04-فبراير-2019

جان دوفي/ فرنسا

 

من هنا أنظر إلى المكان الذي جئت منه فلا أتذكر سوى شكل المعسكرات ورائحة اللون الكاكي. كلنا جنود. جنودٌ نائمون على خطوط التماس مع الخوف والعدو، لكلٍّ منا دفترُ خدمةٍ عسكريّةٍ، ومن لا يحمل دفترًا يملك هويّة عسكريّة لمواطنٍ يعتقد أنّه مدنيّ. نساؤنا لا يذهبن إلى العسكر، لكنهُنَّ، وكلّهنَّ كنساء الاتحادات النسائية جاهزاتٍ للتضحية، كفدائيات الخنادق والمتاريس.

*

 

البعث، اليسار، الألوان الحمراء، النجوم الحمراء، الماركسيات، خُطب المارشالات الحُمر، البيانات رقم واحد، انقلابات الانقلابات، الجبهات التي لا تنتهي مقاومتها لنفسها؛ كلها أشياء تقطر من دمائنا، لكننا لا نشعر، أو نتجاهل.. نحاول أن ننسى يا أخي.. نحن نحاول أن ننسى ليس أكثر. نريد نسيان كل الزمان الاشتراكي الذي يستشري كالنمل في نظراتنا التي تتسلّق أشياء العالم المعاصر بكل غرابة، وإلى الأن لا نزال ننظر بغرابة.

ماركس ولينين، وكل الدكتاتوريات التي ولدت لتَحَمِل أسماءهما من بعدهما، وتنحرنا كثمنٍ للوفاء. كلنا اشتراكيون وضحايا، ولا علاج لنا من الاشتراكية إلّا قتلنا، لكي تنتهي الغرابة.

*

 

تخيلوا لو أن الحرب العالمية الثانية، انتهت بانتصار معسكر المحور وهزيمة معسكر الحلفاء! ماذا لو إضافةً لسقوط باريس وموسكو ولندن، كان هنالك سقوطٌ أكبر، سقوطٌ أخلاقيٌ أخطر من مجرد كارثةٍ بشريةٍ وعسكرية عالمية؛ حين يتصدّر صانع المحارق اليهودية لمشهد كبطلٍ تراجيدي دامٍ، ينتصر على كل الدّموع وأشلاء الضحايا، ويتّخذ من روائح الجثث المحترقة عطرًا لأمنياته على المدى القادم، كيف لا وهو قد انتصر؟ هل تخيلتم هذا للحظةٍ واحدة؟

لا أعتقد بأنني، أنتم، وكل خيالات السينما العالمية، كانت ستتمكن من وصف جحيم المشهد، لو حصل العكس ولم يسقط هتلر، أو لم تستسلم اليابان بعد ناغازاكي وهيروشيما، ولم ينحز موسوليني إلى معسكر الحلفاء كالجرذ الهارب من غرقٍ قادم. كيف كانت ستكون الصورة دون رتوش الرأسمالية العالمية، وعصر العولمة والثورة الرقمية؟ لو بقي العالم اشتراكيًا، ذا طابعٍ أحمر، لربما لم نكن لنحتاج إلى ثوراتٍ وربيعٍ عربيٍ يتّسع أحلامنا المخصّبةُ بهرمونات العوالم الافتراضية، ذات الخلفية العولمية. ولم نكن لنمتلك الآن في أواخر العقد الثاني للألفية الجديدة، على أكثر من نصف مليون ضحية، وثماني ملاينٍ من اللاجئين والنازحين وبدو الخيام الجُدد.

لم نكن ربما بحاجةٍ لنغزو العالم بصور جثثنا، وطلبات اللجوء الإنساني والسياسي، ولا لكل منظمات العمل المدني، ومشاريع دعم الخيام وتوطين اللاجئين، والخوض في مستنقعات الاندماج العالمية، الممتلئة بالجليد.

*

 

لم يكن شيءٌ يشجعني على تصديق جدوى كل الأجهزة التي كانت لا تعمل، ورغم هذا كان لا بد من وجودها في كل تفاصيل حياتنا الباكرة. ولكم تساءلت في نفسي مثلًا، لمَ يوجد فرنٌ أسفل كل غاز، لكن الفرن دائمًا لا يعمل؟ لم يوجد في بعض البيوت، أجهزة تدفئة مركزية تلتصق أسفل الجدران، وأحيانًا أسفل الشبابيك، ولكنها دائمًا مطفئة، وذات ملمس معدني بارد.

*

 

أعيد مسلسل "ناركوس"، قصة بابلو إسكوبار، كأحد المسلسلات التي أحبها حين يدهمني الملل، أجلس داخل أحد البيوت الدافئة، محاطًا بالثلج الذي يغطي جميع أراضي شمال الراين الألماني، للسنة الرابعة في هذه البلاد الباردة أحاول الاتزان والاندماج في هدا العالم المغفل والمسكو بالورق، الكثير من الورق الذي يفوق استيعاب مواطن اشتراكي قادم من بلاد اشتراكية مدمرة.

ماذا أفعل بكل هذه الدساتير والضرائب والمواعيد والمسافات وبكل ما ينمو على جانب المسافات من اخضرارٍ وبرد؟

أريد كثيرًا من الأشياء التي فطمت عليها، وأنا رضيعٌ صغير، حتى آخر الأشياء التي غفلت عنها أثناء مغادرتي دمشق للمرة الأخيرة، قبل أكثر من أربع سنوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مزحةُ الموت

رماد العابر بين الأزمنة

دلالات: