12-مارس-2025
أنس بابا

(WP) الصحفي الفلسطيني أنس بابا

رفض الصحفي أنس بابا أخذ إجازة، قائلًا: "لو توقفت، سأكون وحدي مع أفكاري، وسيأكلني الرعب والبؤس. أعمل بلا توقف كل يوم، لأن هذا العمل هو طريقتي الوحيدة للهروب من هذا الجحيم". بهذه الكلمات يلخص بابا، الذي يعيش ويعمل في غزة، واقعه اليومي في حديثه لصحيفة "واشنطن بوست".

يعمل بابا كمراسل لشبكة "NPR" الأميركية في غزة، وهو من بين قلة من الصحفيين الفلسطينيين الذين يعملون بدوام كامل مع وسائل إعلام أميركية، في وقت تجاوز فيه عدد الشهداء الفلسطينيين 48 ألفًا، وفقًا للسلطات الفلسطينية ووكالات الأمم المتحدة. ورغم أن هذه الفترة تُعدّ الأكثر دموية للصحفيين منذ عقود، يواصل بابا توثيق المأساة، مخاطِرًا بحياته يوميًا لنقل الحقيقة.

تشير "واشنطن بوست" إلى أن أكثر من 162 صحفيًا فلسطينيًا استُشهدوا منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، إضافة إلى عشرات المصابين والمعتقلين. يقول بابا: "أحاول أن أوضح لكل شخص أن سرد قصته لن يغيّر الأمور، لكن على الأقل، نحتاج إلى مشاركة الحقيقة، لنخبر العالم بما يحدث هنا".

نشأ أنس بابا في بيئة صحفية، حيث كان والده، محمد عابد، مصورًا مخضرمًا، ورافقه في الميدان منذ صغره، مما شكل وعيه المهني وحسه الصحفي المبكر

نشأ في بيئة صحفية، حيث كان والده، محمد عابد، مصورًا مخضرمًا، ورافقه في الميدان منذ صغره، مما ساهم في تشكيل وعيه المهني وحسه الصحفي المبكر.

في سن العاشرة، بدأ بابا بمرافقة والده أثناء التغطيات الميدانية، حيث تعلّم أسس التصوير الصحفي وأهمية التوثيق. وعندما بلغ الثامنة عشرة، بدأ مسيرته كمصور مستقل بالتزامن مع دراسته الصحافة والأدب الإنجليزي في جامعة الأزهر في غزة.

عمل مع وكالات وصحف عالمية، مثل "فرانس برس" و"الغارديان" و"وول ستريت جورنال". وفي عام 2021، التقط إحدى أبرز صوره، التي أظهرت صواريخ معلقة في الهواء بين غزة وإسرائيل، لتصبح رمزًا للصراع. وفي عام 2024، انضم إلى "NPR" كمنتج بدوام كامل، ليصبح صوتًا موثوقًا لدى الجمهور الأميركي، إذ يروي الأحداث وسط أصوات القصف وصفارات الإنذار ودموع الناجين.

ورغم انتقال عائلته إلى مصر، بقي بابا في غزة، متنقلًا بين المناطق الخطرة لتغطية الأوضاع. وخلال الهجوم الإسرائيلي على خانيونس، خاطر بحياته للوصول إلى مجمع ناصر الطبي، حيث كانت الجثث تملأ الممرات والمولدات الطبية تتوقف عن العمل.

وصف مشهد طبيب لم يغادر مرضاه على أجهزة التنفس الصناعي خوفًا من تعطل المولدات، قبل أن يعود إلى رفح لتوثيق معاناة النازحين ونقص المساعدات الإنسانية، إضافة إلى الغارات التي أودت بحياة عائلة بأكملها. كان من الصعب عليه تقبّل تجاهل الإعلام العالمي للضحايا الفلسطينيين، في مقابل التركيز المكثف على عمليات إنقاذ المحتجزين الإسرائيليين.

يشعر بابا بالتحيز في تغطية الإعلام الغربي، لكنه يفضّل توثيق الواقع بدقة عوضًا عن الانشغال بالجدل حول المصطلحات مثل "الإبادة الجماعية". يقضي معظم وقته وحيدًا في الميدان، لكنه يجتمع مساءً مع زملائه الصحفيين لتقاسم ما لديهم من طعام. "كنا نخلط كل شيء معًا لنشجع أنفسنا على تناول شيء ما"، قال بابا، مشيرًا إلى أن الصحفيين، رغم المآسي، لا يزالون بشرًا يحتاجون للراحة والتواصل الإنساني.

يعيش الصحفيون في غزة تحت وطأة مخاطر مضاعفة؛ فهم يعانون كغيرهم من المدنيين من العنف والجوع وانعدام الأمان، لكنهم يواجهون استهدافًا مباشرًا يجعلهم أكثر عرضة للخطر. "يمكنك أن ترى زملاءك يُستهدفون كل يوم"، قال بابا. "عندما أقود سيارتي التي تحمل علامة الصحافة، يفرّ الناس منها خشية أن تتحول إلى هدف لصاروخ إسرائيلي". بعض العائلات ترفض حتى أن تتوقف سيارته قرب منازلهم خوفًا من استهدافهم. كما نقول هنا في غزة: "الحرب الحقيقية لا تنتهي بانتهاء القتال، بل تبدأ بعده".

يصف بابا تفاصيل صغيرة لكنها ذات دلالة، مثل لحظة العثور على زجاجة عطره وسط الدمار، والتي كانت واحدة من بقايا حياته الماضية. اضطر لاحقًا إلى استخدام فأس لتقطيع باب خشبي لطهي الطعام، في مشهد يعكس قسوة الحياة اليومية في غزة. "إنها تجربة تُجبر على التعايش معها"، قال، مشددًا على أن الحياة تستمر رغم الدمار.