08-مارس-2017

متنزهون يستمتعون بالجو في يوم صيفي بمدينة لندن (Getty)

بين الساعة السادسة والثامنة من مساء كل يوم صيفي، يتفاعل حينا القديم بساكنيه وشوارعه، محاله وبلكوناته حتى الأسطح العالية المبنية على عجل بالبرطيل الكثير. تمامًا بين كل سادسة وثامنة هناك طقس جماعي نسميّه "التمشاية" بعبارة أدق "شم الهواء" وهكذا يعج الشارع بشميمة الهواء على امتداده في حيٍّ عشوائي، وقد فُرش بالمحال التجارية على كلا الضفتين.

يفعل الملل كل شيء، وبالمقابل نفعل كل شيء لقتله

تُجرى اللقاءات العابرة بين أهالي الحي، ذاهبون وعائدون سكان جدد وقدامى، يجمعون ثرثراتهم وأحاديثهم ومفارقات النهار، وتُخبئ حتى يحين موعد التمشاية والتي تلي القيلولة بساعة واحدة غالبًا، لينطلقون أفواجًا على طول الشارع بخطواتٍ بطيئة تشك بأنها تُحسب بالكلمة، فالكلام كثير والشارع لا يتسع له.

تنطلق النسوة بلباسهن الأنيق المقصود بكل تفاصيله، موحيًا برتابة مفتعلة للحدث اليومي، تتحرك الأجساد التي اتفقت فيما بينها ضمنيًا على خط الذهاب على يمين الشارع وخط الإياب على يساره، لا يخرق هذا الشرط أي طارئ لتجنب الازدحام الحاصل أصلًا، هذا ما كانوا يعتقدونه.

اقرأ/ي أيضًا: عيش بالحدّ الأدنى من الذكريات

غالبًا ما تكون الشلل والمجموعات نفسها تخرج كل يوم مع بعضها، اعتادت منذ وقت طويل وحفظت العادة، والطارئ عليها يخلق مشكلة بالنسبة لخط المسير وللأحاديث المحكيّة بالضرورة.

الجارات والأقارب حسب قُرب الشخص أو نبذك له يتحركون برتلٍ وكأنه مترادف، وإذا صار ووقفت إحداهن لأي سبب كان، كمصادفة شخص تعرفه أو حتى الانزلاق والوقوع تسبب ذلك الرتل المنتظم بالفوضى، فتحدث وقفات وتجمعات أو شيء من هذا القبيل يهدم النسق البشري الخارج لشم الهواء.

بعضهنّ يأخذنّ عربات أطفالهنّ الصغار، حيث الصغير وأمه بحاجة لشم الهواء. ووظيفة العربة ليست تخفيف ثقل حمل الطفل فقط، بل للاستناد قليلًا ولتعديل مزاج المشية حسب الرغبة، مما يفسح المجال للأم بأن تحنيّ ظهرها وترتكي على مقود العربة، ظنًا منها بأن هذه الوضعية مريحة أثناء المشي، ليصبح لدينا امرأة بمؤخرة بارزة.

وعليه يترتب سلوك آخر عند الرجال الذين لهم وقتٌ أيضًا يشمون فيه الهواء، فبين السادسة والثامنة من كل مساء صيفي، يتجمع بعضهم في حلقات صغيرة يفترشون الرصيف أمام واجهات المحال التي شكلت رافدًا للتمشاية. والتي بفضلها اعتبر ذلك الشارع أفضل مكان لشم الهواء.

وهكذا يرشون الفسحة الصغيرة أمام المحل بالماء بعد كنسها، يضعون مقاعد صغيرة حديدية بدون مسند، يشدّ عليها أحبال ملونة، ويأخذون مواقعهم شبه اليومية في تجمعات قد تخلو من أية أحاديث هامة، أمامهم كؤوس الشاي يراقبون حركات ومؤخرات المارين ذهابًا وإيابًا كمن يشاهد مباراة كرة مضرب.

اقرأ/ي أيضًا: الموت يعمر الأرض

في نفس التوقيت تُضرب المواعيد الغرامية بين ثنائيات الحيّ، لتخلق التمشاية ذاتها مساحة لتبادل النظرات ذهابًا وإيابًا مرة أو مرتين بالكثير، يرتبون قبل تلك المواعدة خطة النظرات المتقابلة خلال المسير، وخلافًا للآمال المعقودة، لم تنتهِ أي من تلك المواعدات بموعدٍ غرامي مكتمل.

كعادة فارغة مدورة ويومية، يحج أهل الحيّ كل مساء صيفي في الشارع الطويل العريض في حيّ عشوائي، مستهلكين الوقت والفرص بقراءة واقعهم، مصريّن على شم الهواء بوقعٍ بطيء للكلمة والخطوة مغطى بالثرثرات.

هناك فريق آخر يراقب المشهد من مكانٍ عال، سكان الطوابق الثانية أو الثالثة فقط، معتبرين البلكون كمساحة وحيدة مفتوحة في البيت، ميزةً لمراقبة المتمشيات والمراقبين لهم، كجمهور ثان أو سليط آخر يتابع سير العملية والخطط المدبرة التي تحدث في الأسفل.

المحظوظ هو الذي يضع كرسيه بجانب الدرابزين وغالبًا ما يحظى بهذه الفرصة الضيوف أو الكبار من العائلة، هؤلاء الذين غلبهم الملل فقرروا صرف ساعتين مستمرتين بالتحديق معلقين رؤوسهم يمينًا ويسارًا تاركين عيونهم وعقولهم سارحة أمام مشهدية متحركة متبدلة تتخبط بنشاط. وهكذا بين السادسة والثامنة من كل مساء صيفي يفعل جميع سكان الحيّ الفعل ذاته.

اقرأ/ي أيضًا:
إيموجي المشاعر الميتة
تداع حر في عالم يتهاوى