29-يوليو-2020

الأديبة والفنانة التشكيلية العراقية هيفاء زنكنة

بعدَ "حفلة ثائرة"، المجموعة القصصية التي تحكي فيها أسيرات فلسطينيات محررات فواجع اعتقالهن داخل سجون الاحتلال. كرّست الأديبة والفنانة التشكيلية العراقية هيفاء زنكنة جهدها لتجديد التجربة، وربما تعميمها على الوطن العربي، في ورشات كتابة إبداعية تديرها، هدفها دفع المناضلات العربيات والمعتقلات السابقات إلى سرد حكاياتهن.

الوجهة الأولى كانت تونس، التي أصدرت منها السنة الماضية مجموعة "دفاترَ الملح"، تحكي آلام مناضلات إسلاميات كابدن هن الأخريات ويلات الاعتقال، كتبنا عنها في ألترا صوت وقت صدورها قائلين: "لغة الصمت التي تتحدثها هذه الفئة من النساء، على حد اقتباس زنكنة اصطلاح لشاعرة أرجنتينية، تدفع إلى تسليط الضوء أكثر مع توجيه النظر إلى هذا الصوت المكتوم. مُدوِّنات تاريخًا يغض كتاب التاريخ عنه الاهتمام بوصفه تفاصيل جانبيةً، هي والحق تحمل في طياتها الكثير من الشواهد على حياة مرت ومعرفة اجتماعية في دقائقها التي غالبًا ما تحدث الفرق". لتتبعها هذه السنة بمجموعة أخرى، اختارت لها العنوان "بنات السياسة"، لتكون ثالث إصدار لهذه التجربة الفريدة، والمتحدثات فيه هذه المرة مناضلات ماركسيات من منظمة برسبكتيف ـ العامل التونسي خلال فترة السبعينيات.

في هذا الحوار نستضيف زنكنة للحديث عن كتابها الجديد، عن الكتابة من داخل جدران المعتقل، وورشات فتح الجراح الإبداعية تحكي لنا، وتحكي عن أمور أخرى تكتشفونها في السطور القادمة.


  • "بنات السياسة" هو العنوان الجديد الذي صدرَ تحت إشرافكم أستاذة هيفاء في إطار مشروع يروم تشجيع المعتقلات السياسيات لحكاية قصصهن بشكل إبداعي. حبذا لو نبدأ بإعطائنا لمحة حول هذا المشروع.

كانت البداية في فلسطين وأثناء وجودي مع فريق "احتفالية فلسطين للأدب"، قبل خمس سنوات. أتيحت لي فرصة تنفيذ فكرة إقامة ورشة للكتابة الإبداعية هدفها حث وتشجيع الأسيرات المحررات الفلسطينيات على كتابة تجربتهن حول الاعتقال والسجن، بعدما لاحظت أن هناك مناضلة واحدة قامت بذلك وهي عائشة عودة في كتابها "ثمن الحرية". فكرة الورشة بسيطة: أن تكتب النساء قصصهن بأنفسهن، وعدم الاكتفاء بما يكُتب عنهن بالنيابة. تطورت الفكرة في السنوات التالية لتشمل كتابات المعتقلات والسجينات السياسيات التونسيات.

تدير هيفاء زنكنة ورشات كتابة إبداعية هدفها دفع المناضلات العربيات والمعتقلات السابقات إلى سرد حكاياتهن

حين طلب مني تجمع الباحثات اللبنانيات المساهمة في "كتاب باحثات 17" المعنون "الزَّمن: مُقاربات وشهادات"، كنت حينها موجودة بتونس. وكانت تونس تعيش انفتاحًا سياسيًا، في أعقاب ثورة 14 يناير 2011، مما شجع عديد المعتقلين السياسيين الذين أطلق سراحهم، على نشر يومياتهم عن تجربة السجن. أيامها، كنت، قد انتهيت لتوي من إعداد كتاب "حفلة لثائرة: فلسطينيات يكتبن الحياة" بأقلام الأسيرات الفلسطينيات المحررات من سجون الاحتلال الإسرائيلي، فاخترت كتابة موضوع بعنوان: "قياس الزمن السجني... قراءة في كتابات معتقلين سياسيين تونسيين".

اقرأ/ي أيضًا: حوار | لينا مرواني: المقاومة تنطلق من الوعي السياسي لا من العيش بعقلية الضحية

أردت، حينئذ، تضمين الورقة، بعض كتابات السجينات السياسيات التونسيات إلا أنني فوجئت، أثناء البحث وتجميعي للكتب المنشورة، عندما اكتشفت أن أيًا منهن لم تكتب عن تجربتها في المعتقل، على الرغم من وجود مئات النساء المعتقلات، من انتماءات مختلفة، في حقبتي حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. فنظرت في كيفية إدارة ورشة مماثلة لتلك التي تمت بفلسطين.

يعالج المشروع أسئلة بمستويات مختلفة تمس المرأة العربية عموما بالإضافة إلى المعتقلة السياسية. أسئلة على غرار: لماذا لا تكتب المرأة العربية/ التونسية عمومًا؟ ما أسباب قلة نتاج المرأة بالقياس إلى الرجل؟ ثم: لماذا لا تكتب السجينة السياسية عن تجربتها بينما يواصل رفاقها وزملائها من الرجال مد القراء بالكتاب تلو الآخر؟ مما يضعنا أمام سؤال لا يقل أهمية: ولكن لماذا يجب أن تكتب؟ هل هو فعل ضروري؟ ألا يكفي أنها عاشت التجربة المريرة؟

في المرحلة الثانية من الورشة، أتيحت لي فرصة العمل مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، من خلال مكتبه بتونس، وكجزء من مشروع أطلق عليه اسم "أصوات الذاكرة"، حيث أدرت ورشة ضمت 17 مشاركة، عانين بشكل مباشر وغير مباشر من الاضطهاد والاعتقال في فترة التسعينات. وكانت حصيلة الورشة "دفاتر الملح.. كتابات تونسيات عن تجربة السجن السياسي". تلتها الورشة الثالثة التي ضمت ست معتقلات وسجينات من حقبة السبعينات، والتي نتج عنها الإصدار الأخير: "بنات السياسة.. سردية مناضلات برسبكتيف – العامل التونسي في السبعينات".

  • "حفلة لثائرة" وبعده "دفاتر الملح"، والآن "بنات السياسة". من أين تنبع هذه الرغبة في تسليط الضوء على وجع المعتقلات السياسيات، ولماذا هذا الخيار، أي الكتابة الإبداعية، دون خيارات أخرى كالاستجوابات أو تدوين الشهادات كما هي محكية؟

منبع هذه الرغبة هو النساء أنفسهن. أنهن مناضلات. لكل واحدة منهن تجربتها الاستثنائية التي تشكل جزءًا من نسيج النضال والمقاومة في البلد الذي تنتمي إليه، والتي يجب تدوينها لأسباب عديدة منها توثيق التجربة، حفظ الذاكرة الجماعية، وفاء للضحايا، استمرارية النضال بشكل جديد، إظهارالحقيقة وترسيخ المفهوم الإنساني الاعمق: ألا يتكرر التعذيب مهما كان الانتماء السياسي للفرد.

هيفاء زنكنة: لماذا لا تكتب السجينة السياسية عن تجربتها بينما يواصل رفاقها وزملائها من الرجال مد القراء بالكتاب تلو الآخر؟

إن قدرة القارئ على التواصل واستيعاب نصوص تعالج تفاصيل الاعتقال والتعذيب اللا إنساني محدودة. وبما أن المشاركات يرغبن بنشر تجربتهن والتواصل مع جمهور القراء، بات من الطبيعي تشجيع المشاركات على التقاط اللحظات الإنسانية التي يستطيع القارئ التماهي معها وليس تفاديها. مما يتطلب الإلمام بتقنية الكتابة الفنية وأن تكون الكتابة مختلفة عن التدوين السائد لأغراض التوثيق وتسجيل الشهادات، على أهمية التوثيق والتسجيل. وأن يكتبنها بشكل إبداعي، بتفاصيلها وعمقها الإنساني التي غالبًا ما يهملها كُتّاب التاريخ كدقائق جانبية لا تستحق التسجيل. فلكل مشاركة قصتها الاستثنائية، وكل ما تحتاجه هو تنمية التقنية الفنية اللازمة، الضرورية، لتدوين القصة بشكل مغاير لا ينفي وجودها كإنسانة في نسيج النضال العام.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | هل مات الربيع العربي؟.. دليل سعيد ناشيد للتغيير بالثورات الصغرى

  • بنات السياسة، هنّ يساريات يحكين قصص اعتقالهن. قبل ذلك كنّ إسلاميات في دفاتر الملح، وأسيرات فلسطينيات في حفلة ثائرة. لماذا اختيارُ هذا التقسيم على أساس، وكما يبدو، أيديولوجيًا؟

لا أظن أنه اختيار أيديولوجي محدد. الأصح هو سياسي عام بحكم طبيعة المشروع الأساسية وهو تدوين تجربة الاعتقال والسجن من قبل مناضلات سياسيات. بل وهناك تمايز آخر ينفض عنه صبغة الانتقاء الأيديولوجي، فالأسيرات الفلسطينيات المحررات هن مناضلات ضد الاحتلال الصهيوني، بينما التونسيات، في الكتابين، مناضلات ضد نظام استبدادي قمعي. ويتميز "دفاتر الملح" عن الكتابين الآخرين بأنه يضم نصوصًا متنوعة لمشاركات من أعمار مختلفة وانتماءات هوياتية متنوعة، بالإضافة إلى نصوص معتقلات وسجينات التسعينات المصنفات جميعا بإنهن "إسلاميات"، جراء السقوط في فخ عدم التمييز، المتعمد أحيانًا، من قبل السلطة القمعية، بين الانتماء السياسي "إسلامية" والممارسة الدينية "مسلمة".

حفل إصدار كتاب بنات السياسة
  • إذا أمكنك أستاذة هيفاء، قد يبدو هذا السؤال كلاسيكيًا، كيف تصفين وضعية المرأة اليوم في الأدب والساحة الأدبية العربية؟ أي كموضوع لهذا الأدب، وكمنتج له.

المرأة كانت ولا تزال موضوعًا غنيًا للكتابة الأدبية، بل لعلها، غالبًا، المحور الذي تدور حوله كل الموضوعات الأخرى، مهما كانت وسواء كان الكاتب رجلًا او امرأة. أما بالنسبة إليها كمنتجة، فإنها لا تزال في الصف الثاني، بعد الرجل، من ناحية التراكم الكمي الضروري لتحقيق التغير النوعي. هناك بالتأكيد أسماء بارزة ومتميزة، في عموم البلاد العربية استطاعت الوصول إلى مرتبة عالمية من خلال الترجمة، وساعدت المدونات الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي والمجلات والدوريات الالكترونية الأدبية على دمقرطة الكتابة وتوسيع مساحة النشر، بالنسبة للمرأة خاصة، إلا أننا لا نزال، بالمقارنة، مع دول أخرى (لا أقول الغربية) كأمريكا اللاتينية وأفريقيا، مثلًا، بحاجة إلى المزيد من التشجيع. ومن هنا تنبع الحاجة إلى المزيد من ورشات الكتابة المتنوعة وبمختلف المستويات للتخفيف من الخوف من الكتابة باللغة العربية لئلا تُمس قدسيتها من ناحية، ولتشجيع البوح بالمشاعر والأحاسيس وتطوير الأفكار والمفاهيم وإطلاق المخيلة ومشاركتها مع الآخرين بأساليب فنية تدوينًا، وعدم الاكتفاء ببقائنا بناتًا لشهرزاد.

هيفاء زنكنة: المرأة كانت ولا تزال موضوعًا غنيًا للكتابة الأدبية، بل لعلها، غالبًا، المحور الذي تدور حوله كل الموضوعات الأخرى

  • صدر الكتاب الأخير في ظرفية صعبة يعرفها العالم، الكارثة الوبائية والحجر، كيف أثّرَ هذا الأمر على ظروف صدوره؟

مثل كل شيء آخر في العالم، بسبب ظروف الحجر الصحي، تأخر إصدار الكتاب لعدة أشهر، على الرغم من أنه كان جاهزًا تمامًا للطبع. وحالما رُفع الحجر، تم إطلاق سراح الكتاب وارساله إلى المطبعة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| رشا عمران: لم يستطع أي عملٍ أدبي أو فنّي حتّى الآن أن يُحيط بسوريا

  • في الختام، إذا أمكنك أن تحكي لنا عن أكثر لحظة، أو قصة، طبعت وجدانك من التي أشرفت عليها خلال الورشة؟

هل يمكن للحظة ما أن تمتد وتتمدد لتصبح سنوات؟ عملي مع 30 مناضلة على مدى خمس سنوات الأخيرة، منحني صداقة تماثل في عمقها وحميميتها صداقات الطفولة ومراحل العمر الأولى. وهي منحة ساحرة ونادرة ستبقى معي طالما بقيت على سطح الأرض وبعدها... من يدري؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | الروائية عالية ممدوح: ما زلت أتلقى الدروس

حوار جماعي | الشعر في زمن الثورة.. هل للدم في فم الشاعر طعم الاضطهاد؟