19-فبراير-2019

بشار الأسد (فيسبوك)

في كتابه "عن الأسلوب المتأخر"، يرصد إدوراد سعيد أثر الزمن على العلاقة التي يقيمها مبدع العمل الفني، سواء كان موسيقيًا أو روائيًا أو شاعرًا، مع الواقع الذي يعيش فيه كلما تقدم به العمر، فالذي يميز المبدع صاحب الأسلوب المتأخر عن غيره من المبدعين الآخرين هو خروجه على أفكاره التي كان قد استمات في الدفاع عنها في بداية حياته الفكرية، وما ذلك إلا لاعتقاده أن ثمة طرق ومسارب للحقيقة الفنية يمكن للمبدع أن يرتادها أو يجربها، رغم القلق وعدم اليقين الذي قد تنطوي عليه مغامرته الفكرية تلك، رافضًا في الوقت نفسه الإصغاء إلى غواية الطمأنينة والهناءة التي تغري بها فترة آخر العمر.

في خطاب بشار الأسد في حضرة جوقة أعضاء المجالس المحلية، يبدو الرجل في حل من آثار الزمن وتقلباته

قد يبدو تركيز سعيد في اكتشافه الأسلوب المتأخر عند المبدعين في المجال الفني مبررًا، كون الأمر قابلًا لقياس ومقاربة المنتجات الفنية ومن ثم الحكم عليها، إلا أن الأمر يظل مدعاة للتساؤل عن السر الذي دفعه لاستثناء السياسيين المبدعين، رغم أن السياسية فن عميق مليء بالمغامرة المشفوعة بحكمة تدبير تشظيات الواقع اليومي وانفجاراته، ربما لاعتقاده أن السياسي المبدع والخلاق هو صاحب أسلوب متأخر بالضرورة.

اقرأ/ي أيضًا: وسيم الأسد.. لسان حال "مافيوية" السلطة

في خطاب بشار الأسد في حضرة جوقة أعضاء المجالس المحلية، يبدو الرجل في حل من آثار الزمن وتقلباته، فلا هو صاحب أسلوب متأخر ولا متقدم، ولا حتى بأسلوب ما بين المنزلتين حيث نعثر عليه رجلًا بليدًا على الآخر، لا يجرؤ على معاقرة السياسة المبدعة التي تجترع حلولًا إبداعية لأزمات الواقع، وما ذلك إلا لأن طريقة قراءته للأحداث محكومة بطابع صارم من إنكار الوقائع والبديهيات التي تنهض عليها السياسة الحديثة، فالسياسة في عرفه لا تنهض على فكرة إدارة الشؤون العامة للناس، أي ما هو مشترك بينم، ولا على العمل بإزالة التعارض بين مصالحهم المتعارضة، سواء عبر التفاوض أوالتوسط بينهم وفق مؤسسات الدولة الدستورية، بل عبر الإخضاع والسيطرة.

الأزمة السياسية كمفرز من مفرزات السياسة في عرف الأسد ما هي إلا أزمة فساد أخلاقي صارخ، أو شرخ كبير في ضمير الأشخاص الذين قرّروا الخروج على طاعة سلطته، لا علاقة لها كما يرى بالتعدي على حقوق الناس السياسية وهدر كراماتهم. الناس وفق القراءة السحرية السابقة صنفان، إما خانع ذليل يتشرف الأسد بمنحه لقب مواطن، وإما معارض متمرد مسكون بالشر حتى من قبل ولادته، الأمر الذي لا يليق به سوى وضعية الخائن، الذي يستحق عقوبة الموت عن جدارة استحقاق، وهي قراءة تتقاطع في جوهرها مع القراءة التي حاولت الملحمة البابلية "عندما في الأعالي" من خلالها تفسير الطبيعة الشريرة للإنسان، من حيث كونها تعود لطبيعة الملاط الإلهي الذي خلق منه، الذي كان خليطًا من دم إبليس الشقي وحفنة من صلصال الأرض المدنسة.

المتابع لخطابات الأسد التي قدّر له أن يلقيها في أوقات الأزمات والنوائب التي عصفت بأحوال مملكته، يجد فيها خليطًا متعمدًا وغريبًا من البذاءة والاحترام، من العدوانية والمهادنة، من القسوة واللين، الأمر الذي لا يمكن أن يعزوه المرء إلا لرغبة مضمرة في لاوعي الأسد في تقمص الذات الإلهية القادرة على كل شيء، إلا أن الحظ لم يحالفه هذه المرة كي يكون مقنعًا، فكيف لإله كلي القدرة أن يعجز عن تأمين جرة غاز لكل عائلة شهيد أو مصاب؟

ثمة رغبة مضمرة في لاوعي بشار الأسد في تقمص الذات الإلهية القادرة على كل شيء

العدوانية التي أظهرها الأسد هذه المرة تجاه أنصاره عبر تهديده لهم بالخيانة، لم تكن فقط مجرد رغبة في إظهار الوجه القبيح والمظلم لسلطة الرئاسة، بل تهديد صريح بمعاقبة كل من تسول له نفسه بعدم تبني خطابها التبرري، في تفسير أسباب أزمة المحروقات والكهرباء والإصرار في الذهاب إلى حد كشف جوهر السلطة القبيح الذي يتلطى وراء الفساد الإداري والمفاضلة بين الموالين الأخيار.

اقرأ/ي أيضًا: هاجس التجنيد الإجباري في جيش الأسد السلطاني

في الخطاب الذي تخللته بعض طقوس التهريج والتصفيق، حرص الأسد على الظهور بمظهر الإله القادر على الخلق من الفم، من خلال تجنبه استخدام يديه الغبيتين اللتين تبددان القداسة في أقصى تجليها، إلا أنه لم يجد بدًّا من أن يطوح بهما مرات مرات بقصد نقل إشارت التهديد تارة، والاستجداء تارة أخرى، الأمر الذي يعكس أنه لم يكن في وضعية رجل السلطة الذي يتحدث عن الأزمة بقصد أن يحورها ويطوعها، ويقنع أنصاره بصوابية رؤيته لها، بل كان رئيسًا رثًّا يحاول جاهدًا أن يستعيد بعض من سطوته التي بددتها عجزه في مواجهة الظلمة والبرد والفساد، الذي ينهش قلب مملكته العاجزة عن إضاعة شموع انتصاراتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اقتصاد الأسد الفاسد.. غربال بثقوب كبيرة

دولة الأسد المتوحشة في مرآة دستورها