12-يوليو-2015

معسكر المسطومة/ إدلب - شمال سوريا

"آه لو كنت أسيراً"، هذه العبارة ردّدها الجندي الألماني والتر شناف في قصة قصيرة مكتوبة عام 1883 للكاتب الفرنسي غي دي موباسان، والتر شناف كان يكره الحرب، ويخاف أن يخسر أسرته، إلا أن خدمته الجندية لم تكن طويلة أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، إذ نتيجة خوفه تمنّى لو يقع أسيراً، وهذا ما حصل. لكن ماذا لو لم يقع والتر شناف أسيراً؟ ماذا لو قرر أن يحارب خائفاً ويتجنب المعارك؟ ماذا لو بقي في ثكنته، وتابع أحلامه بالحياة السعيدة مع أسرته؟ الجواب، ولو بصيغة متخيلة، موجود في الصورة التي نشرها مؤخراً الناشط السوري، أبو نضال، أثناء تواجده في معسكر المسطومة في إدلب شمالي سوريا إبان تحريره.

القتل متشابه، لا يختلف مهما كان الطرف، حتى لو كان القاتل رومانسياً

المعسكر الذي حرّره جيش الفتح من جنود النظام السوري كان في البداية معسكراً للطلائع، ثم تحول إلى ثكنة عسكرية، الصورة المرفقة هي لأحدى هذه الثكنات، المثير في الصورة هي التفاصيل التي تحويها، دببة محشوة بألوان مختلفة، آية قرآنية، علم لنادي رياضي أوروبي "ريال مدريد"، شخصية كرتونية من مسلسل أطفال أمريكي مدبلج للعربية "شارع سمسم"، ثم بنطال عسكري مموه ورصاص على الجدار، من كان يقطن هذه الغرفة؟

التساؤلات لا تنتهي حول هذه الصورة، هل كان المقيم في هذه الغرفة رومانسياً؟ أم مصاباً بالنوستالجيا؟ هل كان كوالتر شناف يكره الموت ويريد الاختباء في حضن دافئ يمثل كل ما يحبّه في حياته؟ هل الرصاص المطلق هو نتيجة الاقتحام، أم نتيجة مزحة أحد أصحابه الذي كان يتهمه بالجبن؟ بالإمكان توليد مئات الأسلة عن الغرفة ولن ننتهي.

التكثيف الذي تحمله الصورة أقرب لما يسمى "semiotic orgy" أو حفلة عربدة سيميائية لما تحويه من رموز، لكن السؤال هو بطبيعة قاطن هذه الغرفة، هل كان ينتهي من إطلاق الرصاص ويجلس ليداعب الدب المحشو؟ هل كان يضع الناموسية فوقه ويستمع لأحد الإذاعات لنتائج مباراة ريال مدريد؟ أم كان كوالتر شناف يتمنى أن يكون أسيراً؟ الثنائية التي تطرحها الصورة "موت – براءة" تجعل التساؤلات حول مفاهيم الحرب والجندي والبندقية والطفولة تخضع للتشكيك، أين كان يضع بندقيته؟ هل كان يضعها بحضن الدب المحشو أم على الأرض؟ الصورة تحاكم آلية تحليلنا لوضعية الجندي مهما كان الطرف الذي ينتمي له، التهكم والسخرية حاضرة في أي نص ممكن أن يكتب عن الصورة، كما تبدو ككليشية الكتابة عن الجندي الذي ينهي معركته ويحتضن الدب المحشو الذي قد يكون ذكرى من ابنه أو قريبه، أو كليشة رومانسية عن الجندي الذي يعاني فقدان حياته الطبيعية في ظل الدفاع عن وطنه، لكن لا ننسى أن المعسكر تحول إلى ثكنة لجيش النظام السوري، وكان يُستخدم كسجن لوضع المتظاهرين فيه.

الحضور البشري بعفويته يزعزع صرامة المؤسسة البيروقراطية

القضية السيميائية التي تطرحها الصورة مرتبطة بالعلامة، أي الدب المحشو، والسياق الذي وضعت فيه "ثكنة عسكرية" يمكن استخدامها في أحد أفلام "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا، لكن هل نعتبر والتر شناف مظلوماً بالرغم من أنه ينتمي للجيش النازي المحتل لفرنسا؟ هل يمكن اعتبار مشجع الفريق الأوروبي الذي كان يقيم في هذه الغرفة مظلوماً بالرغم من أنه جزء من جيش النظام؟ 

الجواب بسيط، القتل متشابه، لا يختلف مهما كان الطرف، حتى لو كان القاتل رومانسياً. القتل كمؤسسة يطغى على حضور الفرد الواحد، وباحتكار السلطات مهما كان شكلها للقتل سواء عبر العقوبات أو الجيوش، تجعل من القتل يحمل شرعيّة يكون فيه مقبولاً، مؤسسات القتل لا يمكن القضاء عليها حتى لو لم تكن تحوي أفراداً، هي أنظمة تجعل ممارسة اللابشري من قبل البشر مقبولاً عبر تغيير اسمه. الدب المحشو في الصورة السابقة يهزأ من مؤسسة القتل ببلاهة طفولية وعفوية، يمكن أن يحضر الدب المحشو ضمن مؤسسة القتل ويخلخل الصورة التي ترسمها عن نفسها. الأمر مشابه حين نجد كلمة بذيئة تتسلل ضمن مراسلات رسمية بين الدول أو الشخصيات الرسمية. الحضور البشري بعفويته يزعزع صرامة المؤسسة البيروقراطية، مهما كان العنف الذي تمارسه، سواء على أفرادها أو على الآخرين، سواء كان هذا العنف بفرض اللباس الموحد أو بالقتل، لكن هناك في كل مؤسسة دب محشو، اكتشاف الدب المحشو هو أيضاً نوع من الرومانسية التي لا تغير شيئاً.      

الدب المحشو إذن هو سخرية من السلطة، سخرية من شرعنة ما لا يشرعن. في حالة والتر شناف كان كرشه الذي يمنعه من حمل سلاحه وقتال الفرنسيين، لذلك أراد أن يكون أسيراً. أما في حالة النظام السوري، فالسخرية تكمن في الدب المحشو الموجود في أكبر ثكنة ونقطة قتل في الشمال السوري.