24-يوليو-2015

رسم على الخزف- عاصم الباشا / سوريا

وصل أخي مؤيد بعد رحلةٍ امتدّت شهرين من بيت العائلة في مخيّم خان الشيح، بريف دمشق، إلى بيتي في بوخم الألمانيّة. مؤيد قطع الطريق التي يقطعها السوريون الآن: تركيا- اليونان- مقدونيا- صربيا- هنغاريا- النمسا- ألمانيا. سُجن في نصف هذه البلدان، ونام في شوارعها وحدائقها وغاباتها كلّها.

كانت المباريات حروباً عشائرية تخلق لنفسها، على الدوام، أشكالاً تبقيها على قيد الحياة

ليست رحلة أخي ما سأرويه هنا، بل الرحلة التي خضناها معاً في استعادة المكان عند وصوله. فبعد قطيعةٍ امتدّت إلى سنة ونصف، كان لا بدّ لي من استخدام عينيه لأرى ما فاتني، من خلال ثلاثة أسئلة فقط: من مات؟ من اعتُقل؟ من هاجر؟

صحيحٌ أن الأسئلة ظّلت هي ذاتها، لكنّ قائمة الأسماء التي لا تكاد تنتهي جعلتنا نبدو في حالة أشبه ما تكون بإعادة إعمار المكان.

كانت اللحظة التي تذكّرنا فيها الهواية الغريبة لأخينا مهنّد النقطة الأهم، فبسببها وجدنا بؤرةً نبني عليها ما نحكيه. مهنّد كان يجمع مكاتيب الأعراس في خزانته. لا نعرف لماذا! ربما هو ذاته لا يعرف لماذا! لكنه كان يجد متعة خاصّة في أخذ كل مكتوبٍ يصل البيت كدعوة للمشاركة في عرس من الأعراس.

خلال سنوات التسعينيّات صار في خزانته أرشيفٌ كامل لمن تزوّجوا في تلك الحقبة. ولو توقفنا عند الأمر مليّاً، بما أنّ كل بطاقة تخصّ عائلتين، وأنّ كل عرسٍ يخصّ حارة من الحارات، فهذا يعني أنّ هناك تغطية شاملة لكلّ ما حدث في مخيمنا.

تذكّرنا عدّة أعراس كانت وقتها بمثابة حدث على مستوى وعينا. ثمة في الطفولة لحظة تشبه الاستيقاظ من النوم، لا نتذكّر ما قبلها، ولا نعيه، في حين أننا نعي ما بعدها بالشكل الذي يجعلنا نمنح ذلك الحدث فضل القياس عليه.

عرس جارنا حسن كان هو المِفصل بالنسبة لأخي. وابتدءاً منه بدأ يعي الحارة والناس من حوله. حكيتُ له عن تلك الفترة كيف أنّ العرس استمر أسبوعاً، وكيف كانت كل ليلة تختتم بأغنية "سلامتها أم حسن" باكورة المصري أحمد عدوية، كنوعٍ من التحية لحميدة الجاسم، والدة العريس.

ذاكرتي الأطول عمراً بثلاث سنوات من أخي وذاكرته، قادتني إلى الحديث عن حسن. حدّثته أنّه كان لاعباً في فريق اسمه "الأهلي"، ووقتها كان هناك دوري أثار الكثير من الصخب في محيطنا، حيث كانت كل المباريات تنتهي بمشاجرة تقريباً، إذ يتحوّل الفريقان، وكلٌّ معه جمهوره، إلى جيشين يتراشقان بالحجارة. الخاسرون يفتعلون المشكلة على الأغلب. من يشعر بدنو خسارته يبدأ باللعب بعنفٍ، ويمكن هنا أن تتخيّل لاعباً يقود هجمةً ممتازةً يتلقى رفسةً في بطنه أو لكمةً في منتصف وجهه من دفاع الخصم. وبعدها طبعاً لن ترى إلا أجساداً تتراكض في الغبار، وحجارةً تكاد تقول إنّ بركاناً يقذفها من الأرض.

الفِرق مبنيةٌ ظاهرياً حسب الحارات، لكن حارات مخيمنا مقسمّةٌ حسب العشائر التي تسكنه. هكذا كان فريق "الأهلي" لعرب المواسي، وفريق "الناصرة" لبنيْ خالد، وفريق "الاتحاد" لعشيرة الوهيب، وهكذا دواليك.

عمليّاً كانت المباريات حروباً عشائرية تخلق لنفسها، على الدوام، أشكالاً تبقيها على قيد الحياة. وعليه فإنّ نصر فريقٍ، أو "عشيرة"، يحتسب بعدد جرحى الخصم، لا بعدد الأهداف. قلتُ لمؤيد: "ذلك الدوري أول دروسي في العشائرية وآخرها في الوقت نفسه".

ولأنّ عشيرتنا تعتبر أنّ لها السيادة الكاملة على كل المخيّم، أطلق أهلها على الحارة اسم "حارة البلاط". كأنّ المخيمّ مملكةً، وهذه البقعة مقاطعة الحاكم. تلك بالتأكيد فكرة أبي عثمان، مات وهو يحاول إقناعنا أن مجانيننا أرقى من عقلاء العشائر الأخرى.

لدى المخيّم شهوة عارمة لإعادة التسمية والتعريف

كانت الساحة تستدير بين أربعة بيوت. من الشمال بيت المتلصّص المشهور بالتجوال الليلي ومراقبة الأزواج في غرف نومهم، من أجل الاستمناء على خصوصياتهم. من الجنوب بيت عيدة التي لا نراها لكننا نسمعها طوال الوقت وهي تصرخ بنا، نحن الأطفال، لكي نتوقّف عن اللعب وإلا شَوَتْنَا أو قَلَتْنا، حتى ظنّنا أنه منزل الساحرة. ومن الشرق بيت العشاّق، فأفراد تلك العائلة مكتوبٌ عليهم أن يرِثُوا الصبابة من بعضهم، وعلى كل من يُقدم على الزواج أن يواجه رفض أمه، الدائم وغير المبرّر، ليقضي ليله باكياً مطلقاً العنان لأغاني عبد الحليم حافظ. ومن الغرب بيت ظَعْظَع. كنّا نسمه هكذا لمجرد أنه تلعثم مرةً في لفظ كلمة، وخرجت معه "ظَعْظَع"، فنسينا اسمه، كما نسيه أهله، وربما كما نسيه هو.

في الأيام الأولى لعرس حسن جاء شبابٌ من كل الحارات، لطالما رأيناهم يتشاجرون في الملعب، لكنّ الغريب أنهم فرحون للعريس، ويشاركون بالغناء والرقص وكأن ما سبق لم يحدث إلا في خيال جمهور المباريات والحروب. استعرنا عند هذه النقطة شيئاً من ذاكرتنا اللاحقة، وهو المشهد المتكرّر لنديمين يشربان العرق في أحد البساتين، وحين يسكران يمزّقان بعضهما البعض بالأمواس والأيدي وأحزمة الخصر، وفي النهاية سيكون على أحدهما أن يسعف الآخر، وهو يعانقه ويقبّله.

من بين هؤلاء الذين جاؤوا ثمة عازف "غيتار- باص". اسمه زعتر لمجرّد أنّه يحبّ هذه الأكلة. بالمناسبة لكلٍّ منَّا لقبٌ، ولا ينجو من هذه اللعنة إلا "طويل العمر"، كما تقول الأمهات. ولو فتحنا قاموس الألقاب لما انتهينا. يكفي أن تفعل شيئاً ما، مثل خطأ ظعظع، لتعيش العمر أنت وسلالتك بهذا الاسم. لدى المخيّم شهوة عارمة لإعادة التسمية والتعريف.

زعتر أحيا ليلةً غريبةً. بالسُّترة التي بلا أكمامٍ وبالبرنيطة عزف موسيقى أجنبية، ورغم ذلك دبك الشباب، ورقصت الأمهات رقصةَ التلويح بالأيدي. وفي اليوم التالي كان الجميع يتحدّث عن العازف بانبهارٍ، لا سيما الفتيات. سمعتُ عمتي وصديقتها تتحدثان عنه بما يشبه الخدَر، ثم سمعهما الجميع حين تشاجرتا عليه.

بدأ الكبار في الليالي التالية يحضرون. هؤلاء لا يجيئون في البداية، يظهرون بشكلٍ متأخّرٍ في نوعٍ من ادعاء الوقار، وسرعان ما تسقط ادعاءاتهم حين تراهم لا يغادرون ساحة الرقص، ولا تعود هناك أهمية للكاريزما التي يتصنّعونها، بل إنهم يبدؤون بمنافسة الشباب في ما كانوا يسمونه خزعبلات قبل قليل. مثلاً استعرض طراد أسلحته كلها في ليلةٍ واحدةٍ؛ أطلق النار من مسدّس بَكَر، ومن مسدّس مشّط، ومن بارودة صيد، ثم رقص في الساحة بسيفٍ دمشقيّ. نافسته زوجته فتحيّة إذْ أطلقت من المسدسين والبارودة ورقصت بالسيف. في اليوم التالي حين صارا على كلّ لسانٍ عرفت لماذا فعلا ما فعلاه. الرجال كانوا يتحدثون عن ساعة طراد الذهبيّة، والنساء يتحدّثن عن أساور ومباريم فتحية، فقط نحن الصغار كنا نتحدّث عن الأسلحة.

كنت أظنّ أنّني شهرزاد أخي الذي يظنّ أنّه شهرزادي

طبعاً بعد الاستعراض الكبير لطراد وزوجته لم تفد شيئاً المحاولات الكوميدية لأبي تراب، فرغم أنه اعتاد سرقة الأضواء عبر رقصاته الهزلية، أو حركاته السخيفة من قبيل مدّه فراشاً وسط الساحة أو إشعاله سيجارتين معاً.

تذكّر مؤيد المشاجرة التي افتعلها الحصينيّ مع زعتر في إحدى ليالي الأفراح، وتوقّفت ذاكرته عند الصفعة المخمّسة التي طبعتْ وجه زعتر، رغم كل ما تلقاه الأخير من ضربٍ ورفسٍ. طبعاً الحصيني ادعى أمام من فضوا الاشتباك أن زعتر يتحرّش ببنات العشيرة، وأنه يدافع عن شرفنا كلّنا. في حين أن بنات العشيرة لم يتوقّفن عن التحرّش بالرجل منذ عزف وغنّى على آلته الغريبة. موقف الحصيني كان مفهوماً من الجميع، أراد السطو على نجومية زعتر بإهانته، حسب مفهومٍ شوارعيّ آنذاك، وهو قتل البطل، وقد استولده الشباب من أفلام الحركة والأكشن. إذا كان بروسلي أو فاندام أو أرنولد يستطيع أن يفتك بكل هؤلاء الناس، فهذا يعني أنّ من يفتك به أبطل من البطل. الحصيني أراد أن يلفت انتباه الفتيات بالآليّة ذاتها.

في اليوم التالي جاءت دورية شرطة وألقت القبض على الحصيني، واقتادوه إلى احتجازٍ طويل إثر شكوى من زعتر. أهل الجاني وجدوها فرصةً للاستراحة من مشاكل ابنهم، فلم يعزفوا عن متابعة ملفه فحسب، بل تواسطوا لدى الجهات الأمنية أن يطول حجزه، ولهذا شاعت قصيدةٌ في المخيّم، يقال إن الحصيني نظمها في هجاء أهله وعشيرته، متمنيّاً فيها أن تصبح خلفتهم بناتاً.

مفاجأة يوم العرس كانت كبيرة. جاء أهل حسن بمطربٍ ظهر في برنامج مسابقات على التلفزيون، ورغم أن الجميع تابعوا خسارته للمبارزة منذ بداية الحلقة، إلاّ أنهم اعتبروا مجيئه حدثاً، فلا شيء يضاهي أن يكونوا أمام شخصٍ ظهر على الشاشة الصغيرة. يومها نسيت الفتيات زعتر.

"كم سنةً مرّت على ذلك؟" سألتُ أخي، فأجرى حساباً سريعاً على طريقة أمهاتنا: "إذا كان الابن الأكبر لحسن الآن في التاسعة عشرة من عمره، فهذا يعني أننا نتحدّث عن عشرين سنة". ثم استدرك: "صحيح.. التقيتُ بهذا الفتى في اليونان، كان معه أخوه الصغير، وسمعتُ أنهما وصلا إلى النمسا، وطلبا اللجوء هناك". وضحك للفكرة قبل أن يحكيها: "أظنّ أنها فكرة حسن. حسن بخيلٌ وخبيثٌ. دفع للمهربين ثمن إيصال اثنين من أولاده، ليتكفّل قانون لمّ الشمل به وببقية العائلة مجاناً".

ومن طرافات هذه العائلة المتعلّقة مما رواه أخي؛ قصّة كاسيت فيديو العرس الذي حوّله حسن إلى قرص "سي دي"، ووضع صور أولاده، عبر مونتاج بائس، داخل حفلة العرس، تحت عنوان "أولاد العريس". فعلها من باب التوفير، فأولاده يلحّون عليه طوال الوقت أن يصوّرهم.

شعورٌ ما بالواجب داهم أخي فجأةً، فراح يحكي عن البرميل المتفجّر الذي سقط على بيت زعتر وقتل ابنته، وكيف غادرت عائلته كلّها المخيّم. كما روى تحولات المتلصّص من شبابيك النساء إلى مراقبة الشباب، وكتابة التقارير الأمنية بهم، وشاء القدر أن يكتب تقريراً بالحصيني، يتهمه فيه بالتواصل مع الفصائل المسلّحة. موت الحصيني تحت التعذيب جعل الجميع يتحوّلون إلى رجال تحرٍّ، ولما رُصدت كافّة تحركات المتلصص، وصارت كلّ الأدلّة ضدّه، أنقذه غباء إحدى صفحات الفيس بوك التي ما إن شهّرت به حتّى غادر المخيّم. هو الآن يعمل مع اللجان الشعبية التابعة لجيش الأسد في إحدى البلدات القريبة. أبو تراب اعتقله الأمن لأنّه زوّج ابنته لمقاتل من الجيش الحرّ، وطراد اعتقله الجيش الحرّ لأنه زوّج ابنته لضابط في الأمن.

كنت أظنّ أنّني شهرزاد أخي الذي يظنّ أنّه شهرزادي، إلى أن انتبهنا معاً، في لحظة وعي، أن المكان الذي يتقوّض صار شهرزاداً لا مرئيةً تروي عبر شفاهنا حكايتها، في أشرس نوع ممكن من الدفاع عن البقاء. أما نحن، أو سوانا، في هذا البيت، أو ذاك الكامب، أو على ذلك الطريق، فكان علينا أن نبقى في وضعية الرواي حتى لو طلع الصباح، حتى لو صاحت الديكة كلها.