03-سبتمبر-2020

الروائي السوري خالد خليفة

"لم يصلّ عليهم أحد" ليست العمل الأول الذي أقرأه للروائي خالد خليفة. قرأت له من قبل: مديح الكراهية، دفاتر القرباط، الموت عمل شاق، لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة.

هذه رواية عليّ أن أضيف إلى مقولة "لا تحكم على كتاب من غلافه" لا تحكم على كتاب من قراءة الفصل الأول فيه. عند بداية قراءتي لهذه الرواية كنت متحمسة جدًا، كون خالد خليفة من الكتّاب الذين أحب القراءة لهم. لكن عندما بدأت بقراءة الفصل الأول، أصبت بحالة من الضجر والضياع؛ كان هناك إسهاب في الشرح وتفاصيل كان من الممكن تجاوزها دون أن يفقد العمل أناقته أو أن يؤثر على نسيج الحبكة.

يعرض خالد خليفة في رواية "لم يصلّ عليهم أحد" تاريخ حلب العريق بحقبه المختلفة بأسلوب خاص وجذّاب

ربما لأن العمل مليء بالشخصيات والأحداث والحقب التاريخية، ساهم ذلك في أن يبدو في أوله محشوًا، لكنني أرى أنه كان بالإمكان أن يكون أقل تفصيلًا في الفصل الأول وكان سيبقى العمل مشوقًا ومتناسقًا. وهذا مأخذي الوحيد على العمل. لستُ من النوع الذي يلقي بالكتاب جانبًا إذا لم ترقني بدايته، أو لم تشدني كما يجب، فقد كان لدي حس داخلي بأن خالد سيفاجئني بعد ذلك، وهذا ما حصل.

اقرأ/ي أيضًا: "لم يصل عليهم أحد" لخالد خليفة.. عالم يتداعى

بعد الفصل الأول، بدأت خطوط الرواية والحبكة تتضح أكثر، وشعرت أنني قادرة على الإمساك بكافة هذه الخطوط رغم أن كثافة الوصف والتفاصيل ظلت حاضرة، إلا أنها أصبحت ضرورة لتفتح الأبواب للقارئ على كل ما يود خالد طرحه في هذا العمل، حيث كنت أشعر بالمتعة في كل فصل بعد ذلك وأنا أتلقى هذا التدفق الجميل للغة وللتفاصيل المتعلقة بأحداث الرواية.

أميل جدًا إلى الأعمال الأدبية التي تتناول التاريخ في سياق روائي جميل ومشوق. في بعض الأحيان قد تكون قراءة الكتب التاريخية مملة، لكن أن تقرأ التاريخ بإطار روائي أنيق، هذا أجده طريقة مشوقة وذكية وترسخ العمل في ذهن القارئ أكثر.

عليّ الإقرار بأن الكاتب إلياس خوري أيضًا يمتلك زمام هذه الطريقة وملكة الكتابة من هذا النوع. فمن خلال أعماله تعلمت عن تاريخ فلسطين وتاريخ التطهير العرقي من مجازر وعمليات الترحيل والتهجير القسري الذي جرى للفلسطينيين ما لم أتعلمه في مناهجنا الدراسية.

والآن أجد أن خالد خليفة لديه هذه المَلكة أيضًا، فقد عرض تاريخ حلب العريق بحقب مختلفة بأسلوب روائي جذاب وأنيق. فيتعرض لجملة من المصائر التي تقع ضمن مصيرٍ أكبر لمدينة حلب التي شهدت فيضانات ومجاعات، المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن والسريان، كما استوعبت المدينة جملة من التحوّلات الاجتماعية والسياسية والدينية العميقة. فجاء هذا العمل بثنائية الحب والموت.

السرد كان سلسًا جدًا، وقد أظهر القوة والحنكة التي يكتب بها خالد؛ هو يدرك أنه عمل مليء بالتفاصيل، فجاء السرد سلسًا ليأخذ بيد القارئ نحو سراديب الرواية وتشعباتها.

هناك تنوع في أساليب السرد، ففي بعض الفصول يكون خالد خليفة الحكّاء الذي يروي تفاصيل العمل، وفِي فصول أخرى تتولى شخصياته الحديث عّن نفسها وعن أحداث الرواية. كما أن هناك تنوعًا في أزمنة السرد. قد يكون هذا الجانب مربكًا للقارئ في بدايتها، لكن ما أن يُمسك خطوط الرواية، حتى يكون ممتعًا ويضفي حيوية للنص تخرجه من الرتابة أو من الطابع الكلاسيكي للسرد، حيث يتولى الكاتب سرد كل العمل. أحب جدًا أن أقرأ لكاتب ذكي يفهم ما ينتاب القارئ من حالات شعورية عند قراءة أعماله، وكان خالد من هذا النوع من الكتّاب.

بقدر أهمية مجريات الأحداث للعمل الأدبي، وكيف تتطور الشخصيات، أولي اهتمامًا كبيرًا للنهايات. وفي هذا الصدد، كان صاحب "مديح الكراهية" يمسك فأسًا يجتث شخصيات عمله من صدر القارئ. ولا أقصد هنا اجتثاث الأثر والحضور في وعي القارئ وكيانه، إنما موت الشخصية أو النهاية التي وضعها لها. لقد كانت نهايات فاجعة وكانت فأسه حادة، فنهاية كل شخصية كانت من القسوة ما تركت حفرًا في صدري في كل مرة كان خالد يقتلع إحدى شخصياته من العمل. لكن هذه الأعمال هي التي تحفر نفسها في قلب القارئ وذهنه، ولا تنمحي.

وكما قال كافكا: "إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ الكتاب إذًا؟ كي يجعلنا سعداء كما كتبت؟ يا إلهي، كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب، والكتب التي تجعلنا سعداء يمكن عند الحاجة أن نكتبها، إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، مثل الانتحار. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا، هذا ما أظنه."

هناك تنوع في أساليب السرد في رواية "لم يصلّ عليهم أحد"، كما أن هناك تنوعًا في أزمنة هذا السرد

وهذا ما أظنه أيضًا، وما ظنه خالد فجاء عمله بهذا الحضور والقسوة! تلك القسوة التي ستُغتفر له لأنه سيزرع هذا العمل في قلبي مطولًا.

اقرأ/ي أيضًا: خالد خليفة.. بلاد في جنازة

وقد مُنحت لي الفرصة لأن أكون ضمن مجموعة من القراء حيث تمت استضافة خالد خليفة ومناقشة العمل معه. كانت هذه المرة الأولى لي التي أُناقش فيها عملًا أدبيًا لخالد معه ومع نخبة من القراء الجميلين. كان لقاء ثريًا أضاف لي الكثير. وعليّ القول إن خالد خليفة كاتب لبق ومنفتح للنقاش والنقد. كما تعرض في خلال النقاش للظروف التي كتب بها الرواية وتفاصيل تاريخية أخرى لزمن ومكان الرواية، الأمر الذي أثرى معرفتي جدًّا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مها حسن.. في "مترو حلب"

جولان حاجي.. بنات الثورة السورية