20-سبتمبر-2015

هذا هو سوق أبو رخوصة يا حضرة السيد شماس (جوزيف سلوم)

بالعودة إلى صفحات تاريخ بيروت، والتنقل بين الصور التاريخية لأحيائها، وأسواقها وشوارعها، فإنك تجد بيروت اليوم بمثابة نسخة كولونيالية عن المدينة الأم. الماضي مجرّد صور جُمعت في صفحات توثيقية لحضارة عريقة. هذا التجدد المزيف الذي لحق بها يحكي عن مدينة سقطت وُبتر زمنٍ من أزمنتها لتحتلها مدينة مستوردة مكانها.

كانت الأسواق القديمة على صورة أهل المكان. من سوق البرج، إلى باب ادريس، سوق الجوخ، شارع فوش الذي كان يعتمد على تجارة مال القبان، سوق الخضار المركزي القديم، سوق الذهب القديم. أسماء طُويت، لتُختصر اليوم"بأسواق بيروت التجارية". أليس هذا في ظاهره رأسماليًا؟ وفي باطنه استعماريًا؟ أقيمت الأسواق التجارية لتلائم طبقة من زائريها الذين لا يأتون في فترات معينة من السنة. مدينة أشباح. أسواق نائية غالبًا لا يطأها أهل المدن المجاورة. وفي الأصل، في نهايات العقد الأخير، أغلقت المحال التجارية. أفلس الوسط التجاري من الناس، إلا الذاهبين لأعمالٍ مكتبية مضجرة.

الحراك الأخير لم يهدّد السلطة فحسب، بل شكّل تهديدًا لأصحاب المال أيضًا. اعتبر هؤلاء أن هذا الحراك يشكل ضربة لقلب بيروت. وأن تجمهر المتظاهرين بالقرب من الأسواق التجارية يهدّد بضرب المصالح المكدّسة هناك. أطلق رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس صرخته المدوية بأن المتظاهرين يحاولون تحويل هذا السوق الراقي إلى سوق "أبو رخوصة ". صفق له جمهور من حديثي النعمة ولاحسي الأحذية، وعشاق البرستيج اللبناني.

ليست صدفة أن نقولا شماس ومن يمثلهم يخافون أبو رخوصة

ليست صدفة أن نقولا شماس ومن يمثلهم يخافون " أبو رخوصة". يهابونه كأنه كائن كريه. كأنه "دراكولا". هؤلاء الذين  يعانون من فوبيا الرخص وانخفاض الأسعار، يعانون في نهاية الأمر من فوبيا الناس. ليس النزول إلى أسواق بيروت إلا تقديم علاج نفسي سريع يضع هؤلاء في مواجهة حيّة مع انخفاض الاسعار. استلهم دعاة السوق الشعبي اليوم من المعالجين النفسيين الذين يضعون المريض أمام ما يخافونه لتدمير هواجسهم الباطنية. استقدموا كل التعزيزات وعتادهم. افترشت ساحة رياض الصلح بالبسطات. فأصحاب المال يعتبرون البسطات والأسواق الشعبية محصورة فقط بالفقراء ولا تليق بمستوى أنظارهم.  لا يعرفون أن أشهر الأسواق في العالم هي عبارة عن بسطات يفترشها البائعون وبضاعتهم. كل ما تحتاج شراءه من أشياء قديمة قد تجدها في سوق شعبي في منطقة نائية. وأكثر الأدوات التي تعتبر ثروة أو كنزًا لمحبي الانتيكا مثلاً. هنا أبو رخوصة يا حضرة السيد شماس.

 توافد المواطنون إلى ساحة رياض الصلح. تكاد تكون المرة الأولى التي تستقبل هذه الساحة سوقًا شعبية، فهي اعتادت على السيارات الضخمة والسيجار الطويل. تميّزت الساحة اليوم بالفرادة والبساطة. سوق شعبية في قلب بيروت مشهد لم تعهده المدينة منذ تشييد السوق التجاري الكبير، أشبه إلى الأسواق الشعبية التي تتنقل بين المناطق. حمل سوق رياض الصلح اليوم اسم "أبو رخوصة". كان شبح الرخص مسيطرًا على الساحة. إحدى البائعات افترشت مجموعة من الكتب. تبيع الكتاب بسعرٍ زهيد لا يتجاوز 3 آلاف ليرة لبنانية. فوجئت هاوية بوجود كتابها المفضل  "القوقعة"  للكاتب مصطفى خليفة، بدولارين بعد أن اشترته ذات مرة بـ 15 دولار أميركي. بائع كتب آخر يقول إن ثمن الكتب يبدأ من تقديمه كهدية للزبون إلى سعر 5 آلاف. إحدى الفتيات وضعت لائحة "المنيكور بدولارين"، أيضًا. بينما ينادي بائع العصير على الليموناضة والليمون بألف ليرة لبنانية. هذا المبلغ يساوي تكلفة نقل في باصات الأجرة في الأيام العادية، يمكنك الاستفادة منه في سوق "بو رخوصة" في الوقت الذي يبدأ سعر كوب الليمون بـ 4 آلاف ليرة لبنانية في إحدى المحال.

تنوّعت البسطات المفروشة على الأرض وتنوّع الزائرون

تنوّعت البسطات المفروشة على الأرض، وتنوّع الزائرون. رائحة الكعك على الفحم، الطعام المنزلي الذي أعدّته ربّات المنازل داعيةً الناس إليه تحت شعار مطابق للمواصفات. الرجل الذي يضحك عند شرائه كنزة لابنه ب 5 آلاف ليرة لبنانية بينما كتب على تسعيرتها 30 ألف ليرة لبنانية. أما "الكرابيج" وهي حلوى كان بيبعها شاب بـ 100 ليرة لبنانية فقط، من كان يظن أن هذه العملة يمكنك التعامل بها وفي قلب بيروت. نبض قلب بيروت عصر اليوم بالمواطنين والسوّاح معًا. بحلقات الدبكة التي بنيت فرحًا بحضور "دراكولا أبو رخوصة". كان المتسوقون يضحكون. وبيروت تضحك أيضًا. تضحك بقلبها ضحكات تشبه ضحكتها خلال مراهقتها. سعيدة بناسها. طبعًا كان تجمعًا عفويًا وليس صورة حاسمة لبيروت. لكن بيروت بالتأكيد ليست سوليدير، ويجب أن تحدث تعديلات.

شاهد ألبوم: أهلا بكم في سوق "أبو رخوصة"