25-يناير-2019

جيرهارد ريختر/ ألمانيا

تجلس على حافة التلة شاردة البال، وتستند بإحدى ذراعيها على كومة العشب الرطب، وتارة تنظر إلى الجدول المائي الذي يجري هناك، خرير الماء يشق الأصداء، صوت الخراف يخرج من الأفق البعيد، ورائحة الطبيعة تلامس أوتار القلب.

مشاهد طفولية تعاود نفسها بنفسها في كل وقت وكل زمان، مشاهد تأبى أن تغادر الذاكرة، ورغبات بريئة تعصى أن تشيخ، كانت تحتاج إلى شيء عاصف بكل قوة وتيقظها من شرودها، مرت بجانبها فراشة ملونة، كانت ولا تزال تحب أن ترسم وتلون الفراشات، وعبق الألوان يحيط بآثارها، وتزين يديها، نظرت إلى يديها مطولًا لترى الألوان مجددًا ما إن كانت عالقة هناك، لكن نظرها خانها هذه المرة، أصبحت تقلبهما باحثة عن بصيص أمل، لكن لا جدوى.

انطلقت مسرعة نحو الغرفة المجاورة بكل ما أوتيت من قوة، وقفت أمام المرآة، وأخذت تتفحص تقاسيم وجهها والاسوداد حول عينيها، مر وقت طويل منذ أن وقفت أمام المرآة لتشاهد ملامحها، لم تكن تعلم أنها بدأ تسهر دون أن تعي ذلك، تسهر مع ذكريات أصدقاء رحلوا، واقفة حائرة وذاهلة، سكنتها الحنين، أنهكتها صوت الموسيقى، الدائرة حول الأفق المجاور، وملامح شتاء قاتم قادم، أتعبها النظر إلى بصيص الأمل، شعرت بحرقة تسري في أوصالها، متجاهلة السبب، فلم يعد يهمها الأمر منذ وقت طويل، فقط اعتادت أن تبحث في تفاصيل صغيرة وهمسات تركها الآخرون في أعماق روحها،  

وامتلأت عيناها بالدموع لكنها أبت أن تخرج من موضعهما، أسئلة كثيرة دارت في مخيلتها، بحث جاهدة عن أجوبة، عن تلك المشاعر التي تخالجنا عندما نفقد أشيائنا الثمينة، وأشخاص كانوا الأقرب إلينا، أشياء كبرت معنا واقتاتت من روحنا، وسيطرت علينا فأصبحنا ضعفاء أمامها، نصبح أطفالًا مشبعين بالهزيمة والخذلان، والفاجعة أن نفقد إحساسنا بالبكاء، نبكي ماء. لماذا علينا دوما أن نبكي على ذكرياتنا؟ أليست نحن من صنعها بفرح في يوم ما؟ أم ترانا نبكي على عمر ضاع في لحظات الجفاء؟

الحزن دومًا يجعلنا شكاكين بذاتنا وبأناس مروا دون أن ينتبهوا أنهم يشكلون نصفنا الآخر، يشكلون جزءًا من أيامنا ولحظاتنا، أحاديثنا وهفواتنا العفوية، ليصبح ظلًا يرافقنا، حتى يكاد يرى في قطرات المطر، وأيام الشتاء الطويلة.

الحزن يأتينا من العدم والوجود، من الصمت والضجيج، من الشموع والورود، من الظلمة من الشمس.

يتجسد في كل مكان، من الأصوات القابعة في العدم، في الأغاني، في تفاصيلنا الصغيرة التي جعلت منا مجانين بالوحدة، ونحن نسير إليها بكامل إرادتنا حفاة بلا أصوات، بلا رائحة، بلا جسد، حينها يقف الزمان مذهولًا، متجمدًا، متصلبًا، رماديًا، هلاكًا.

الوحدة ألم منمق، وفقدان لذة الأشياء التي مضت تدهشنا، وأحيانا تغمرنا بالدفأ. ثم ماذا؟ ثم نصبح أكثر شكوكًا لإخلاصنا وأحلامنا، ليصبح التساؤل مرض ينهش أرواحنا من الداخل. تساؤلاتنا الكئيبة والحزينة، المبهمة والمشبعة بالسراب، هل أصبح ضبابًا؟ هل ستكون هكذا معراة دون أجوبة؟

لكن يا رباه مازالت الدموع تلوح في العيون، يا إلهي أين غادرنا بكاؤنا الضائع؟ الفقدان والألم يغيران كل شيء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نبي الضحك

عيش الكلمة