22-مارس-2016

خارطة الطريق في ليبيا هي السبب الرئيسي للفوضى المؤسساتية والأزمة الحالية (عبد الله دوما/أ.ف.ب)

لا يمكن الحديث عن خارطة طريق دون مشكل موجود وهدف منشود وما بينهما طريق واجب ضبطه. وكان المُشكل هو وجود أنظمة سياسية في الدّول العربية التي اجتاحتها رياح الثورة العربية المجيدة، يجب إسقاطها على وقع شعارات الملايين في الشارع ومطالبهم. وأما الهدف المُعلن فهو تحقيق الانتقال الديمقراطي، فكان الطريق بيّن حيث يجب تفعيل التغيير وتطبيق التحوّل وإتمام الانتقال، فهذه هي العبارات الأكثر رواجًا حينها في 2011. وقطعًا تمثّلت الانتخابات شرطًا عضويًا وضروريًا لإتمام مستلزمات الانتقال من حكم المستبد لحكم الشعب.

إثر الثورات العربية، تم إقرار خرائط طريق في تونس ومصر وليبيا واليمن، تحوّلت جلّها لتكون الداء بدل الدواء وتبين سوء اختيار المسلك

فتمّ إقرار خرائط طريق في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، تحوّلت جلّها لتكون الداء بدل الدواء، ليتبيّن سوء اختيار المسلك الذي كانت نهايته السقوط عمومًا، فكانت خيبة أخرى على الخيبة الأصلية. وما هو مؤكد أن سوء الخيار كان مقصودًا من قوى الأنظمة الخائرة حينها مقابل انقسام القوى السياسية والمدنية المقابلة، مع اختلاف رؤاها، لتحقيق الانتقال الديمقراطي من جهة و"حسن نيتها" أو ربما غياب فطنتها من جهة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: الحقيقة غير الجذابة عن إفشال الربيع العربي

في مصر وبعدما تنحّى رأس النظام، تقدّم الجيش للسلطة في صورة "المنقذ" الذي قدّم خارطة طريق في شكل إعلان دستوري تتلخّص في إجراء انتخابات برلمانية تتبعها انتخابات رئاسية، وبالتوازي يقوم البرلمان باختيار لجنة تأسيسية من مائة عضو تقوم بكتابة دستور جديد لمصر، وذلك مع تولّي المجلس العسكري إدارة البلاد. وقد تمّ التصويت على خارطة الطريق في استفتاء شعبي بعد شهر واحد من تنحّي مبارك، وسط مقاطعة واسعة من الحركات الشبابية الثورية. فكانت النكبة في هذه الخارطة وتم انتخاب برلمان على ثلاث مراحل، والذي تم إسقاطه بحكم قضائي لعدم دستورية قانون الانتخابات، لتطغى المسائل القانونية التقنية في غياهب مخططات الجيش ونواياه لإحكام قبضته على السلطة.

ثم تأجلت صياغة الدستور إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية وسط الجدل حول حلّ البرلمان، وأصدر بعدها مرسي الإعلان الدستوري في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 والذي شكّل عمليًا جبهة الإنقاذ التي باركت الانقلاب العسكري عليه في الثالث من تموز/يوليو 2013، ليتبيّن فشل خارطة الطريق التي فرضها المجلس العسكري وجمّلها بالاستفتاء، وحتّى ملّ الناخب المصري من الذهاب في كلّ مرّة للتصويت فضاق ذرعًا.

وفي ليبيا، تم إقرار خارطة طريق من المجلس الوطني الانتقالي، تم تعديلها أكثر من مرّة آخرها قبل أقلّ من أسبوع واحد من أول انتخابات في البلاد، وهي انتخابات المؤتمر الوطني العام التي تمّت في تموز/يوليو 2012 والذي تمثّلت مهمته في إدارة البلاد فيما تمّ تحديد انتخاب هيئة صياغة الدستور بصفة منفصلة بعد أن كانت في البداية هذه الهيئة كلجنة فرعية داخل المؤتمر الوطني نفسه. وبالنهاية، لم يتمّ انتخاب هذه الهيئة إلا في شباط/فبراير 2014 وكان من المفترض أن تنهي مهمتها في ظرف أشهر قليلة. والآن بعد مرور سنتين على انتخاب الهيئة الدستورية، لم يتمّ بعد إعداد مشروع الدستور.

اقرأ/ي أيضًا: مسوّدة دستور ليبيا تحت المجهر

نتيجة الفصل بين إدارة البلاد والتأسيس الدستوري، غرق المؤتمر منذ انتخابه في مسائل الإدارة في مناخ سياسي واجتماعي مضطرب وسط غياب المسار التأسيسي. ثم احتدّت الأزمة مع انتخاب مجلس للنواب لاحقًا لم تقبل بنتائجه رئاسة المؤتمر لتنقسم البلاد إلى معسكرين بجهازيْن سياسيين وعسكريين متقابلين. وممّا لا مجال للشكّ فيه فإن خارطة الطريق في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي فشلت وهي السبب الرئيسي للفوضى المؤسساتية والأزمة الحالية.

فشلت خارطة الطريق في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي وهي السبب الرئيسي للفوضى المؤسساتية والأزمة الحالية

ويبدو أن خارطة الطريق التي تمّ اعتمادها في تونس كانت الأسلم والأنجع على مستوى تحقيق الانتقال الديمقراطي المؤسساتي باعتماد هرم التمشي التراتبي من الأصل للفرع، ليتمّ إجراء انتخابات مجلس تأسيسي يتولّى إدارة البلاد وصياغة الدستور في آن واحد، وهو ما تمّ في تشرين الأول/أكتوبر 2011، وليتمّ لاحقًا إصدار الدستور في بداية 2014، وتمّ إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بموجب الدستور الجديد في نهاية نفس السنة. وبذلك كان التأسيس السليم لنظام الجمهورية الثانية بعد الثورة.

إن خرائط الطريق لن تنجح أساسًا دون وجود توافق واسع بين الفاعلين أولاً، ودون التزام هؤلاء الفاعلين بالمحدّدات المضبوطة ثانيًا. في مصر، فرض المجلس العسكري خارطة طريق دون تشاور في إعدادها جعلت من صياغة الدستور مسألة هامشية، ثم تم انتخاب برلمان أسقطه القضاء، ثم تم انتخاب رئيس دون وجود دستور، فأصبحت مهمّة صياغة الدستور بيد الرئيس فتورّط مرسي فأصدر إعلانه الدستوري في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. تشكّلت جبهة سياسية باركت الانقلاب لاحقًا، وربما لا ينكر الإخوان اليوم أنهم وقعوا في فخّ نُصب ضدهّم.

وفي ليبيا، وإن كانت القوى الثورية هي التي ضبطت خارطة الطريق دون مشاركة لقوى النظام، فقد فشلت عملية الانتقال الديمقراطي لسوء تقدير هذه القوى لأولويات المرحلة ومستلزماتها، فبدل إيلاء مهمة صياغة الدستور الأولوية، تم انتخاب جهاز تشريعي وتنفيذي كان أشبه بمجلس بلدي وطني، فكان الصراع دون بناء. ويبدو أن خارطة الطريق الجديدة التي اقترحتها الأمم المتحدة لا تختلف عن سابقتها، في ظلّ رفض قوى وطنية واسعة لمحتواها أولًا، وبالتوازي مع فشل تنفيذها من الأطراف المؤيدة لها ثانيًا.

بالنهاية، إن خرائط الطريق لا تمثّل حلاً في ذاتها، بل هي بطبيعتها الطريق نحوه. وهي ليست معبّدة مفروشة بالورد كما كان يظّن الفاعلون في مصر، وليبيا، واليمن وحتّى في تونس التي واجهت تحديات كادت تعصف بعملية الانتقال السياسي. وربّما هذا الدّرس الأكبر الذي يجب تلقيه، ذلك أن إسقاط رأس النظام لم يكن إلا خطوة من ضمن خطوات كثيرة لتحقيق الانتقال الديمقراطي، الذي لا يمكن إنجاحه دون وجود أعلى درجات التوافق الوطني. لذا إن التسليم باستفراد قوى النظام بصياغة خارطة الطريق في الغرف المغلقة وبعيدًا عن أهازيج الشارع، لم تكن بالنهاية فيما سبق إلا عملية شبيهة بتسليم مفتاح السّجن للسجّان مرّة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة تونس بعد 5 سنوات.. تخنقها الرداءة والتهافت‎

المحاصصة المناطقية في ليبيا.. الخطر الأكبر