07-ديسمبر-2015

رئيس فيتنام الجنوبية بين دوايت أيزنهاور، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وجون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي (Getty)

(1)

في هذه الصورة يظهر انغودين دييم رئيس فيتنام الجنوبية، بملامحه الآسيوية وجسده الضئيل، بين العملاقين دوايت أيزنهاور، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وجون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي آنذاك. كان اللقاء في التاسع من أيار/مايو 1957 في البيت الأبيض، حيث دار النقاش بين الرئيسين حول دور دييم في مواجهة المخاطر الشيوعية بجنوب شرق آسيا.

كان رئيس فيتنام الجنوبية قد صدق أنه لا يفرق في شيء عن الأمريكيين الشُقر

بعد انعقاد معاهدة جنيف التي نصت على تقسيم فيتنام مؤقتًا، بعد انتصار الثورة على الاحتلال الفرنسي، إلى قطر جنوبي وقطر شمالي؛ يكون الجزء الشمالي تحت قيادة حكومة ثورية يرأسُها قائد الثورة الشيوعي هو تشي منه، والجزء الجنوبي يصبح مأوى للموالين لفرنسا، شريطة أن تتم انتخابات ديمقراطية توحد البلاد بعد عامين من المعاهدة، أعطت الولايات المتحدة الأمريكية مقاليد السلطة في القطر الجنوبي للشاب الكاثوليكي الذي تلقى تعليمه بها انغودين دييم، وأعطته مهمة واضحة هي رفض إجراء الانتخابات الديمقراطية في موعدها، وبالتالي رفض توحيد البلاد، وتوفير الغطاء الشرعي للولايات المتحدة لتقصف وتقمع الثورة الفيتنامية من أجل الديمقراطية والعدل الاجتماعي.

كان دييم قد صدق لتوه أنه لا يفرق في شيء عن هؤلاء الأمريكيين الشُقر، فهو مسيحي ليبرالي مثلهم، ويغرق بحجمه الضئيل في ملابس تشبه ملابسهم، إذًا هو رجل حر مثلهم، وله نفس مكتسباتهم في الحياة، وأعداؤه هم نفس أعدائهم؛ هم الكادحون الثوار الشيوعيون أبناء جلدته وبنو وطنه في فيتنام الشمالية.

بينما كان دييم يطل على العالم كل حين بصور كوميدية مثل هذه الصورة، يظهر فيها كالطفل الصغير -بسبب حجمه- أمام رجال الإدارة الأمريكية ويتلقى منهم التعليمات، ويشارك قواتهم في قتل وقمع أبناء جلدته، كان الشعب الفيتنامي الذي يشبه دييم في الحجم والملامح؛ يضرب أعظم المثل في المقاومة والإصرار، ويتلقى الثناء والخشوع في حضرة ذكره عند أعدائه قبل المتحمسين له، كان العالم كله يتساءل في تعجب من أين تأتي تلك القوة الخارقة للثوار الفيتناميين في مواجهة الجيش الأمريكي بكل قوته؟

في الوقت الذي أبهر فيه الثائر الفيتنامي المقاومين في كل مكان بالعالم، في أفريقيا وأوروبا، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، كان دييم يمارس طقوسه المعتادة في احتقار ذاته وأصوله، ويسعى سعيًا حثيثًا لكي يكون شبيهًا بالأمريكان؛ يعيش مثلهم ويفكر مثلهم، ويلبس مثلهم، ويحارب أعداءهم، ويظهر في صحفهم، لكنه لسوء الحظ لم يحصل على إعجاب الأمريكان أبدًا، فمن حصل على إعجابهم حقًا هم الثوار الذين كان الواحد منهم بقلبه المضحي، قادرًا على الفتك بفرقة كاملة من قوات الاحتلال الأمريكي، وإذا وقع في الأسر يموت من التعذيب إن لزم الأمر حتى لا يفصح عن أي معلومة تعيق حركة المقاومة.

كان العالم يتساءل من أين تأتي تلك القوة الخارقة للثوار الفيتناميين في مواجهة الجيش الأمريكي بكل قوته؟

على كل حال لم يكن دييم ليتخيل تحت أي ظرف أن نهايته ستكون على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، حيث دعمت انقلابًا عسكريًا ضده أدى إلى قتله هو وشقيقه في عام 1963، بعد أن وجدت الإدارة الأمريكية أن دييم قد أساء إلى سمعتها باعتباره حليفًا غبيًا، وأنه لن يكون رجلها المناسب في جنوب شرق آسيا، وبقيت صورة دييم مقتولًا؛ لتروي قصة رجل احتقر ذاته، وصدق أنه يشبه الأمريكان ويستطيع أن ينحت ذاته من جديد على نمطهم.

(2)

في مسلسل "عمر" (2012)، تخيل المؤلف وليد سيف والمخرج حاتم علي، علاقة ما ربطت بين بلال بن رباح ووحشي بن حرب، حيث كان الاثنان زنجيين يعانيان من وطأة العبودية وبشاعتها، ويحلمان كل لحظة بالانعتاق؛ حيث الحياة بالنسبة لهما هي وقت ضائع طالما أنها تحت ذل أن تكون عبدًا.

كان خيار الأول أن يحارب من استعبدوه، وينتقل إلى صفوف الدعوة الجديدة المعادية لهم، في حين اختار الثاني أن يكون جنديًا مخلصًا في صفوف سالبي حريته، طامحًا في أن يخدمهم على أكمل وجه حتى يعتقوه بعد أن يثبت جدارته في الدفاع عنهم.

استطاع الأول أن ينال حريته بعد وقت قصير جدًا من انضمامه للدعوة المقاومة، وأن يكون ملهمًا بعد ذلك لمليارات البشر من المسلمين، نجمًا يتلألأ في سماء التاريخ، بينما ظل الثاني يعاني من أجل نيل حريته عبر الانخراط في مقاومة أعداء أسياده، إلى أن نالها بعد أن حقق الاستحقاق المستحيل بقتل حمزة بن عبد المطلب.

في المسلسل يظهر الوحشي بعد قتل حمزة والحصول على الحرية، وهو يلبس ما هو أشبه بملابس أثرياء مكة، ويمشي في فخار، ويدخل اجتماعًا لسادة قريش حتي يدلي بدلوه بينهم بما أنه قد صار حرًا مثلهم. رأى السادة العبد الذي حرروه وقد بدأ في التعبير عن رأيه فقرعوه وذكروه بأنه حتى وإن أعتقوه سيظل عبدًا في نظرهم لا يحق له الحديث وهم جالسين، حتى ولو طلى وجهه باللون الأبيض سيظل عبدًا في نظرهم.

كان خيار بلال بن رباح أن يحارب من استعبدوه، في حين اختار وحشي أن يكون جنديًا في صفوف سالبي حريته

بلال بن رباح هو من سيذكره مليارات المسلمين (عربًا وعجمًا، حكامًا ومحكومين، أوروبيون وآسيويون وأفارقة) بلقب "سيدنا"، وهو من كان ينصت إليه الرسول وإلى آرائه في الوقت الذي يتلقى فيه الوحشي الإهانات من أسياده الذين حماهم في معركة أُحد. تتشابه حتى التطابق قصتي بلال ووحشي، وإنغودين دييم وهو تشي منه.

(3)

في دول ما بعد الاستعمار، لم تعد الخطوط واضحة بالنسبة للفرد بين فريقين يجب أن يختار الانضمام إلى واحد منهما، فالدولة الخاضعة للإمبريالية في نفس الوقت الذي تدعي فيه أنها تحكم بحق النجاح في التخلص من الاستعمار منذ أكثر من نصف قرن، تستخدم كل أجهزتها الأيديولوجية لتعلم الفرد منذ الطفولة أنه يعيش بين أقرانه، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين من يملك سلطة ومن لا يملكها، وأنه يستطيع عبر مسابقة الاستحقاق الهزلية التي تديرها الدولة بين المواطنين؛ أن يمتلك السلطة والقوة فيما بعد إذا أثبت جدارته.

تُعلمنا السلطة أن الفرق بيننا هو فرق في نقطة الانطلاق وفقط، لكننا نستطيع بعد ذلك أن نصنع حياتنا كما نريد أن تكون عبر الكفاح. نحيا أوقاتًا كثيرة من عمرنا إلى أن نكتشف أن مسابقة الاستحقاق هذه كانت هزلية ونتيجتها محسومة من قبل أن تبدأ، نكتشف بعد عمر طويل أننا لا نشعر بالراحة إلا في صداقة من أبناء طبقتنا الاجتماعية الذين يشبهوننا، نجد أن هؤلاء وحدهم القادرون على تبادل الحديث معنا حول أحلامنا وأوجاعنا الحقيقية، هم وحدهم القادرون على فهم لغتنا المعقدة. وفي ظل ادعاء المساواة كأيديولوجيا للمجتمع الحديث، يتم وضعنا في منافسة مضحكة وبائسة لسنوات طويلة من الحياة مع هؤلاء الأصدقاء الذين جُهلنا بهم عمدًا.

نحن ضحايا التجهيل المُتعمد الذي يجعلنا نقضي أهم أوقات حياتنا حالمين بالصعود الاجتماعي

نحن ضحايا هذا التجهيل المُتعمد الذي يجعلنا نقضي أهم أوقات حياتنا حالمين بالصعود الاجتماعي، نحاول أن نصادق أناس لا يشبهوننا في أي شيء بدعوى أننا سنكون مثلهم عبر مسابقة الاستحقاق في يوم من الأيام، وفي الوقت الذي نكتشف فيه من يشبهوننا؛ أصدقاءنا الحقيقيون الذين فرقت بيننا وبينهم أيديولوجيا الاستحقاق الكاذبة، نكتشف ساعتها أيضًا أننا وأصدقاءنا قد أجرينا مراسم التطبيع مع الواقع منذ زمن طويل، بحيث تغلغل هذا التطبيع في أدق تفاصيل حياتنا اليومية.

حين نكتشفهم بعد عمر طويل نكتشف معهم أننا لا نستطيع القيام بثورة على ما يؤلمنا، فقد فات الوقت الذي تحدث فيه مثل هذه الأشياء، ستكون جلساتنا معهم؛ هي جلسات استعادة الذكريات وتبادل الأوجاع؛ لا محاولة الثورة عليها، وبذلك تكون دولة ما بعد الاستعمار قد أدت دورها بنجاح، واستطاعت أن تطيل من عمرها مدة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا:

مؤسسة كارهي فلسطين

تفاهة المثقف