03-نوفمبر-2015

من الفيلم

يجلس الصحفي مارتن سميث منتظرًا، هذه فرصته الأخيرة لإجراء مقابلة مع بشار الأسد، انتظاره دون فائدة، فلم يستطع تحصيل مقابلته، كل ما استطاع الحصول عليه في يومه الأخير في دمشق هو مشهد لقذيفة سقطت على أحدهم عوضًا عن المقابلة. 

ركّز "داخل سورية الأسد" على الحياة "الطبيعية" في دمشق، وكأن جُل ما يعانيه قاطنوها هو هول القذائف!

طلب سميث زيارة المستشفى لإجراء مقابلة مع جرحى القذيفة، وبدلًا عن ذلك عُرضت عليه بطاقتان لحضور حفل للسيمفونية الوطنية السورية، على وقع موسيقى الحفل استمر تعليق الصحفي الأمريكي حول مستجدات الوضع السوري والحملات الروسية وزيارة الأسد لموسكو، تتصاعد وتيرة الموسيقى، ليتناقض إثر ذلك الصوت/التعليق، مع الصورة/المشهد، ليغادر الصحفي الحفل من منتصفه عائدًا إلى بيروت، ليختم المشهد والفيلم لوحة طرقية تحمل عبارة  "نشكر لكم زيارتكم" على الحدود السورية اللبنانية.

هذه النهاية الساخرة، أو الرومانسية نوعًا ما، هي التي وسمت الفيلم الأمريكي الوثائقي "داخل سورية الأسد" للصحفي مارتن سميث الذي عُرض في السابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر ضمن البرنامج الإخباري "فرونت لاين". الصحفي الأمريكي زار دمشق ليصنع فيلمه موجهًا للجمهور الأمريكي، ناقلًا الواقع السوري داخل مناطق سيطرة النظام، كدمشق وحمص واللاذقية وطرطوس، مقابلًا خلال زياراته عدة شخصيات سورية سواء من العوام أو ذوي المناصب.

الفيلم، رغم انحيازه لرأي صانعه، امتاز بالحرفية وكان أقرب في طرحه إلى التوازن، مع رمزية عالية في بعض المشاهد يُترك فيها المعنى للصورة، دون اللجوء إلى التعليق أو حضور سميث نفسه، كمشهد شارع مدمر في حمص يعبره رجل طاعن في السن على دراجة هوائية.

يبدأ الفيلم بالحديث عن الحياة داخل دمشق بصورة منقوصة، فلم تلتقط كاميرا الصحفي أيًا من مظاهر الفقر والتشرد ونقص الخدمات داخل المدينة، إضافة لابتعاده عن نقل حالة الفُصام التي يعيشها السكان بين الحرب واللاحرب. كما ركّزت مشاهد الفيلم في دمشق على الحياة "الطبيعية" في المدينة، وكأن جُل ما يعانيه قاطنو دمشق هو هول القذائف، وأما بالنسبة للمناطق الأخرى كاللاذقية وطرطوس فقد تطرق سطحيًا لمعاناة الوافدين إليها، متناسيًا المصاعب الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي تعانيها هذه المناطق وسكانها "الأصليين"، فليس كل من يسكن داخل مناطق النظام يقضي نهاره على الشاطئ وفي المنتجع.

رغم التسهيلات التي حصل عليها الصحفي مارتن سميث من قِبل النظام إلا أنه لم يتنازل عن حرفيته السينمائية ولم يقدم بروباغاندا

لم تحضر في الفيلم أي شخصية عامة من الشارع تبدي معارضتها للنظام، لتبدو الصورة وكأن كل من يقطنون ضمن مناطق سيطرة النظام مجتمعون على ولائهم، وأن من يعيش خارج هذه المناطق وحده المعارض، كما ظهرت شخصيات ضمن اجتماع علني وصفهم سميث بأنهم "مجموعة نشطاء سياسيين في الداخل"، وظهور هذه الجماعة ضمن الفيلم كان ركيكًا وهذا ما أعرب عنه سميث في تعليق ختم به المشهد "انتهى اجتماعهم ولم يكونوا قد اتفقوا على الأهداف الرئيسية"، ليكونوا ضمن الفيلم المجموعة الوحيدة في الداخل السوري التي تعارض النظام وتسعى بجسد هزيل للبقاء.

تباينت الآراء حول الفيلم، فالبعض اتهم الصحفي سميث باستغلال ما قُدم له وخداعه لمن قابلهم داخل مناطق النظام، فالتسهيلات قدمت للصحفي من قبل النظام السوري، استخدمها لصالح فيلمه بحرفية، ولم تكن النتيجة بروباغاندا إعلامية تمجد طرفًا على حساب طرف آخر، كما يبدو تناقض واضح في الموقف الأمني تجاه صناعة الفيلم وتسهيل تحركات سميث، ففي حين يمنع على أي سوري رفع كاميرا أو الحصول على تسهيلات فردية لصناعة فيلم أو تصوير حاجز أو حتى طلب مقابلة من شخصية رسمية، سَمح النظام لصحفي أمريكي بطيب خاطر أن يتنقل في أماكن سيطرته.

التقى سميث بالمخرج السوري نجدت أنزور في مقهى عام، بعد أن كان قد طُلب من الصحفي العودة لبلاده خلال ثلاثة أيام، أنزور أغاث الملهوف الأمريكي وتوسط له لإتمام فيلمه، فالفيلم وكما قال أنزور سيكون فرصة ليرى الآخرون الواقع السوري داخل مناطق النظام.

قابل الصحفي الأمريكي في الفيلم عدة شخصيات مسؤولة، أبرزها محافظ حمص الحالي طلال البرازي، رجل الأعمال السابق في "دبي"، ووزير السياحة بشر يازجي صاحب فكرة تشجيع قضاء الصيف في سورية وحملة summer in syria، اجتمع الاثنان داخل المشهد ليكونا عينة موثّقة تعبّر عن منطق المسؤولين السوريين.

بدأ المشهد باستقبال المحافظ للصحفي بحفاوة، فهو زائره الأمريكي الأول، المحافظ بدا بمظهر "casual" قلبًا وقالبًا، وتعزز ذلك بعد جوابه على سؤال الصحفي "سمعنا البارحة أصوات انفجار ضخم فما كان هذا؟"، صمت المحافظ برهة يتفكر بإجابة وأرخى بصره متجاوزًا اليوم والبارحة والانفجار والواقع العالق بينهم، ليبين أنه لم يتواجد في المدينة ليلة أمس، فقط كان في افتتاح مهرجان سياحي! تلقى الأمريكي الإجابة بدهشة، ليستمر المشهد بالتصاعد، فشخصية بارزة زينت المشهد، محولةً الوثائقي الأجنبي الجاد لـ"فيلم أمريكي طويل". 

وزير السياحة النظيف الحليق رحّب بالصحفي، مباغتًا إياه بسؤال ينم عن بعد نظر "كيف وَجدت دمشق؟"، تذكر أنهم في حمص فأكمل بعد تردد ينجم عن حكمة "وحمص أيضًا؟"، لم يستمع للإجابة، ليكمل التعليق على سؤاله الخاص، ألم تر كيف أن الناس في سورية يريدون العيش من دون أقنعة وتجميل، ليكمل دونما أي قناع أن ليلة البارحة في المهرجان كانت رائعة وكأنه الدماغ النيّر المسؤول عن الفعاليات العظيمة، آراء الصحفي داخل المشهد بدت خلال تعليقاته، الوزير لم يأت للحديث عن المهرجان، وإنما لزيارة منتجع قيد الافتتاح على بعد أمتار من وسط المدينة المدمر كما ظهر في الفيلم، تدخل الموسيقى التصويرية المشهد لتعبر عن جملة حالات استغراب الصحفي، تلاحق الكاميرا كلاً من المحافظ والوزير لتوثيق اللحظة التاريخية قبيل افتتاح الصرح، الصحفي لا يستوعب الصدمة، ليبدو بجموده مشابهًا لـ"تمثال كنغر زين رقعة توسطت المنتجع"، يُعلق بعد صدمته متهكمًا أنه لا بُد وأنهم يبذلون جهود جدية للنهوض بالمدينة.

اقرأ/ي أيضًا:

"فاطمة".. فيلم لا يتجاوز قوة بوستره

الرؤساء المهووسون بأفلام الرعب