16-يناير-2023
شاب عراقي بعلم العراق على وجهه

ابتهج العراقيون والعرب ببطولة خليجي 25 (Getty)

من حسن الحظّ أنّ ثمّة ما لم يستطع الطغيان في هذه المنطقة استئصاله أو التحكّم المطلق به، مثل أن يعرّف الإنسان منّا عن نفسه بأنّه عربيّ، وأن يحبّ البصرة كما يحب القدس والدار البيضاء.

من المفارقات في الراهن العربي اليوم، أن يتصاعد هذا التعبير عن الحبّ والحنين بين الأجيال الجديدة تجاه الحواضر العربيّة الكبرى، في العراق وسوريا ومصر، وغيرها من المدن المركزيّة في ذاكرتنا الجمعيّة العربية

فمن المفارقات في الراهن العربي اليوم، أن يتصاعد هذا التعبير عن الحبّ والحنين بين الأجيال الجديدة تجاه الحواضر العربيّة الكبرى، في العراق وسوريا ومصر، وغيرها من المدن المركزيّة في ذاكرتنا الجمعيّة العربية، كالبصرة وبيروت والقدس وحلب، وهي عاطفة حبّ وأمل استثنائية باستمرارها وتجدّدها وفعاليتها، وإن كانت مربكة، خاصّة حين تجد تعبيرًا عنها على لسان جيل عربيّ شابّ، لم يتسنّ لأفراده غالبًا زيارة أية مدينّة من هذه المدن، ولم يتعرّض لأي خطابٍ أو تنشئة تعزّز هذه الرابطة ومشتركاتها الثقافية والتاريخية في المدارس أو الكليّات أو حتّى وسائل الإعلام الرسميّة والسائدة، بل ربما تعرّض لكل ما من شأنه أن يضعفها ويذويها.

بصرة السياب

هذه العاطفة العربية لم تنقطع جيليًا إزاء هذه المدن العزيزة، بل ويستمرّ التشبّث بها والحنين إليها، وعلى نحو يثير العجب، بسبب الاعتبارات أعلاه، وبسبب ما مسّ المدينة العربية وأهلها من مرارات التهميش والإفقار وتقطيع الأوصال، وما عانته من قسوة تحييد فاعليّتها الحضارية ونزع سحرها عبر قذفها في متاهات الاستبداد، بله الطغيان، المقترن بالفساد والطائفية والتطرّف. كلّ ذلك قيّد الوصول إلى هذه المدن شديدة الارتباط بهويّة العرب وتاريخهم، وأعاق التعرّف إليها وادّعاء الوصل بها، وكأنّ العرب في حالة إبعاد قسريّ عنها، عبر جدرٍ موحشةٍ من الخوف والشكّ والعسكرة والأمننة والحدود والعنف، وفي ظلّ أنظمة قمع تقطّع الشمل العربي، لأنها تخشاه وترتاب منه، مثلما ترتاب من أيّ ارتباط إنساني مديني حرّ بين مواطنيها.

وهذه العاطفة القارّة في وجدان قطاع واسع من العرب، بأن هذه الأمّة واحدة رغم اختلاف شعوبها وأديانها، هي اليوم مدلول يبحث عن دلالة، كتلك التي وضعها خالد الحروب مؤخرًا، في سياق مونديال قطر، حين تحدّث عن "العروبة الناعمة" لتفريقها عن العروبة الصلبة، بمعناها السياسي، أو العروبة الجديدة بتعبير سيار الجميل كما استشفها بحسب مقال له من أدبيات الدكتور عزمي بشارة، وهي العروبة التي تتسم بالنفس النهضوي التنويري، والمرتبطة بقيم الديمقراطية والتحرّر والمواطنة المتساوية والحقوق الاجتماعية والسياسية والموقف من الاحتلال، وبمسألة الهويّة، ولاسيما بين الأجيال العربية الجديدة، التي تبدو، على خلاف التصوّر السائد، واعية ومنشغلة بها وباحثة عن سبل لسبرها واكتشاف سحرها، ولو عبر كرة قدم. وهذا الانشغال المعاصر بالهويّة الحضارية المشتركة للعرب، يغذّي الوعي بما هو ضائع ومفقود: أي مناخ الحريّة والديمقراطية والانفتاح، الذي يتيح الانخراط في مواطنة حقوقية ضدّ الاستبداد ويطمح إلى مستقبل يمهّد لوحدة وتضامن بين مكوّنات هذه الأمة، وهي عين الأحلام التي بشّرت بها ثورات الربيع العربي منذ العام 2011. 

والأشدّ عجبًا هو أنّه كلّما تزايدت الظروف المحيطة بالديار العربية قسوةً ووحشيّة، وتزايدت مظاهر التخلّف السياسي والتراجع الاقتصادي، وتطاول أمد غياب الرُشد عن السلطة ونخبها المعارضة، وارتفعت الأصوات المجاهرة بتسييس شوفينيّ لكل هويّة فرعية، نجد في المقابل أن هذه العاطفة العربية قد ظلت حاضرة وقويّة، بل وتزايد التشبّث بها والتعبير عنها كلما سنحت الفرصة لذلك. حصل ذلك في شتّى الدول العربية، حتى في تلك التي تقوم بها أنظمة طائفية، ومن بينها العراق ولبنان، حيث لا نعدم، رغم سوء الأوضاع وشبه الفشل في الدولة الوطنية وضعف هويتها الجامعة وشدّة ارتباط المشروع الطائفي بشبكات الفساد المتنفّذة والميليشيات المختلفة، لا نعدم أصواتًا جريئة تؤمن بأن خلاص بلادها يرتبط بتصدّع هذا المشروع وتفكيك الخرافات التي تأسس عليها، والتمسّك بالدعوة إلى وعيٍ جديد لا طائفي ولا تقاسميّ. وهي دعوة قد تبدو حالمة، غير أنّها بحسب مقالٍ لشادي لويس تعبيرٌ عن الحاجة الملحّة والطارئة للخروج من واقع أصعب والرغبة في تجاوزه.

مشجعة عراقية في خليجي 25

رأينا ذلك في نهاية العام، في مونديال قطر الاستثنائي، والذي قلّص المسافات بين مشرق العرب ومغربهم، حين اصطف العرب لتشجيع المنتخب المغربي والاحتفال بإنجازه، ثم سرعان ما رأيناه مجددًا في بطولة خليجي 25، والتي تدفق فيها المشجعون العرب إلى البصرة الزاهرة، ليشهدوا احتضان العراق للبطولة العربية بعد مضيّ أربعة عقود أليمة على المرّة الوحيدة التي استضاف البطولة بها، عام 1979. وتنضاف إلى كلّ هذه المؤشّرات الانطباعية أدلّة بيانيّة ذات قيمة علميّة معتبرة، توفّرها نتائج استطلاع المؤشر العربي للعام 2022، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي أفاد بأن 80 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع يرون أنّ العرب ينتمون إلى أمّة واحدة.

هذه البطولة الكروية نزعت عن العراق كآبة استطالت وتعددت أسبابها، وجعلت العرب يولّون وجوههم شطر بصرةٍ جديدة وفيّة، وُصفت يومًا بأنها "بندقية الشرق"، وظلّ يُعرف عن أهلها الكرم رغم ما نابهم من المحن، حتى قال عنهم ابن بطوطة، كما نقل عبد الوهاب عزام في مقال له في مجلة الرسالة عام 1938: "وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق، وإيناسٌ للضيف، وقيام بحقّه، فلا يستوحش بينهم غريب".

لم يستوحش أحدٌ بالبصرة منذ انطلاق البطولة الخليجية، ورغم الفرحة الطارئة والخصاصة المؤلمة

لم يستوحش أحدٌ بالبصرة منذ انطلاق البطولة الخليجية، ورغم الفرحة الطارئة والخصاصة المؤلمة، إلا أن أهلها آثروا على أنفسهم، وقاموا بحقّ الضيوف وابتهجوا بهم بعد عقود من الغياب، وألفوا في وجوههم الكثير مما يجمع هذه الشعوب ويسهم في تفكيك بعضٍ من ألغام ماضيهم وحاضرهم، وأوّلها ذلك اللغم الخفيّ الذي يزعم أنّ الأمل في هذه البلاد قد ينضب، أو أن العراق قد انتهى، أو أن الصراع على وحدة هذه الأمة قد حسم.