20-أكتوبر-2019

ستيفن شابلن/ بريطانيا

لما أيقنوا أنيّ أعتاشُ على الشوقِ، خبؤوه في خَوابٍ من جامِ الأرواحِ، احتكَروا خبزهُ وماءَهُ وعنبهُ وأهدروا نبيذهُ النادرَ على روسِ الجبالِ والشجرِ والطيرِ، ثُمَّ قايضوني على الذهبِ الذي لا أملكُ، السَهرِ، الحبرِ، والصبرِ على الكتابة، وفتحوا لي مَسربًا صغيرًا في العتمةِ الباسلةِ، قالوا: اتبع ظلّكَ لترى، قلتُ: لا شمسَ فتكونُ الظلالُ، قالوا: اتبع المتأكدَ في داخلك، قلتُ: خائفٌ وأحتاجُ لغةً تُجمّلُ لي الهاويةَ، يدًا محايدةً تدفعني إلى قرارتها، قالوا: لكَ ما أردتَ لو أردتَ. كانوا يجمعونَ النقيضين روحَ البابِ المفضي إلى الحديقة، روحَ الشبّاكِ المفتوحةَ على الريحِ ولمعِ البروقِ السحريةِ!

كانَ إيمانُهم الرجراجُ بالحبّ، إذ جهلوا معجزاتِهِ، فلو كانَ طائرًا لكانَ سماويًا فريدًا بمنطقهِ، لكانوا جعلوهُ قلبهم، أحنوا ضلوعهم عليه، أطعموهُ أكبادهم في فورةِ جوعهِ إلى أهلهِ، دأبِهم إلى امتلاكِه، وشوقي الذي بنيتهُ بالدموع والآهاتِ حائطًا يسندُ حائطًا، جرّةً تخلفُ جرّة، أيةً تتلو آيةً، ولسانَ طائرٍ ضعيفٍ يتبعُ حنجرةً ضعيفةً، أتلبّسُ منطقهُ فأغني كما لو أبكي: "دللوه يا العشق يابني ودلليلي/ من عشرتكم بطلنا/ وهذي نفضة شليلي"، ونفضتُ مما أحسبهُ الحياةَ مسافةَ هوةٍ سحيقةٍ وأرضٍ تحترقُ.

وكان لي ما أردتُ إذ أردتُ: سَكرتي مع العارفين، انزياحي الثريّ إلى ما أيقنتهُ، وطوافي سَبعًا في داخلي، إلى أن مَسّت الحيرةُ جنياتكِ، فانذهلنَ عني وتركنني لليقين الذي لم أخنهُ: المرأةُ الإعصارُ تنامُ في بيتِ نفسي، مثلما تهجعُ رصاصةٌ في حُجرةِ النار، وتَتَحيّنُ الفلاتَ من نحاسِها..

ومما كسبتُ أخيرًا يدَكِ الرحيمةَ، يدَ ربّةِ التراجيديا، أو يدي التي تعصرُ الآنَ إسفنجةَ قلبي على الذكرى!، يدَك التي ستغطُ على الزناد، يدَك التي حررتني من الملائكة وجعلتني ابنًا للشياطين!

تلكَ الثقةُ الأنثى وذلكَ الطيشُ الذكرُ

وكما لو أنيَّ آنيةٌ ضعيفةٌ، يرأفُ القدرُ بي

ويَحرصُ ألّا يخدشَ زجاجَكِ في قلبي

كذلكَ أداريكِ وأزاوج بين الثقة والطيش!

فعولن: (فاحذَرْ)، فلا أنتبهْ لحروفٍ تنوسُ بين المسكّنِ والمتحركِ، ولا لوعاءِ الجُملِ الهشّةِ، يخدشها الشوقُ، حتى وجدتني بالفعلِ "همتُ" أنظمُ قصيدتي، وأنهرُ عذالي عن جنيةٍ بالي، إذ تنامُ ملءَ عينِها، آنَ أنشغلُ ببناءِ الكتابةِ التي سننامُ في حجراتها مثلما نمنا في حضنِ الريحِ، وصحونا فجأةً في بلدٍ أخرَ، نحملُ على ظهورنا بقجةَ الحرائقِ الثقيلةِ والغرق!

لستِ ملكةً ولا أنا رسولُ الملكِ يُفاوضُ لتقفَ الحربُ

حسبنا كائنانِ من الهشاشةِ، يعيشانِ على خريطةِ الورقِ

يموتانِ حنينًا إلى أرضٍ كانت، وصارت خارجَ الجغرافيا!

لن يخذلكُ العاشقُ الذي نَما فيَّ، سيَتَنزّلُ بسلمٍ الحريرِ السماويِّ إلى سريرِكِ، يُجفلُ غزالةَ نهدِكِ المطمئنَةَ، لتفلتَ إلى برية بن يقظان، إلى أسئلةِ الله الخام، إلى مراعي البدو في الجزيرةِ، قد تقتلهُ غلطتهُ، أو يُسعَدُ في المحرّم، طالما توازيا المقدّسُ والمدنّسُ جَريًا إلى البدايات، من حيثِ الحبّ بدايةٌ، الموتُ بدايةٌ، والمرأةُ التي أنتِ وضوحُ الرؤيا، انفتاحٌ على الاحتمالات، قلقُ يصيبُ الوجودَ بالعطالةِ، وهذا ما يجعلُ المغامرةَ عَوزًا لا ترفًا.

وماذا بعدَ هذا الخِبل! سوى أنيَّ كحلٌ أبيض، أثرٌ تركهُ الخزفُ عقبَ زعلهِ الشديدِ. املأ عينيَّ بكِ، لأمنعُ البياضَ الطاغيةَ من احتلالِ بصيرتي، لئلّا أعيشَ أعمىَ، وخسارتي الوحيدةُ أن لا أراكِ، لئلّا أنعمَ بجنةِ الرؤيا دونك، لئلّا أحومَ حولَكِ، على امتدادِ الأساطيرِ فوقَ جسدكِ، حقلِ رغباتي، حرثتُ فيه، وحصدتُ أولادًا غريبينَ، سيقتلونني يومًا!

 

لمْ تقم بفعولِن المشاكسةِ قائمةُ قصيدتي، فأخذتُ اسمَ قطتِكِ "ميسا"، ليرفلَ النصّ بالوداعةِ والوبَر، طيبَ الملمسِ كجسدِكِ الجنيّ وساتاتهِ الطويلِ كوقعِ التفعيلاتِ في البحرِ، وكانَ أنْ انتصرتُ، فمشيتُ ستةَ عشرَ بحرًا، وأسميتُ الروافد: جوازات. لمْ أغرق وسرتُ بقواربِ الموسيقى إلى النجاةِ، الشبعِ، النبيذِ الذي يشيعهُ فمُكِ فأسمعُ وأسكَرُ، وأنتظرُ بروحِ أبّ حنونٍ وقلبِ أمٍّ:" يمه ياوحيد ياغايب" وغيّابي كثرُ لكنكِ وحيدي.

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

انكسرِ الوزنُ والوزّانُ، وانكفأ السعاةُ بينَ عينِكِ وعينِ النبعِ وعينِ الحقيقةِ وعينِ العروضِ إلى أنفسِهم، لكأنّهم شهودٌ زورٌ على الغريبِ المُتصوّفِ في خَلوةِ اللاجدوى، لم يبقوا على ماهمُ عليه من البيّناتِ، بل صدّقوا مارأتْ بصيرتُهم وصدّقوني، فرأيتُ من عينِ الصقرِ قرارةَ الهاويةِ المُضللةِ، وتصوّرتُ جناحَ الصوفيُّ فيَّ أشدُّ من جناحِ الطائرِ، فَطرتُ إلى هناكَ، تسبقني رسائلي والمكانُ أرضُ حروبٍ: حربٌ ضدّ النسيان، حربٌ مع اليقينِ ضدّ النسيانِ، حربٌ مع اليقينِ والنسيانِ ضدي، ومما قلتُ مؤمنًا: الحروبَ ستنتهي، وفيما لم تنتهِ الحربِ فأنا جنديٌّ مخذولٌ، حينَ بعدَ العدو عن طعانِ رماحهِ، غمدَ رايتهُ في صدرهِ، يكفيني انتظاركِ، لأعودَ وجعبتي فارغةٌ من سلاحي، مليئةٌ بالشعرِ وصورِ الغيابِ، حيثُ ذاكرتي، تأخذني إلى حجرتنا بالمرايا الثلاثةِ، القمرِ الفضي فوقَ الشباكِ، وقميصَ نومكِ الكرزي بالدانتيلِ الأسود كنهر ليليّ.

أخذتُ "فاعلاتن" كَحفنةٍ من بحرِ الرملِ، لأحرثَ وأبذرَ وأحصدَ بحرًا طويلًا، واستبدلتُ مفاعيلُن بـ"مفاعي" وبَرَدتُها بمبرَدِ الحنينِ فكانت أفاعي، حتى جاءني صوتُ السهروردي: "الشوق حامل الذوات المدركة إلى نور الأنوار، فالأتّم شوقًا أتّم انجذابًا وارتفاعًا إلى النور الأعلى". ولكمْ صدقتهُ، وتَلبّستُ المتصوفةَ من الشيخِ الأكبرِ إلى أبي يزيدٍ، انتهاءً بالمجنونِ الذي يشبهني، وقال مرّةً: "الحبُّ يأكلُ ويؤكَلُ"!

آمنتُ.. آمنتُ، ورميتُ يحرَ الرملِ بالعصيانِ والأفاعي، فَرانَ واستكانَ، ولمْ يخرجْ من روحي، بل صارَ أنيسَها، ولهُ اسمهُ: بحر الصبر، وصارَ اسمي الذئبُ لشدةِ ماعويتُ، ورددتْ المخلوقاتُ الضعيفةُ عوائي، كما لو هي أجسامٌ صقيلةٌ، يرتدُ عنها الصدى.

وملكتُ من المقدرةِ أنْ ابتدعتُ بدلَ الأواني بحرًا صَبورًا، أخزّنُ فيهِ المعرفةَ الجديدةَ بالأنثى، بهجتي باكتشافها حافةً ناعمةً، أطلُّ من خلالها على السهول التي صارت بعيدةً، وأرأفُ من هذا العلوّ بحالِ العشاقِ الذين لم يملكوا يومًا بحرًا كالذي أملكُ طويلَ الروح، شديدَ البأس والذاكرةِ وجوفهُ الشوقُ وظاهرهُ الشوق.

ولما أخيرًا رأوني وعاءَ النوائبِ، آكلَ المرارِ، حاصدَ سرابِ الصحارى، وأرعى قصائدي بينَ سمائكِ والأكسجينِ النقي في غرفتكِ، وهبوني خَزنةَ الشوقِ واسمًا جديدًا: خازنُ الشوق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتظار تمرين اليائسين

ادفعْ ثمن الهواء