15-يناير-2019

الفنان خير الدين بنعمر

ليس في تونس فقط، بل في معظم الدّول العربية، فإنّ السّائد أنّ الشقّ الصّحراويّ من الدّولة يفتقر إلى المناخات والهياكل والهيئات المسرحيّة، التي تخلق تراكمًا يعمل على برمجة أطفالها وشبابها على الشّغف بالفنّ الرابع، خاصّة من زاوية التّمثيل، إذ بالكاد تصله عروض مسرحيّة ناهيك عن إنتاجها.

في مدينة دوز التونسية، ينافس الحلم بالمسرح لدى الأطفال الحلم بالطب

غير أنّ تجربة فرقة بلديّة دوز للتّمثيل، 540 كيلومترًا إلى الجنوب من تونس العاصمة، خلقت المفارقة في هذا الباب، إذ عملت منذ تأسّست عام 1985، بعد عودة الفنّان منصور الصّغير من ليبيا، وتنسيقه مع رفاقه عبد النّاصر عبد الدّايم، السّبتي الجديدي، سالم نصر، الشّريف بشطولة، إبراهيم كريم، توفيق الصّغير، شكري بشطولة ومحسن بطولة، على زرع الثقافة والشّغف المسرحيين في مدينة/ واحة دوز، من خلال مهرجاناتها وإنتاجاتها وأوراشها التّكوينيّة واستقدامها لعشرات الوجوه المسرحية الوازنة من داخل تونس وخارجها.

اقرأ/ي أيضًا: مهرجان دوز المسرحي.. ظلال الرّبيع العربي

أدّت هذه التّجربة الفارقة، التّي راهنت على روح التّكوين والعرض في الفضاءات المفتوحة، إذ وصل عدد الممثّلين في بعض العروض الشّعبية إلى 500 مشارك، إلى أن يخرج الفنّ الرّابع في مدينة دوز وضواحيها من مقام "المجهول" إلى مقام "المألوف"، ويصبح طبيعيًّا ضمن يوميات الشّرائح المختلفة في المدينة، حتّى أنّني حضرت عام 2018 حفلًا مسرحيًّا في إحدى المدارس، وطرح السّؤال التّقليديّ على التّلاميذ: "بم تحلم أن تكون في المستقبل؟"، فكان الحلم بالمسرح منافسًا للحلم بالطّبّ.

في اليوم نفسه، تعرّفت إلى شابٍّ من المدينة حلم منذ صغره بالمسرح والطبّ كليهما، فكان أن التحق بالأوّل مباشرة بعد التحاقه بالمدرسة في مدينة دوز عام 2003، والتحق بالثّاني في مدينة صفاقس عام 2016، وصار عاجزًا عن التّفريق بين الحقلين، "فأنا لا أرى فرقًا بينهما لأنّ كليهما يعالجان الأمراض، ويحافظان على الصّحّة العامّة، بغضّ النّظر عن كونها جسدية أو فكرية أو نفسيّة".

قدم خير الدّين بنعمر المولود (1997)، من عائلة قدّمت للمسرح التّونسيّ ثلاثة كتّاب مسرحيين هم الإخوة شهاب ومحمّد الخامس وإبراهيم، الذي ارتبطت بدايته ببداية فرقة بلديّة دوز من خلال نصّ "عودة الغائب" المقتبس عن رواية "الياطر" لحنّة مينه، "لذلك فإنّ التحاقي بنادي المسرح في المدرسة الابتدائية كان عفويًّا. وكنت أجد راحتي فيه أكثر من راحتي داخل الفصل، وكنت أتساءل: لماذا لا تكون حصّة الدّراسة في الفصل بمثل طريقة حصّة المسرح في النّادي؟".

غير أنّ خير الدين بنعمر يعترف بأنّ التحاقه بفرقة بلديّة دوز عام 2009، كان بإيعاز من الفنّان فيصل بالطّاهر، "وتزامن ذلك مع فعاليات المهرجان العربي للفنّ الرّابع، حيث انخرطت في ورشة تكوينيّة أشرف عليها المخرج منير العرقي". يضيف محدّث "الترا صوت": "لقد أدهشتني روح الجماعة، التّي كان أعضاء الفرقة يعملون بها. وملأتني يقينًا بأنّي وجدت العشّ، الذي أضع فيه بيض أحلامي المسرحيّة".

سرعان ما وجد خير الدين بنعمر نفسه موزّعًا في عدّة عروض للفرقة، منها "ترياق" و"سفينة الصّحراء" لمكرم السّنهوري و"شير شار" و"بيض الزمايل" لمنصور الصّغيّر و"حكمة قاضٍ" لفيصل بالطّاهر، "شاركت بعض هذه العروض في تونس والجزائر والمغرب، وهو ما منحني فرصة لأن أحتكّ بوجوه واتجاهات جديدة في المسرح". يسأل: "ما قيمة الفنّ إذا لم يكن مفتوحًا على الجديد في كلّ شيء؟".

تطلّع خير الدّين بنعمر إلى الجديد، دفعه إلى أن يخوض تجربته الأولى في المونودراما مع المخرج غسّان الجديد، من خلال عرض "لهيب الرّوح"، الذي افتكّ الجائزة الأولى في كلّ من مهرجان التيسيرا للمونودرام بمدينة الكاف وأيام الجريد للفنون الركحيّة والمهرجان الدّولي الجامعي للمونودراما. كما سبق لمحدّث "الترا صوت" أن توّج بجائزة أحسن ممثّل في المهرجان الوطنيّ للمسرح المدرسيّ ومهرجان دور الشّباب والثّقافة.

حين تكون فردًا في عمل جماعيّ، يقول خير الدّين بنعمر، فإنّك تحمل مسؤولية التّكامل مع الشّركاء في العرض، أمّا حين تكون وحدك على الرّكح في عرض مونودراميّ، فإنّك تصبح فرقة كاملة، وعليك أن تقنع وحدك الجمهور بالبقاء معك إلى النّهاية. إنّ الأمر يشبه أن تحارب وحدك جيشًا من الجنود، ومصداقيتك وقوّتك تكمنان في أن تربح المعركة".

خير الدين بنعمر على الخشبة (فيسبوك)

سألته: هل تفهم المسرح بصفته معركة يا خيري؟ فقال: إنّه كذلك. غير أنّه في الوقت نفسه يناهض ثقافة الحرب والسّلاح، ويكافح من أجل زرع ثقافة السّلام. وإنّ الفنّان المسرحيّ الحقيقيّ مطالب بأن يكابد من أجل تكوين نفسه حتّى ترتبط الممارسة المسرحية لديه بالمعرفة أيضًا لا بالموهية فقط، ثمّ عليه أن يكافح أيضًا من أجل نقل هذه المعرفة إلى الذين يأتون بعده، مثلما حصل هو عليها ممّن سبقوه".

بدافع من هذا المنطق، أقدم خير الدّين بنعمر، الذي تلقّى تكوينات في فنّ التّمثيل والكوريغرافيا وصناعة الدّمى والصّوت والارتجال، من وجوه مسرحية وازنة مثل فتحي العكّاري ومنير العرقي ومعزّ حمزة ومكرم السّنهوري وثريّا البوغانمي وإيميلي ليكوس، على خوض تجربة في الإخراج المسرحي من خلال عرض "جمرة الخنقة".

كان ذلك مع جمعية "وان تو شو" في مدينة صفاقس، حيث جمع خير الدين بنعمر عددًا كبيرًا من الممثّلين الأطفال والشّباب، منهم هادية عبيد وحسام عبد مولاه، في عرض وضع جمهور الدّورة الأخيرة من المهرجان العربيّ للفنّ الرّابع في مدينة دوز أمام رؤية مسرحيّة شبابيّة تفرض هذا السّؤال: أما آن أن نقرأ اللّحظة التّونسيّة من خلال عروض مسرحيّة ينتجها الشّباب، الذين كانوا وقود الثّورة والتّغيير؟

خير الدّين بنعمر: حين تكون وحدك على الرّكح في عرض مونودراميّ، فإنّك تصبح فرقة كاملة

يقول خير الدّين بنعمر: كان رهاني أن أجمع بين الجماليات في العرض من خلال النصّ، الذي كتبه يسري موسى والموسيقى التي وضعها هشام القرقوري والسّينوغرافيا التّي صمّمها إحسان التريكي والإضاءة التّي صمّمها معز مقديش والملابس التّي أشرفت عليها نبيلة سليمان، بمساعدة هيكل يحي واستشارة فنّية من حاتم الحلواني، وتمرير رسالة سياسية إلى المنظومات المعنيّة بالحاضر والمستقبل التّونسيين، من غير الوقوع في الابتذال والاستعراض والواقعيّة الفجّة.

اقرأ/ي أيضًا:​ "ميديا" ربيعة تليلي.. صراخ من أجل الخلاص

يختم خير الدين بنعمر: "ثمّة من يبحث عن ذاته في ماضي أجداده. وثمّة من يبحث عنها في مستقبل الإنسانيّة والكوكب. وأنا أنتمي إلى هذا الخيار، لذلك برمجت خطواتي ورهاناتي وهواجسي على الغد، الذّي أراني فيه مسرحيًّا جديرًا باسمه".

 

اقرأ/ي أيضًا:​

أيوب عمريش.. سندباد المسرح في الجزائر

منصور الصّغير.. أن تقهر المسافات بالمسرح