23-فبراير-2017

زينة الخليل/ لبنان

20 نيسان/أبريل يوم صار العود أحمدُ يوم عدنا.
 
"دقيت ع الشباك بعد سنين، سنين، سنين
شفتو انفتح.. كيف شكل
بعدك هون؟ قال علمتني حلوة الحلوين
إن فليت إترك عطر بهالكون".
 
عدّت إلى بيروت بعد غيبة طويلة عن الشرق الجميل، التعيس، عشرين عامًا ماتت فيروز، وشاخ أرز بيروت، وتعبت بغداد مثلما تعبت قضبان السجون من ظلم الأبرياء دون ذنب، وتعبت أنا من بلاد تجعل المرء يشيخ قبل أوانه، بلاد يحتلك حزنها ويضرب قلبك برصاص الحنين إلى بلادك ورصاص مستقبلك المحتوم أمره في ذاك الخراب.

كان بي شوق كما الأم تبكي ابنها الشهيد، كما الأم العاقر التي أنجبت طفلًا مشوه الأخلاق، عاق، تمنت لو أنها بقيت عاقرًا تنجب السعادة من رحم الأيام بدلًا من ولد، شعوري كان الحالتين، كنت حزينة مرة وأخرى سعيدة جدًا.

عدّت في أواخر نيسان/أبريل، ذاك الشهر الذي غنت له فيروز أكثر مما كبّر المأذنون يوم عرفة، عدّت وأنا أعرف أن بيروت، وبغداد والشام، كما كبرت أنا بعد عشرين عامًا هم أيضًا كبروا، وبلغت العواصم للمرة المليون عمرًا.

ليلة 27 نيسان/أبريل، وأنا في طريقي إلى الروشة وصلتني رسالة غيرت مجرى نيسان، ومجرى العشرين عامًا، ومجرى باقي الليالي التائهات في الغربة: "مرحبًا، عرفت إنك ببيروت من الفيس. اشتقتلك صديقتي الفلسطينية السورية، قبل عشر سنين أو أكتر عشرة فوقهم، قلتيلي بعدتك الريح، وسرقتك الغربة، وإنو في لغز بخليكي تضلي عندك بالبلاد الباردة كتير حتى وقت الشمس القوية، أنا مع راضي عندو حفلة توقيع كتاب بالقاهرة وبعد هيك نازلين ع بيروت، أتزوجنا وصار عنا قبيلة من البنات الكادحات، أربعة وولد لازم نلتقي، لازم بتزكر شو حكيو عليي؟ لما نطرت وإنت نسيت صار الشتي ينزل عليي، إجا الصيف وإنت ما جيت".

وأنهت الرسالة عتبًا كان أم حزنًا لا أدري، كانت رسالتها عودة المعتقل البريء بعد 26 عامًا دون شمس، وابنه الذي فتح أبواب السعادة من حيث لا يدري، يا للمصيبة إنه فعلًا لا يدري من الطارق 26 ألف ندبة قادرة على أن تغطي ملامح وجه أبيه التعب.

مرَّ أسبوع على تلك الرسالة دون ردٍ مني أو تساؤل منها عن عدم ردي، وبعد ذلك الأسبوع وصلتني رسالة أخرى بقدر ما هي مختصرة بقدر ما انتشلتني من يأسي ذاك الذي وشمته تلك البلاد البعيدة: "أنا صرت ببيروت، عم أبعتلك ولسه عم تبعدك الريح، وعم تخلي المسافة بيننا بعيدة، بعدك هيك؟ بس إنو تعي ع الروشة لازم شوفك".

أكره أن أذهب، لقد كبرت أنا وعشرون عامًا في بلاد العجز، باريس، كانت كافية على جعل ملامحي قاسية، وعيوني ذابلة، والشعر الأسود في نظرهم الأبيض يخرج من تلافيف دماغي، لكنها كانت قريبة من قلبي جدًا، كانت رحلتي إلى الأردن ثلاثة أعوام، لكن رحلتي معها أكثر من عشرين عامًا رغم عدم التواصل الدائم.

تلك القمحية، الجميلة، عيونها الذكية وملامحها الهادئة جدًا مثل ليلة لم تكن فيها الجارة الثرثارة ونامت كل نساء الحي دونما نميمة أو ذنب ولا ضوضاء، هادئة مثل فجر مثل صبح مثل أول العصر، لأن الليل ما أقبحه مليء بفوضى المغتربين وهذيان العاشقين، تلك البسيطة، البسيطة ألفًا في ردودها، وانفعالاتها، وملامحها.

بالرغم من كل شيء، خوفي وتعب ملامحي إلا أنني كنت بحاجة ماسّة لذلك اللقاء، عشرون عامًا تعبت أحمل الحزن فوق ظهري جزءًا وعلى قلبي الجزء الأكبر، عشرون عامًا بقلب مشوه ورئتين لا محل لهما من الإعراب ولا مكان للأكسجين فيهم في الجدول الدوري.

6/3
ذهبت وأنا أمشي ببطء أحمل كل يأس الأرض، كنت أرتعش خوفًا، لن أتحدث الفرنسية أبدًا، تلك الكلمات الغليظة التي باتت تخرج رغمًا عني لا أريدها أن تخرج، لن أحدثها عن باريس، ولا عن العادات والتقاليد، ماذا اكتسبت من الشعب الفرنسي، والدراسات هناك، سأصمت كل الصمت وأنصت إليها جيدًا، أظنها تحمل الكثير من الحكايا عن ليالي الشرق، كيف كانت مراسم زواجها، وفرحة أول مولود، وعملها، مدارس الأبناء، أول كلمة نطقتها ابنتها، الكتب التي قرأتها، وليلة نام الجميع وبقيت هي بجوار ابنها المريض.

"ياريتني شجرة على مطل الدني
وجيرانها غير السما، وغير المدى
ما في حدا، ما في حدا 
لا تندهي مافي حدا".

أرى من بعيد بحر بيروت يضحك، والصخرتين راكعتين كالعادة، لكن هذه المرة في خشوع أكبر ودموع جلبت كل ذاك البحر، إنها هي يا الله، كاد قلبي يتوقف من شدة الدهشة، كانت تقف بقامتها الممشوقة تسند رأسها على كتف راضي الذي يحمل بيده طفلة كما الشمس ضوؤها يسطع من بعيد، ويلف يده الأخرى حول حبيبته الأولى وحبيبتي. أتيتها من بعيد، لا أظنها ستعرفني، غطى اليأس ملامح وجهي، حتى حبة الخال شاخت، لكنها لماحة وذكية، لو أن ألف غربة سوداء ملأت وجهي ستعرفني من بين مئة.

اقتربت أكثر، كانت شامخة، قوية، تضحك سمراوتان من صلبها حولها، وابنها الأصغر يبكي ممسكًا بثوبها من الأسفل، مشاغبًا قدميها، كنت كلما اقتربت شعرت برائحة البلاد أكثر، كأنني احتضنت فلسطين محررة من كل ظلم، والشام لم يرمها أحد حتى بوردة لأن شوك الورد جارح.

صوفيااااا.. صرخت كما أم المعتقل بعد عمر انتظار، وأنا كأنني سمعت اسمي لأول مرة، تلك النبرة الفلسطينية الحنونة، عشرون عامًا يا قوية وأنتِ ذات الملامح اليافاوية، نفس لمعة العيون، ونفس الأوطان الصغيرة على وجهك تلك التي يسمونها حبوب، كان اللقاء أعمق من أن تصفه كلمات، مدهشًا، لذيذًا، كان لقاءً فلسطينيًا، سوريًا بامتياز، تمنيت لو أن كل الذي تبقى من عمري لقاء أول بعد غربة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لا أريد ميتة الكلمات المأثورة

القمَر والخُبز والوُجوه