09-ديسمبر-2016

لبعض المتسولين حيل ذكية لكسب المال في الجزائر(فايز نورالدين/أ.ف.ب)

لا يختصّ مجتمع دون آخر بظاهرة التسوّل، لكنها تختلف من مجتمع إلى آخر، من حيث طبيعة المتسوّلين وطبيعة العبارات والمظاهر التي يعتمدونها في جلب الشفقة عليهم، حتى أن بعضها يدعو إلى السخرية أو الضحك أو الاشمئزاز أو التأمّل.

لا يختصّ مجتمع دون آخر بظاهرة التسول، وهي تختلف من مجتمع إلى آخر، من حيث طبيعة المتسوّلين والعبارات والمظاهر التي يعتمدونها

ينظر الجزائريون إلى فعل التسوّل على أنه معيب، فهم يعنّفون صغارهم على قبول إكرامياتٍ من الآخرين، أمّا إذا مدّوا أيديهم، فإن ذلك يصبح مدعاة لأن يضربوهم، لكنهم يشفقون على المتسوّل في المقابل ويحسنون إليه، ويستهجنون البخل في هذا الباب، بل إن كثيرًا منهم يولي اهتمامًا خاصًّا لدعاء المتسوّل، خاصّة إذا كان طاعنًا في السن، طمعًا في حالة الدّعاء الإيجابي وخوفًا في حالة الدّعاء السّلبي، ربّما لالتصاق صورة المتسوّلين بصورة الدراويش والمجاذيب المتصوّفة الذين يحظون بهيبةٍ خاصّةٍ في المخيال الشعبي العام.

إقرأ/ي أيضًا: التسول والاستغلال.. واقع لاجئات سوريات بالمغرب

في العقود الأربعة التي تلت الاستقلال الوطني، كانت مظاهر الغش لدى المتسوّلين طفيفةً، ذلك أن معظمهم كان معروفًا لدى البيئة التي يتسوّل فيها، فهي تعطيه انطلاقًا من معرفة بأصوله وظروفه، أمّا اليوم، في ظلّ اتساع رقعة العمران وتوفر وسائل النقل، فمن النادر أن تجد متسوّلًا يتحرّك في بيئته الأصلية، وتكفي معرفة بسيطة بطبيعة اللهجات، لإدراك الجهة التي جاء منها كلّ متسوّل، إلا في الحالات التي يلجأ فيها إلى تزوير لهجته، ضمن القائمة الطويلة للحيل التي باتت سائدة داخل مشهد التسوّل في الجزائر.

يقول طالب علم الاجتماع يونس. ج لـ"الترا صوت" إنه يفهم هذه الحيل في إطار الغش العام الذي بات ينخر يوميات الجزائريين. ويوضح: "من الطبيعي أن ينتقل الغش إلى مجال التسوّل، في مجتمع يتوفر على 8000 مهندس معماري مغشوش، ومئات المقاولين الغشاشين الذين لا يتورّعون عن إنجاز مشاريع يؤدّي الغشّ فيها إلى قتل الناس، وطبقة سياسية تتبوّأ المناصب بالتزوير، وطبقة إعلامية ومثقفة تزكي ذلك، ونخبة جامعية تنال الشهادات العليا بتزوير مذكرات التخرّج، وكتلة لا بأس بها من التلاميذ والطلبة تضمن انتقالها بالغش". يضيف: "الأسوأ من الغش في هذه القطاعات، السكوت عليه من طرف المنظومات المعنية به، إذ ماذا فعلنا مثلًا لنضع حدًّا لرخص السّياقة المزوّرة؟".

يولي الجزائريون اهتمامًا خاصًّا لدعاء المتسول ربما لالتصاق صورته بالدراويش المتصوفة الذين يحظون بهيبة خاصة في المخيال الشعبي 

تعدّ الجزائر العاصمة، بحكم كونها عاصمة البلاد التي تحتكر الإدارات والفرص، أكثرَ المدن الجزائرية استقطابًا للمتسوّلين من الجهات الأربع، وقد بات بعضهم معروفًا في الشارع العاصمي، حتى أنه أصبح يحمل اسمًا معيّنًا أطلقه عليه هذا الشارع نفسه، انطلاقًا من صفة من صفاته أو سلوك من سلوكاته.

كنت أدردش مع نخبة من المسرحيين الشباب، في ساحة "المسرح الوطني الجزائري"، على هامش "المهرجان الوطني للمسرح المحترف"، وإذا بـ"بلّوطة" ينهال علينا بالتقبيل على الرؤوس، من غير أن ينبس بكلمة واحدة، إنها عادته في طلب النقود من الآخرين. قال له المخرج أحمد مدّاح: "لقد أعطيتك خلال هذا المهرجان أكثر ممّا أعطيت لأمّي"، ذلك أن بلّوطة، شاب أشقر في الأربعينات، قد يقبّل رأسك عشر مرّات في الجلسة الواحدة، إمّا لأنه ينسى، وإمّا لأنه يدّعي فقدان الذاكرة ليستفز شفقتك أكثر. سأل أحد المسرحيين: "من علّمه أن تقبيل الرأس يؤثر في الجزائري، ويجعله لا يردّ سائلًا يفعل معه ذلك؟ هل درس علم الاجتماع؟".

إقرأ/ي أيضًا:  التعليم.. حل أطفال اللاجئين الأفارقة بالجزائر

غير بعيد عن المسرح الوطني، عند مخرج النفق الصغير المؤدّي إلى محطة القطار، تقف شابة في الثلاثينات من عمرها صارخة: "حابّة نشرب قهوة بالحليب". أعطيتها قطعة نقدية مرضية، حتى أمهد الطريق إلى أن تجيبني على أسئلتي: "أنا: لماذا قهوة بالحليب تحديدًا؟ هي: تعلم أن الجزائري يقدّس القهوة بالحليب، خاصّة في الصباح وعند العصر، وأنا إذ أطلب منه ذلك، فهو لا يتواني عن إعطائي، لأنه يراها حقًّا مشاعًا مثل الماء والملح والنار. أنا: إذًا.. لقد درست الأمر جيّدًا، هي: يموت جوعًا من لا يدرس الأمور يا خو".

في مقابل ذكاء "بلّوطة" و"قهوة حليب"، هكذا بات العاصميون يسمّونها، يقع بعض المتسوّلين في حرج مع الناس، لأنهم يستعملون عبارات غير مدروسة، تحيل بالضرورة على أنهم يتحايلون عليهم، وهو المعطى الذي يؤدّي إلى حرمانهم في أحيان كثيرةٍ، مع موجة من التعليقات السّاخرة، والمثير للدهشة أنهم لا ينتبهون إلى ما تنطوي عليه عباراتهم من "غباء" فيبرمجونها على المنطق، رغم كثرة تلك التعليقات.

يردّد كهل فاقد للبصر، في القطار الرابط بين مدينتي الثنية والجزائر العاصمة هذه العبارة المترجمة إلى اللغة العربية الفصحى: "يا إخوتي، أنا أعمى كما ترون، وأكفل إخوة صغارًا لا أب لهم، أمّهم في المستشفى، وإنني محتاج إلى مبلغ يمكّنني من العودة إليهم في مدينة بسكرة"، يقول ذلك منذ 2012، من غير أن ينتبه إلى أنه يستحيل أن تمكث مريضة في المستشفى أربع سنوات متواصلة، كما يستحيل أن يعجز عن جمع مبلغ صغير يضمن له العودة، خلال كل هذه السّنوات.

في المطبّ نفسه، تقع عجوز طاعنة في السن والشكوى، بقولها إنها تعيل أولادها الصغار، وهي تطلب من خلق الله أن يعينوها على الحليب والحفاظات، "تعلمون معاناة أمٍّ لا تستطيع أن تعطي لصغارها الحليب حين يطلبونه"، من غير أن تنتبه إلى أنها دخلت سنّ اليأس منذ ثلاثين عامًا على الأقل. لقد سمّاها أحد الظرفاء "سارة"، إشارة إلى زوجة النبي إبراهيم التي أنجبت إسماعيل على كبر.

ويقول الجزائريون عادة عن هؤلاء المتسوّلين "أفعل ذلك لوجه الخالق لا لوجه المخلوق، فسيكافئني على صدقتي ويعاقبهم على كذبهم"، كما قال لنا المصوّر إسماعيل مالكي، وأحيانًا يمنع عنهم المساعدة "لأنهم متحايلون، ذلك أن المحتاج فعلًا متعّفف بالضّرورة، وأنا أعرف متسوّلين أغنياء في الأصل، كما أعرف آخرين يستأجرون الأطفال ويدفعون للأطبّاء حتى يزوّروا لهم وصفة تقول إنهم مصابون بأمراض مزمنة"، بحسب عبد اللطيف العامل في شركة السكك الحديدية.

إقرأ/ي أيضًا: 

تسوّل

مخيم "الشوشة".. قصص منسيين في سجن مفتوح