21-أكتوبر-2015

غيلان الصفدي/ سوريا

نجحتُ في فحص القبول في المعهد المسرحي للعام الدراسي (2000-2001)، وأصبحتُ طالبًا في قسم الأدب والنقد. بدأت الدراسة وصرت أكثر اهتمامًا وتنظيمًا في شراء الكتب وقراءتها.. ويومًا بعد يوم صار برنامجي اليومي ثابتًا، لا تغيير فيه.

أستيقظ. أذهب إلى المعهد. وبعد انتهاء الدوام أمرّ في طريق عودتي على بسطات الكتب المستعملة علّني أجد ما ينقصني، فأشتريه. وحين أصل إلى بيتي أرتاح لساعة أو أكثر، ثم أبدأ بالدراسة والقراءة حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم أنام.. وهكذا دواليك مضت عدة أشهر من الفصل الأول، وإدماني على شراء الكتب ورطني بدفع الكثير من مصروفي الشخصي. أبي لم يكن باستطاعته تقديم أكثر من ثلاثة آلاف ليرة كل شهر، وأنا بحاجة لأكثر من هذا المبلغ.

ترافق هذا الوضع مع عدة مواقف محرجة مع الأصدقاء في المعهد وخارجه بسبب الضائقة المادية التي أعيشها كل يوم، وهذا ما اضطرني للبحث عن عمل ما أستطيع براتبه الشهري أن أحافظ على استقراري المادي.

لم تمض بضعة أيام حتى وجدتُ عملًا في مشفى للتوليد، في قسم الاستقبال. عمل ليلي لا يؤثّر على دوامي في المعهد. وعلى هذا الأساس باشرت العمل. صرت أستقبل نساء حوامل تصرخ وتنوح وتئن، وأساعدهنَّ مع الممرضات على الوصول إلى غرفة المخاض، ثم أرافق الأزواج المتوترين القلقين على مصير أولادهم، أحاول التهدئة من روعهم حتى يُجيبوا على أسئلتي الروتينية كي أملأ الاستمارة الرسمية، وأقبض منهم السلفة المالية.

قلما كانت تصلنا حالات ولادة بعد الثالثة صباحًا، عندها أضع كتبي وأبدأ العمل. أنتقل من عالم إلى آخر.. من عالم الصراخ والتوتر إلى عالم المسرح والأدب. هكذا تمضي ليلتي، يتخللها أحيانًا غفوة قصيرة يرتخي فيها رأسي على الكتاب دون إرادة منّي. وما أن يطلع الفجر حتى أصحو وأتجهز لترك المشفى والذهاب إلى المعهد.

مضت عدة أيام على هذا المنوال، لدرجة شعرت فيها وكأنني رجل آلي، بلا أي إرادة.. وعزائي الوحيد في قراءة المسرحيات والروايات، التي كانت تحلّق بي إلى أماكن أخرى، بعيدة عن هذا الواقع الضاغط على حريتي.. إلى أن حدث معي ما لم أنتظره، ولا أتوقعه..! عندها أُضيف شيء جديد إلى حياتي..!

في اليوم العاشر تقريبًا. وأثناء مناوبتي في المشفى. في الساعة الرابعة صباحًا. كنت غافيًا على الكتاب الذي بين يديّ. وإذا بباب المشفى الرئيسي يُفتح، فصحوت فَزِعًا. ورأيتُ رجلًا شكله مُرعب، وملامح وجهه تدعو إلى الخوف. اقترب مني وابتسم، ثم مدّ يده ذات الجلد المتشقق والنافر بشكل مقزز مثل جلد السلحفاة البحرية..! مددت يدي وصافحته بدافع الخوف لا أكثر. أما هو فقد حافظ على ابتسامته الطفولية مما هدأ من روعي قليلًا، وجعلني أستعيد توازني بعد الفزع الذي عشته لثوانٍ منذ دخوله وحتى المصافحة القسرية.. قال لي: أنا أبو جابر. حفّار القبور في مقبرة الدحداح..! قلتُ في سرّي: ما هذه الليلة السوداء..؟! أعمل في مشفى للتوليد، وقبل الفجر بساعة يأتيني حفّار قبور..!! ابتسمت له بفتور، وحافظت على صمتي.

أخبرني أنه قد تغيّب عن المجيء لأن زوجته توفيت، وها هو الآن قد رجع لمزاولة عمله اليومي.
- وما عملك اليومي خارج أسوار المقبرة..؟! 
سألته، فأجابني بأنه يأتي كل يوم عند الساعة الرابعة صباحًا ليأخذ الخلاص من المشفى.
- خلاص..؟ ما هذا الخلاص؟ 
سألته بطريقة ساخرة، فأجاب والابتسامة لا تزال على شفتيه بأن الخلاص هو فضلات النساء التي تُرمى جانبًا بعد ولادتهن..! سمعته، ثم أطبق عليّ الصمت. 
سألت نفسي: لماذا يأخذ تلك الفضلات من المشفى..؟ أيأخذها كي يدفنها عنده في المقبرة، أم ماذا؟ لماذا يتكبد عناء المجيء على دراجة هوائية بعجلتين مهترئتين إلى هنا حتى يأخذ فضلات.. فضلات مقرفة..؟!! 
كانت رائحته قد انتشرت في قسم الاستقبال وهي تشبه رائحة الطين الذي يحيط بالمستنقعات. حاولت تجاهل الرائحة ونظرت إلى وجهه مباشرة. 
سألته، والتقزز يرتسم على ملامح وجهي. 
- خلاص..! ولماذا تريد أن تأخذه..؟ 
فأجاب وهو يسعى للحفاظ على هدوئه بأنني جديد، ولا أعرف أنه سيأتي كل يوم، وأنني سأعطيه الخلاص..! 
- ماذا.. أعطيك الخلاص؟ 
سألته متعجّبًا.. حتى أنني لا أعرف أين يضعونه، ولا أرغب في تولّي هذه المهمة..! 
أجابني بأنه يعرف المكان، وسيذهب ويأخذ الخلاص بنفسه كالعادة..! 
- طيب..! لماذا تأتي وتصافحني وتخبرني بكل هذه المعلومات الغريبة..؟ 
سألته وأنا أخلط الجد بالهزل. وأجابني بأن عليّ أن أخبر المحاسب كي لا يظن أنّ أحدًا غيره قد سرق الخلاص..!! 
- ومن الغبي الذي سيسرق فضلات امرأة حامل..؟ 
سألته بطريقة فوقية ومتعالية. فأجابني بأن الخلاص ثمين، وشركات التجميل تشتريه..! 
ضحكت وسألت متعجبًا.. 
- شركات التجميل..؟ شركات التجميل تشتري هذا القرف..؟ 
- نعم.. الشركات تستخدم هذه الفضلات لصناعة معظم مواد التجميل التي تعطي للمرأة جمالها ورونقها..! وكلما كانت المستحضرات غالية الثمن، كلما كانت نسبة الفضلات (أو الخلاص) فيها أكبر..! 
صُعقت، ثم ضحكت، ثم علّقت على شرحه: 
- أي.. ممكن..! من المرأة وإليها..! 
ابتسم ابتسامة عريضة.  ثم أوصاني بإخبار المحاسب ثم استأذن بالذهاب. ولمحت دون قصد مني شحاطته المهترئة، وأصابع قدميه المتنفخة. كأنه يمضي طيلة يومه وهو يمشي في الطين فأُصيبت قدميه بتلك التشققات الرهيبة. خرج وركب دراجته واتجه نحو المدخل الخلفي للبناء، وتركني شارداً في كل ما جرى بيننا للتو..!

هذا ما جرى معي في الأيام الأولى، وتكرر نفس الروتين لثلاث سنوات، دوام وعمل ولقاء أبي جابر الذي صار صديقًا لي، بحكم زياراته اليومية، وألفتُ منظره تدريجيًا. وتحاورنا في مواضيع شتّى، مما زاد توددي له، ورأيت في شخصه عكس مظهره. رجلٌ عانى الكثير دون أن يشتكي البتة. كان يخفف عن نفسه بين الحين والآخر ويقول: ليتني أموت في أسرع وقت ممكن، وأدفن نفسي مع أصدقائي الموتى، في نفس الحفرة التي دفنت فيها زوجتي..! رحمك الله يا وردة.
   
صرنا صديقين. نتبادل أطراف الحديث كل ليلة لعشر دقائق أو أكثر بقليل.. حدّثني فيها عن شقائه وهنائه، وحدّثته أنا عن دراستي وأحلامي التي لم يفهم منها شيء..! ذكرت له قصة حفّار القبور في مسرحية هاملت، وكأن شكسبير تحدّث عنه بالذات..! كان يضحك ويقول لي بلغته الخاصة: 
- يلعن أبوك يا سكشبير..! ناقصني أنا مرسحيات وشكشبيريات..!! 
وأنا أضحك على كلامه وتعليقاته الارتجالية، التي تخرج عفو خاطره دون رقابة..

حدّثته عن المسرح وقدرته على تغيير العالم، وعن المسرحيات التي كنت أقرأها أثناء مناوباتي في المشفى، وفي قاعات المعهد المسرحي، وهو يستمع إليّ نصف فاهم ما أقول. بالمقابل حدّثني هو عمّا جرى معه في دفن فلان، وكيف خلعت زوجة فلان وبدأت تزلغط بعد أن صار زوجها تحت التراب. أخبرني أيضًا كيف يجمع جماجم الجثث القديمة التي لا أهل لها، وكيف ينظفها ثم يبيعها لطلاب الطب البشري كي يدرسوا جغرافيا جمجمة الإنسان..! أخبرني وأخبرني.. لدرجة صرت أشعر بالمتعة والفائدة. أتعلم منه الكثير من التجارب التي يعيشها، وهو أيضًا كان يحفظ أسماء الشعراء والكتاب وأسماء الأعمال الأدبية التي أذكرها أمامه.

بعد ثلاث سنوات تركت العمل، وتخرجت من المعهد بعد انتهاء السنة الرابعة، وبدأت أبحث عن عمل ضمن اختصاصي. وبحكم انشغالي ومرور الزمن نسيت تدريجيًا صحبتي مع أبي جابر، ومع كل من صادقتهم هناك في المشفى، إلى أن جاء يوم وتذكرته صدفة..

اليوم.. أي بعد ما يقارب العشرة أعوام، وأنا أتابع على التلفاز تشييع شهيد في مقبرة الدحداح تذكرت أبا جابر..! تحمّست وبحثت عن رقم هاتفه واتصلت به.. بعد عدة رنّات ردّ عليّ ابنه. سألته عن والده، فأجابني بعد لحظات من الصمت أنه توفّي منذ أسبوع وهو يدفن شابًا في ذات المقبرة..! توفّي برصاصة طائشة لم يعرف أحد مصدرها..!

ما كان مني إلا أن قدّمت العزاء لابنه، وأغلقت سماعة الهاتف. وأطبق عليّ صمتٌ ثقيل..! مات أبو جابر..! حالفه الحظ -على حد قوله- ومات. دُفِنَ قرب زوجته، بعد أن أمضى كل عمره بين الموتى..! 

(دمشق 2012)