15-ديسمبر-2020

من فيلم Spirited Away

"أعدك أني سأخرجك من هذا العالم، لكن إياك والجشع: سيأكلونك".

  • "هاكو" متحدثًا إلى "شيهيرو"، في Spirited Away، لهاياو ميازاكي

 

كان هذا المقال في الأساس مقالًا عن صحافة اليمين وعن صحافة اليسار في لبنان. تحول بسرعة إلى ملل من اليسار، وملل من اليمين، وملل من لبنان. وكثرت الأسئلة التي تبحث عن إجابات، عن الصحافة وعن لبنان، وطبعًا عن اليمين واليسار. ما الذي يقرأه الناس في الأرياف، وما الذي يقرؤونه في المدن. هل ثمن مدن تبقت، أو أن هناك فعلًا أرياف ناجية. السوشال ميديا تصل إلى السماء، وكذلك الإعلام الرقمي، لكن هل المحتوى يكترث لليمين ولليسار، أم أن العالم فعلًا لم يعد يحكمه السياسيون، وصار محكومًا من رأس المال، الذي يتقاتل عليه شبح يسار في العالم، واليمين الناهض من قبوره هو الآخر؟

هناك فجوة تتسع بين المدينة والريف، وبين المدينة والمدينة، وبين الريف والريف. المدينة كما تكون مدينة، والمدينة الممسوخة. الريف بوصفه ريفًا، والريف الذي مسه مسخ المدينة

هناك فجوة تتسع بين المدينة والريف، وبين المدينة والمدينة، وبين الريف والريف. المدينة كما تكون مدينة، والمدينة الممسوخة. الريف بوصفه ريفًا، والريف الذي مسه مسخ المدينة. هناك فجوة تتسع بين المتعلمين وغير المتعلمين، بين التعليم والمعرفة، وبين الذين يلهثون خلف التعليم، ولا يعرفون شيئًا عن المعرفة، وبين الذين يصنعونها. هناك فجوة بين الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين في عالم بلا حدود، فجوة بين بعضهم البعض. عالم رقمي بلا حدود، أو عالمي أممي بلا حدود، أو عالم من الاستهلاك والمستهلكين، يأكلهم كما يأكل الأكل والدي "شيهرو" في Spirited Away لهاياو ميازاكي، ويحولهما إلى خنزيرين يملكان بطاقات الائتمان والنقود الجاهزة. وهناك فجوة بين هؤلاء جميعهم وبين الذين تسميهم الدوائر الأكاديمية بطرافة: "الشعبويون"، الذين يعتقدون أن العالم خلق لأجلهم، وأن الجغرافيا في الواقع، كما يتعلمونها في الصفوف الابتدائية.

اقرأ/ي أيضًا: بيروت أو مدينة أين

إلى حد ما، يبدو أن الأمر يقتضي محاولة صياغة تعريفات جديدة لليسار وأخرى لليمين، قبل الغرق في رطانة اليسار وفي كون اليمين يمينًا بقدر الإفراط في أفكاره. وإذا كنا نتحدث عن يسار لبناني أو عربي عمومًا، في سياقات مختلفة ومتعددة، فاليسار ليس سوى مجموعة أفكار متفرعة من الماركسية حسب تنويعاتها العربية.

في كتابها الصادر بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وصلت سوزان بوك مورس إلى خلاصة مفادها أن الماركسية في سياقها العربي، هي أحد أنساق التنمية الغربية، التي اتسمت بالميل إلى النخبوية على حساب البحث عن أفكار محلية تتصدى للحداثة الغربية. وهذا إطلاقي، ولا يميّز بين "الماركسيات" العربية، لكن فيه شيء من الحقيقة. لكن في النهاية لا بد من الاعتراف أن هذه التصنيفات ـ رغم الانحياز العاطفي لليسار ـ صارت مملة، ولا علاقة للزمن بذلك طبعًا. في كل العالم، قد يكون من يمثّل اليمين فعلًا هو اليسار، ومن يمثّل اليسار فعلًا هو اليمين. عند الحديث عن طبقة عاملة خائفة من العولمة ومن الشركات ومن الشكل الحديث لرأس المال، ستجد يمينًا يظهر كمدافع عن مصالح هؤلاء العمال. في المقابل، ستجد يسارًا كوزموبوليتانيًا، يحلو له أن يصنّف نفسه يسارًا، وأن يستعير المصطلحات من كشكول الحداثة، يسار ديموقراطي، يسار عصري، يسار اليسار، يسار ليبرالي، وهكذا تبدو اللعبة جميلة.  وهذا اليسار أنيق، يترك الملابس الرثة لليمين، ويقوم على قطيعة مع شكل اليسار القديم.

عندما تتجمع الحشود، سترى أشخاصًا جددًا، غير الذين تقرأ عنهم، وغير الذين تعرفهم في الماضي. في صفوف اليسار المودرن والحركات التي يسمّي أعضاؤها أنفسهم "ناشطون" (في لبنان يبالغون في المزاح أحيانًا ويذهبون إلى تسميات أكثر طرافة: على قناة MTV  التي لا تحب اللاجئين السوريين والفلسطينيين يقولون عن المتظاهرين ثوارًا، هؤلاء الذين يذهبون إلى التظاهرات بسياراتهم الحديثة لكي يحملوا اللافتات ويتبادلوا أطراف الحديث قرب الجسر)، ستجد من هم طبقات تعتبر نفسها وسطى، وتفترض أنها حازت تعليمًا جيدًا، بحيث يمكنها أن تتحدث بأكثر من لغة، وترتدي ملابس من أفضل البراندات، من دون أن يلحظ أحد أنها مقلّدة، كما يستفيد المنتمون إلى هذه الفئة من خدعة الهاتف الذكي، وجميع خدع التكنولوجيا المحدودة الأخرى، ويحملون أكواب القهوة في مكعبات بلاستيكية طويلة "صديقة للبيئة" (وهذا ارتقاء عن التراث المتمثل بشرب القهوة في فناجين عربية تقليدية)، كما تجمعهم عدة خصال أخرى.

في العالم، عمومًا، تعتقد الحركات المتطرفة أنها حركات "وسطية"، تأخذ الشعور الوطني من اليمين، وتصوراتها عن العدالة الاجتماعية من اليسار

في صفوف اليمين، ستجد ما تجده على قناة MTV في لبنان، أو من محبّي النظام العسكري في مصر (وهم قلة)، أو الصورة الأكثر رواجًا عن اليمين الأوروبي. وإذ نتحدث عن صورة وليس عن تفكيك وتشريح والعبارات الأخرى التي يحبّها الأكاديميون، فسنشاهد صورًا تشبه بعضها في كل مكان بين هذه الحشود أيضًا، وصور لا تشبه شيئًا. سنشاهد أشخاص من طبقات أقل، علمًا أن اليسار هو الذي يدّعي تمثيل الطبقة الأدنى. ستجد أشخاص أقل اهتمامًا بالموضة، وغالبًا سيكونون أكبر سنًا، كما لو أن العملية تقتضي الانتقال من حشد إلى آخر، بعد التقدم في العمر، أو بعد الإحباط من الأفكار القديمة، والعجز عن تحقيق الذات بسبب مطحنة الرأسمالية. وقد يصدف أن تجد حليقي الرؤوس أو أصحاب العضلات المفتولة والمتباهين بجميع موبقات الذكورة، مع الحاجة إلى اعلان هذه المظاهر وليس إلى اخفائها كما في الحشود "المدنية" اللطيفة التي حولت العدالة الاجتماعية إلى سلسلة قضايا صوتية، للاحتفاء بها لاحقًا على مواقع التواصل الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: فوق ركام مرفأ بيروت

في العالم، عمومًا، تعتقد الحركات المتطرفة أنها حركات "وسطية"، تأخذ الشعور الوطني من اليمين، وتصوراتها عن العدالة الاجتماعية من اليسار. وإن كان المتطرف لا يعرف أنه متطرف، ليس لأن هناك من يملك وظيفة إخباره بأنه متطرف، وهذا الشخص غير موجود في الواقع، بل لأن التطرف لا يكتفي بالصفة، ويشعر دائمًا بنقصان في التطرف وظيفته هو نفسه تعويضها. يشبه هذا طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، الذي يقوم على التقلبات، ولا يمكن أن يكتفي بأن يكون العالم مجرد عالم رأسمالي. فالأخير سلسلة تناقضات متشابكة بين بعضها البعض: الأسواق المفتوحة ضدّ الأسواق المحددة. التنافسية ضدّ الاحتكار، كمتناقضين أساسيين في الطبيعة الرأسمالية. ابتذال السلع إلى أسعار منخفضة ضدّ الكسب. مثلما يعيش التطرف على التطرف، وينتج نفسه بنفسه في عملية البحث نفسها، يقوم النظام الرأسمالي بالأمر نفسه: يقفز من نقيض إلى آخر، ولا يمكنه العيش إلا في بيئة مجبولة بالتناقضات، لأن الاستقرار سيعني شيئًا واحدًا: الانتباه إلى سؤال العدالة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لبنان الوحيد.. لبنان العنيد

لبنان العنصري الصغير