02-يوليو-2017

من صفحة أماكن الثورة السورية (فيسبوك)

من أينَ لنا بكل هذا الفرح؟ كنت أتساءل وفي قلبي صوتٌ خلته دقات تتسارع، لكنه صوت ارتطام القلب إلى الأسفل، أسفل أسود، لا أعرف عنه شيئًا سوى أنه عميق، أعمق من صمت عبير إذا لم تخنك ذاكرتك بعد، إذا كنت تذكر.

ليلة ذهبنا فيها إلى القرية، أرجوك تذكر، أنقذني، أرجوك رجاء أم عزات يوم مُنعت الزيارة عن محمد "مشان الله خلونا نشوف المساجين، ريحة أبو العز يما". عليك أن تتذكر إلا أنني أقول لك أنه في داخلي يقين كبير أنك لم تنس. تشدني ذاكرتي كثيرًا إلى تلك الليلة، تشدني من قلبي ويا ليت كل الشد كان من طرفِ ثوبٍ نلبسه، كما ألفنا طفولتنا، كما رَبتنا الأم الحنون درعا. ليلة كنا فيها خاليين من كل شيءٍ عدا الفرح، كنت أخاف أن يرتطم كتفي بكتف شخص آخر فتقع كل الضحكات على الأرض من غير قصدٍ بدلًا من كتب، إلى هذا الحد كنا ممتلئون بالسعادة تخيل؟ ليلتها كانت ضحكاتنا سمك، أقول لكَ سمكًا لأن كل أوكسجين هذا الكوكب يتجمع فيحبس أنفاس سمكة. كل هذا الأوكسجين مجرمٌ وحرام، وكل الليالي بعد تلك اللية صارت تؤذينا.

ألومني كثيرًا كيف استنفذت كل ذاك الفرح، لكن طفولةً بريئةً كانت تركض دون وعي أو اخذ حذر، لم تكن تعرف أن السعادة هكذا محدودة ولها ضرائب ودينٌ علينا كل فرحٍ استفذذناه، موقوفون نحنُ في محكمة اللا عدل محكمة الحياة، إلى يوم نسدد فيه كل ذاك الفرح بحزن أكبر.

ليلة كما لو أن الله أعتذر من جميع سكان الأرض على سعادة سيأخذها، يرميها ويحطها في حافلة نقل على طريق دمشق – درعا، مرت من غير قصد من تحت غيمة، من تحت فرح، كنا جالسين في تلك الحافلة واقفين، أتذكر؟ كان العدد هائلًا، لم نستطع أن نرى الوجوه لكن ضحكةً من خلف ذلك الكرسي كانت تطمئنني، لم أر وجهك أيضًا كنت مشغولًا كثيرًا في حياكة القصص والبطولات، آسفة كثيراً لأنني تمنيت ليلتها في داخلي أن ترتطم الحافلة في حجرٍ ما، فنموت ويختفي ذلك الصوت، كنتم تضحكون باستفزاز، الجميع، بثينة وسوسن وسُليمة... والآخرون، آسفة لأن فوضى من الفرح أزعجتني لأنني لم أكن أتخيل أن صمتًا بعد عمر سيكسرنا، يا ليتني كنت أدري، يا ليتني كنت أعرف أن لا ضحك بعد ضحكات تلك الليلة، كنا نتحدث ونضحك ونتشاجر بفوضى كبيرة، لكن حينما نغني أو نحاول التلحين على طرف كرسي في الحافلة مهترئ؛ لكثرة ما خدشته طفولة عمران الشقية ومشاكسة كريم لكل ما هو صاغ سليم.

"بكرا منعاود لا تبكي يا عيني/ يا بعد عين أمي وأبويا وعيني".

والجميع يشارك في عرس كلنا كنا فيه العروس ليلة أول شهر عسل، شهر لوز، شهر قمح، أقول لك قمحًا وأنتَ تعرف ذلك الذي يكسو دار شمه خلف منزل جدنا، ماذا كان يغطي، غطى طفولتنا الشقية يومَ اختبأنا من بعضنا من بطل اللعبة الذي كان شرطه نقودنا إذا ربحت عيناه ووجدنا، إذا خاننا القمح فخسرنا النقود.

أنا لا أعلم لماذا علينا أن ندفع ثمن تلك الليلة، حسنًا، إنها ليلة من ألف ليلة وليلتين، تستحق أن يدفع المرء كل ضحكاته في سبيل أن تظل أو أن تعود، لماذا علينا دائمًا أن ندفع ثمن الفرح بالحزن وثمن الحزن بالحزن، لماذا كل الطرق في نهاية المطاف تؤدي إلى اللاشيء من السعادة، وكل الكل من التعاسة والألم.

بعد تلك الليلة ذهبنا مدة وعُدنا نازحين إلى حوران محملين بأسى المخيم، بشظايا تعب من دمشق، بورم أسفل القلب من الحنين الذي خفناهُ وصارَ حقيقة، ومن هناك قررنا الرحيل إلى حيث لا ندري سوى الأمان، ظننا يا حوران أن هناك أمانًا غير ذاك الذي طوقنا فيكِ كل تلك الليالِي، أتذكر تلك الليلة بكل ما حملت من حزن، حتى الدموع عددتها لكن رقمًا هائلًا أفلت مني العد، صار الجميع يبكي أعدادًا لا أستطيع جمعها، ليلة رحيلنا كانت مأساوية، لم أكن أتخيل أن آخر دمعٍ لي سيكون درعا، وآخر خبزٍ لي سيكون درعا، والضحكات كلها تخونُ دمشق فلا تكون إلا في درعا.

لو تعلم درعا ورياض وأبي وسوسن وكل الذين غنوا جراحنا، وقتذاك كنا نخزن ذلك كله إلى حاضرنا، لو يعلموا لكم من بيت شعر حرّك فينا ذلك الموال.

كُنت أريد أن أكتبَ نصًا في درعا، لكن رحيلًا كان يستعجلنا، وددت لو حضرتُ أمسية هناك أو حفلة توقيع كتابٍ صنع في درعا، لو أنني مررت فتاةً عشرينية من جانب فكرة كاتبٍ فراح يكتب: "حوران لا تنجب سوى القويات".

كل القصائد مشتقة من درعا، أذكُر ذاك الشباك جيدًا، كان فيه كَسرٌ خَلفتهُ طفولتنا الشقية، وذلك البئر رميت فيه ضحكةً مرة فعادت تقول وتعكس الصدى درعا، ووجه جدتي الذي كان يلاحقنا فنشم رائحة الجو وردًا كثيرًا، عطرهُ مثل عبق جنة، الوادي الذي خُفناه ألفًا وما كان يؤذينا، المدرسة التي يجتمع فيها كل الفلاحين الصغار أحدهم كان قاصدًا الذهاب إليها علّه يربح حكم البلاد، ما كان يدري أن الفلاحة أطهر من ألف حُكمٍ، وأن ذاك الوحل الذي تظل آثارهُ عالقةً حتى فجرٍ خامس، كُله ينظف وجه الحكومات الملوث بحزننا والمال المستأصل من كدنا، درعا حبيبتي التي ستظل تشدني إليها  إلى يوم يبعثون.

درعا خلقها الله ليلًا. حين ننام لا يتوقف الله عن صنع المدن صدقوني. درعا صُنعت في الليل حيث الله متكئًا يستمع إلى فيروز "يا رعيان الجبال، إذا طلعتوا ع الجبال قولوا لحبيبي عادت إيام الهوى". كان يريد أن يرمي بها إلى الجنة لكن فنجان قهوة شتت انتباهه وصارت درعا تنتمي إلى سوريا، ونحن لا ننتمي إلى لدرعا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضربة فرشاة على قماشة البحر

سر السيدة سكر