منهم بقدر عطائنا لهم، فقد لا يكون بحوزتنا الآن ما نعطيه. ولكن المهم هو احتكاك العقل والضمير والروح".

ويضيف، كأنما يخاطبنا اليوم، أن توجهنا "شطر أوروبا من اليونان واللاتين حتى اندريه جيد وسارتر وكافكا، هو توجه حضاري ثقافي تمليه اعتبارات الجيرة الروحية على شواطئ البحر المتوسط.. أما الآلات والماكينات، فربما كانت اليابان والصين أكثر حذقًا من الأوروبيين في هذا الصدد. ولكن الحضارات الآسيوية لا تستطيع أن تؤثر في عقلي وروحي وإن بنت لي أعلى العمارات وشيدت لي أرفع أجهزة اللاسلكي".

يشاكسه محاوره، غالي شكري، بسؤال: "هل معنى ذلك انك تساوي بين الجيرة اللغوية والدينية والجيرة الجغرافية، أي بين المصريين والعرب من ناحية وبين المصريين والأوروبيين من ناحية أخرى؟".

يجيب العميد: "لا تقل عن جيرتنا للأوروبيين إنها جيرة جغرافية بل هي تاريخية أيضًا. أي أنها جيرة حضارية. أما العرب فإن وحدة اللغة والدين تجعل ارتباطنا بهم أقوى. إنه ارتباط الثقافة والعقيدة. ولكننا جميعًا ـ مصريين وعربًا ـ نحتاج إلى التفاعل الحضاري مع أوروبا احتياجنا إلى الحياة نفسها".

إن إحدى مظالمنا التي نرفعها إزاء أوروبا هي أنها تنكرت لشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي لطالما روجت لها.. "لقد ضحت بها على مذبح المصالح والأطماع الرأسمالية"، وردًا على ذلك فإننا بدورنا نغسل أيدينا من هذه الشعارات، معتبرين إياها مجرد "أدوات استعمارية".

قال طه حسين لغالي شكري عبارة مدوية: "أودعكم بكثير من الألم وبقليل من الأمل"

في الحوار نفسه، يتكفل طه حسين بالرد: "اذا كانت أوروبا وأمريكا قد تنكرتا للحرية، فلا ينبغي أن ننساق نحن في هذا التيار ونتنكر لها.. هذه تجربة أسيفة لا يحق لنا أن نفقد الإيمان بالحرية بسببها.. والحرية كل لا يتجزأ، هكذا تعلمت من اليونان الأقدمين ومن الأوربيين المعاصرين.. والحرية ليست حكرًا لمجتمع دون آخر ولا لفرد دون آخر ولا لطبقة دون أخرى. بذلك تفقد الكلمة معناها، وابحثوا عن كلمة أخرى". يطنب المستعجلون على "أفول الغرب" في مديح أعداء أوروبا والإعلاء من قيمهم، والتي بالطبع ليس من بينها الحرية والديمقراطية، أما العميد فيرى أن "المقياس الوحيد لأي تقدم أو حضارة هو مدى حرية الوطن والمواطن، أما الصناعة والمعرفة والازدهار الاقتصادي والتفوق العسكري، فكلها نتائج للحرية. ولا خسارة في الحرية إلا للأغلال بكافة أنواعها".

يبقى أن نعرف أن طه حسين قال لغالي شكري عبارة مدوية صارت عنوان الحوار الصحفي (نشر في مجلة الثقافة العربية) والكتاب الذي تحول إليه الحوار فيما بعد: "أودعكم بكثير من الألم وبقليل من الأمل".