27-يناير-2022

الكاتب والروائي العماني محمد اليحيائي (ألترا صوت)

محمد اليحيائي كاتب وروائي عماني من مواليد عام 1964. بدأ مسيرته الأدبية بكتابة الشعر، ثم انتقل نحو القصة القصيرة والرواية. صدر له في الأولى: "خرزة المشي" (1995)، و"يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها" (1998)، و"طيور بيضاء، طيور سوداء" (2007)، و"نزهة مارشال" (2016)، و"البيت والنافذة" (2017). بينما صدر له في الرواية: "حوض الشهوات" (2015). كما صدر له دراسة تاريخية العام الفائت بعنوان "نظام الحكم في عُمان: من إمامة الانتخاب إلى السلطنة الوراثية".

يعمل محمد اليحيائي في الصحافة المكتوبة والمرئية، حيث ترأس القسم الثقافي في جريدة "عُمان"، وأشرف على تحرير ملحقها الثقافي بين عامي 1988 – 1999، وشارك في تأسيس مجلة "نزوى" الثقافية عام 1994. أنتج وقدّم عدة برامج تلفزيونية في تلفزيوني "سلطنة عمان"، و"الحرة".

أنتج أربعة أفلام وثائقية، هي: "كونونوغو: لاجئون في مخيم المنفى" (2009)، و"الطريق: من التشدد إلى الاعتدال" (2010)، و"تونس: ثورة الكرامة" (2011)، و"تونس: جمهورية الفيسبوك" (2011). يعمل الآن في "التلفزيون العربي" الذي يقدّم فيه برنامج "قراءة ثانية".

هنا حوار معه.


  • بدأ مشوارك الأدبي بنشر مجموعتك القصصية الأولى "خرزة المشي" عام 1995. ولكن هذا التاريخ هو تاريخ النشر. سؤالنا هنا: متى بدأ محمد اليحيائي الكتابة بشكلٍ فعلي؟ من سار به نحو الحكاية، وزع فيه الرغبة بسرد القصص؟

بدأتُ النشر في الصحافة قبل نشر "خرزة المشي" بنحو عشر سنوات. أما المحاولات الأولى في الكتابة، فتعود إلى سنوات قبل ذلك، لكنها كانت محاولات أولية قامت على تقليد ومحاكات بعض النصوص التي كنت أقرؤها وأُعجب بها، في الشعر والقصة وحتى المسرحية.

اليحيائي: تاريخ عُمان محتشد بالأحداث وبالشخصيات التي تقع في دائرة البطل الشعبي أو البطل الأسطوري الذي يمكن استلهامه روائيًا

عملي المبكر في الصحافة كان البوابة التي دخلت منها إلى عالم الكتابة المسؤولة إن صحت التسمية. أي الكتابة الصادرة عن الذات وعن موقف تجاه الحياة، لأن الدرس الأول في الصحافة، بالنسبة لي، هو الصدق والالتزام بقضايا الناس. ومع تطور علاقتي بالأدب، قراءةً وكتابة، تطور وعيي الفني، وصار الصدق والالتزام بقضايا الناس يعني "أصالة النص"، وانفتاحه على المغامرة وعلى الخيال بالقدر الذي يُبقي فيه على وشيجة العلاقة بقضايا الناس حية ومشدودة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| أسماء عزايزة: خوفُ كلّ من يجد ضالّته في الكتابة هو أن يفقدها

لا توجد، أو لا أتذكر لحظة ما، أو حدثًا ما، سار بي نحو الحكاية والرغبة في السرد. كل ما أتذكره من طفولتي هو أنني قضيت السنوات الأولى – سنوات ما قبل المدرسة – متنقلًا بين عالمين: عالم ما يُمكن وصفه بالمدينة (المدينة في مخيلة طفل في نهاية الستينات وأوائل السبعينات في عُمان)، وعالم الريف.

توزعت سنوات طفولتي تلك بين بيت جدي لأمي، في ولاية "السويق"، وكان بيتًا كبيرًا في حي يُسمى "حارة السوق". كان جدي، رحمه الله، أحد تجار السوق. كان حيًا مدينيًا بقياس ذلك الزمان، المنازل المتجاورة، حركة الناس في الدروب الضيقة، الأصوات والروائح.. الخ. والسوق، في حد ذاته، بدكاكينه، وممراته، وأصواته، وروائحه، كان صورة من صور تلك المدينية. وبين "بيتنا"، بيت أبي وأمي في ولاية "بركاء"، وكان بيتًا معزولًا في مزرعة حيث لا تُسمع سوى أصوات الحقل ولا تشتم سوى روائحه.

وفي العالمين، المدينة والريف، كنت الطفل الأول الذي يحظى بالرعاية وبالتدليل، المقرب من جدي وجلسائه ومن أبي، رحمه الله، وجلسائه. إلى جانب تنقلي بين الحركة والصخب في بيت جدي، والهدوء والصمت في بيت أبي. كل ذلك غذى خيالي بالكثير من الحكايات والقصص التي كنت أستمع إليها، وقادني في مرحلة لاحقة إلى القراءة ثم إلى حكاية وكتابة القصص.

  • اللافت في تجربتك أنك بدأت بكتابة الشعر، ثم انتقلت إلى القصة القصيرة، ومنها نحو الرواية. كيف تفسِّر هذا التنقل بين هذه الأنواع؟ وهل من سر وراء كون الشعر والقصة القصيرة مفتاحًا لمن يدخلون عالم الكتابة الروائية؟

عُمان مجتمع "حكايات وقصص"، فثمة في حياتنا الكثير من الحكايات والقصص، وفي ماضينا الكثير من الأساطير والغموض، وفي تاريخنا الكثير من الأحداث، تاريخ مزدحم بالشخصيات والحروب والصراعات، والعلاقات المتشابكة بين القبائل والأحلاف القبلية، بل وبين دول وإمارات ومشيخات، وزعامات ضمن الجغرافية العمانية التي كانت ممتدة عبر فارس والمحيط الهندي، غير أن الشعر "القصيدة" كان هو الوجاهة الأدبية/ الاجتماعية، وكانت المكانة للشاعر وليس لـ "القصّاص" أو "الحكاء". وكغيري من أبناء جيلي، وممن أيضًا تحول من الشعر إلى السرد أو من القصيدة إلى القصة والرواية، أخذتنا غواية الشعر و"مهرجانيته" في تلك السنوات.

اليحيائي: أعطتني الصحافة الكثير، أهمها الاقتراب من قضايا وأسئلة الناس، معرفة التفاصيل، الإشارات، مشاغل السياسة ولاعبيها وألاعيبها

لكن السرد تغلب، وأظن أن لوعيي الأول الذي تشكل على سماع القصص والحكايات، وانفتاحي المبكر على قراءة السرد، "ألف ليلة وليلة"، والسير الشعبية، وبعض كتب التاريخ العمانية كـ "السير والجوابات"، و"تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان"، ثم الرواية، الكلاسيكيات المترجمة والعربية، وصولًا إلى الرواية الحديثة؛ كل ذلك كان المدخل للانتقال من الشعر إلى كتابة القصة والرواية.

  • رغم كتابتك للشعر، إلا أنه لم يصدر لك حتى هذه اللحظة أي عملٍ شعري، ما هو السبب؟ وما الذي وجدته في القصة القصيرة والرواية، ولم تجده في الشعر؟ وأين يجد محمد اليحيائي نفسه حقًا، في الشعر، أم القصة القصيرة، أم الرواية؟ ولماذا؟

علينا أن نفرق بين الشعر باعتباره أصل الأشياء، إذا جاز هذا الوصف، وبين القصيدة باعتبارها شكل من أشكال التعبير.

أحب الشعر في السرد أكثر منه في النص الشعري، في الرواية والقصة أكثر منه في القصيدة. الشعر صورٌ ومجازاتٌ، وحين يكتنز جسد النص النثري بالصور والمجازات، دون أن يكون ملتزمًا أو محكومًا بتلك الضوابط الإيقاعية التي للقصيدة، يتجلى ويتمظهر الشعر أكثر.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| غسان حمدان: أنا ابن اللغات المتعدّد

في وقت ما، مطلع التسعينات، كنت قد أعددت مجموعة شعرية للنشر، وحين عدت إلى قراءتها القراءة الأخيرة قبل إرسالها إلى الناشر، انتابني شعور من عدم اليقين، وشعرت بشيء من الفتور، فأهملتها، وانتهت حياة تلك المجموعة.

أظن أنني وجدت الشعر في النثر، أو في السرد، مضافًا إليه مزية أخرى في السرد، وهي القدرة على قول التفاصيل وإثارة الأسئلة ومقاربة الحياة اليومية، بشرًا ومكانًا، وشعرنتها بل وتنغيمها. الخيال في السرد أكثر حرية منه في الشعر، والحرية في السرد أكثر منها في الشعر.

هذا تصور شخصي بالطبع، لا قواعد ولا حقائق في الفن. وإذا ما كان بمقدورنا الحديث عن حقيقة في الفن، فهي أن الشعر، كما قلت، هو أصل الأشياء، وأي عمل فني، رواية، أو قصة أو قصيدة أو لوحة أو مقطوعة موسيقية، يخلو من الشعر، يخلو من الروح، ومن قدرته على الحياة وقدرته على اختراق الزمن والعيش في الأبدية.

  • منذ أن صدرت مجموعتك القصصية الأولى وحتى هذه اللحظة، ما الذي تغيّر في تجربتك الأدبية، ما الذي ظل ثابتًا أيضًا؟ ولماذا؟ وبرأيك، ما الذي يظل قابلًا للتغيّر، وما الذي يُكتب له أن يظل ثابتًا في تجربة الكاتب؟

هذا سؤال صعب عزيزي مصطفى، ويجيب عنه النقد. ليس بمقدوري تقدير ما الذي تغير في تجربتي، ووضع يدي عليه. كل يوم هو يوم جديد، مختلف عن سابقه، بل كل ساعة مختلفة عن سابقتها، وكل قراءة هي عبور إلى الضفة الأخرى من النهر، وكل نص، بالتأكيد هو ولادة مختلفة، إن لم تكن جديدة. لكن ملامح هذا الاختلاف أو تلك الجدة تتعرف إليها العين الأخرى، عين القارئ، أو عين الناقد.

اليحيائي: الخيال في السرد أكثر حرية منه في الشعر، والحرية في السرد أكثر منها في الشعر

ما يوصف بـ "الأصالة" أو "الصدق"، وهما أمران ملتبسان ومختلف عليهما وعلى حدود حضورهما وغيابها في النص. حضور تلك الأصالة وذلك الصدق، أو غيابهما، هو، في تقديري، ما يمنح النص حياة أبدية أو حياة مؤقته. ثمة نصوص وأعمال فنية، تحيا متوهجة في قلب الزمن: هوميروس، المتنبي، شكسبير، شوبان، جيمس جويس، أم كلثوم، نجيب محفوظ، فيروز، غابرييل غارسيا ماركيز، بورخيس، يوسف إدريس، نزار قباني، محمود درويش، الخ. ومع هذا العنقود المشع من المبدعين، ظهرت أسماء أخرى كثيرة في ضروب فنية عديدة لكنها انطفأت.

اقرأ/ي أيضًا: آية منصور: أن تخاف أمرٌ طبيعي في العراق

إذا تمكنا من القبض على مفهومي "الأصالة" و "الصدق" وتقديم مفاهيم محددة لهما، حينها يمكننا التنبؤ بحياة النص، لكني لا أظن أن بمقدور أحد القيام بذلك.

  • هل تغيّرت نظرتك إلى الكتابة عن نظرتك الأولى لها؟ وما السؤال الذي يشغلك أدبيًا؟

جزء من الإجابة عن هذا السؤال في الإجابة عن السؤال السابق. باختصار، بدأت الكتابة هاويًا، مشروعًا ثانويًا أو موازيًا للصحافة، متعة على الهامش، ممارسة لطقس المقهى والسفر والنشر في الصحافة. أما الكتابة اليوم فهي مشروع، وهي المتعة وهي الطقس اليومي، ولكنها طقس في العزلة والبعد عن الناس وحتى عن النشر العابر.

لم أنشر نصًا في صحيفة أو مجلة منذ أربع أو خمس سنوات، وآخر كتاب إبداعي صدر لي كان عام 2017، وهو مجموعة قصصية عنوانها "البيت والنافذة". (صدر لي صيف العام الماضي كتاب هو دراسة تاريخية في نظام الحكم في عُمان). ما زلت أمارس الصحافة، والصحافة التلفزيونية تحديدًا، وهي مهنتي من أجل العيش منذ سنوات طويلة، وأستمتع بها كثيرًا، لكن الأدب هو متعتي الأهم، وأنا أعمل يوميًا تقريبًا.

  • إلى جانب الكتابة الأدبية، أنتجت عدة أفلام وثائقية، وكتبت المقالة، وعملت ولا تزال في الصحافة وإنتاج البرامج التلفزيونية وتقديمها. سؤالنا لك هنا: ما الذي تأخذه الصحافة من الأدب؟ وما الذي تعطيه؟

تأخذ الصحافة من الأدب الكثير، ولكنها تعطيه الكثير أيضًا. الصحافة مهنة قلقة ومتوترة، ومستهلكة للوقت وللأعصاب. لكن الصحافي، مع مضي الوقت، وحين يصبح محترفًا يعرف مجاهل المهنة ويتحكم في خيوط لعبتها، يخف التوتر، ويمتلك القدرة على إدارة الوقت. أظن أن إدارة الوقت هي الكلمة المفتاح في مهنتي الكتابة والصحافة، ولقد تعلمت ذلك مع الزمن والتجربة والتعرف إلى تجارب وخبرات من سبقني في الكتابة والصحافة.

اليحيائي: تاريخ عُمان منطقة يكتنفها الكثير من الغموض، وتتداخل فيها الحقائق بالأوهام، والسياسي بالديني

ككاتب، أعطتني الصحافة الكثير، أهمها الاقتراب من قضايا وأسئلة الناس، معرفة التفاصيل، الإشارات، مشاغل السياسة ولاعبيها وألاعيبها. لكن، ولأني قضيت سنوات من حياتي المهنية في الصحافة الثقافية، دفعني ذلك لأن أكون مواكبًا للساعة "Up to date" فيما يتعلق بالإصدارات والكتب والأفلام الجديدة، فكان عليّ أن أقرأ كل جديد يصدر، كي أكون قادرًا على الكتابة عنه أو على الحكم على ما يكتب عنه.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| عبير اسبر: أحكي ما يُوجع لأتطهر

إنتاج فيلم وثائقي يشبه كتابة رواية، وهنالك الكثير من العناصر المشتركة: الإطار العام للقصة، الحدث، المكان، الزمان، الشخوص.. الخ. يبقى أن الفيلم الوثائقي عمل جماعي، أما الرواية فهي عمل فردي.

  • يجمع قراء ونقّاد روايتك "حوض الشهوات" على أنها رواية تجريبية تنهض على تقنيات فنية وسردية متعددة. ما رأيك؟ وهل تحمل "حوض الشهوات" نزعات تجديدية؟

هذا أيضًا سؤال يجب عنه النقاد. لكنني أميل كثيرًا إلى التجريب، وإلى السرد المتشظي، لأن الرواية بالنسبة لي هي ليس ماذا تحكي، إنما كيف تحكي. الطريقة هي الأسلوب، والأسلوب هو المختلف. أعلم أن التجريب يُفقد الكاتب، غالبًا، الشعبية لدى القاعدة العريضة من القراء. هذا ليس في العالم العربي، بل في العالم كله.

الرواية الشعبية أو الأكثر مبيعًا هي الرواية الأقل عناية بالتجريب وأقل اهتمامًا بالمغامرة الفنية. ككاتب، أتمنى أن أُقرأ على نطاق واسع، وأن يكون كتابي منتشرًا على نطاق واسع، وأن يحصل على جوائز.. الخ. لكنني أيضًا لا أستطيع خيانة قناعاتي وحساسيتي ومزاجي الخاص في الكتابة.

"حوض الشهوات" قُرأت على نطاق جيد، لكنها قُرأت مع بعض التحدي، ومن قبل أناس يقرأون الرواية للمتعة وتستفزهم النصوص التي لا تُسلم مفاتيحها بسهولة. ومعظم من قرأ "حوض الشهوات" قرأها أكثر من مرة كي يقبض على خيط السرد وعلى حركة الحكاية وخارطة الشخصيات. وكنت وما زلت سعيدًا بالملاحظات التي وصلتني، من نقاد وكتاب ومن القراء عمومًا. 

  • ترصد "حوض الشهوات" جوانب مختلفة من تاريخ سلطنة عمان وتحولاتها السياسية والاجتماعية، وتضيء أيضًا على عادات وتراث وأساطير هذا البلد. هل كانت غاية محمد اليحيائي من كتابة "حوض الشهوات"، هي إعادة سرد تاريخ عُمان، واكتشافه ربما؟ لا سيما أن تاريخ السلطنة يُعتبر مجهولًا أو مهمشًا إلى حدٍ ما؟

الغاية كانت كتابة رواية، متعة الكتابة في حد ذاتها. لست ممن يضعون خططًا مسبقة للكتابة. ولدت "حوض الشهوات" من حالة، من صورة لرجل يتأمل البحر، من شرفة على جرف صخري.. الخ. لكنني كإنسان، كفرد، كذاكرة وكوجدان، جزء من الذاكرة ومن الوجدان الجمعي في بلدي، ومن هواجس وأسئلة الناس فيه، وأيضًا من الواعي وغير الواعي من التاريخ ومن السياسة ومن تحولات الراهن ومشكلاته.

اليحيائي: أخاف أن يصبح اللجوء الى الحدث التاريخي هربًا أو خوفًا من مقاربة قضايا الحاضر ومشكلاته

ولدت "حوض الشهوات" على النحو الذي ولدت عليه، من لحظة وصورة. لكنها مضت على نحو لم يكن مخطط له، ولم يكن متصور. والرواية كتبت أكثر من مرة، في أكثر من مكان وفي أوقات مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| محمد المطرود: ولدتُ في بيئة أحزانها عظيمة وأفراحها صغيرة

محب لقراءة التاريخ منذ سنوات بعيدة، وقرأت العديد من كتب ومدونات التاريخ في عُمان والتاريخ عمومًا. ولعل هذا ما جعل الرواية تبدو وكأنها تعيد سرد مقاطع أو محطات من التاريخ العماني، التاريخ السياسي على وجه التحديد. لكن تاريخ عُمان منطقة يكتنفها الكثير من الغموض، وتتداخل فيها الحقائق بالأوهام، السياسي بالديني، وعلى من يقبل على قراءة التاريخ بهدف الاستفادة منه في كتابة الرواية التحلي بالحذر، وعلينا عدم الوقوع في "كليشيهات" مخاطبة الوجدان الجمعي بما يحبه هذا الوجدان الجمعي.

  • ترسم "حوض الشهوات" ملامح مرحلة سياسية مهمة من تاريخ سلطنة عمان، وتتضمن إشاراتٍ سياسية مختلفة يمكن اعتبارها نقدًا سياسيًا مبطنًا، خاصةً وأن بعض هذه الإشارات تحيل إلى مجتمع يلفه الخوف. هل يريد محمد اليحيائي للسياسة أن تكون حاضرة بشكلٍ مباشر في أعماله؟ وهل يسعى إلى التعبير عن رؤاه السياسية من خلال الرواية؟ ألا يخشى الوقوع في فخ التجاذبات السياسية؟

ليس السياسة بالمعنى الوظيفي، إنما السياسة بمعنى إدارة شؤون الحياة، إدارة التنوع والاختلاف، بمعنى البحث عن الكمال، البحث الدائم الذي لا يتوقف.

النقد وإثارة الأسئلة، بل وهدم الخرائب وإعادة البناء، من مهام الأدب، مهامه غير المباشرة أو غير المفصح عنها، لكنها واحدة من المهام الأساسية للأدب. لا أخشى وقوع نصي الأدبي في التجاذبات السياسية، لأنني رجل مُسيّس، وكاتب مقالات سياسية، ومنتج ومقدم برامج حوارية ذات طبيعة سياسية، بمعنى أني أزعم أنني أفهم السياسة بصورة لا بأس بها. هذا الفهم، أظنه، يجنب ما أكتب من أدب من المقاربة المباشرة للموضوعة السياسية، ومن الوقوع في الخطاب أو في لغة السياسة المباشرة. الجهل بالسياسة هو ما يوقع فيها.

  • من يقرأ الرواية العُمانية اليوم، لا بد أن يلاحظ الاهتمام المتصاعد لدى أغلب الروائيين العُمانيين بكتابة أو إعادة سرد تاريخ بلادهم. ما هو السبب برأيك؟ وهل يرتبط الأمر بفكرة أن التاريخ العُماني لم يُكتب بشكلٍ جيد؟ أم أن للأمر أسباب أخرى؟ ما هي قراءتك لهذه المسألة؟

الرواية هي سيدة مشهد الكتابة في عُمان، وثمة أسماء لديها مشاريعها التي تعمل عليها، وبعضها يعمل بهدوء وصمت، لكن المهم أن هنالك ما يمكن وصفه بـ "خط الإنتاج" في الرواية، كل عام أو عامين يصدر عمل يلفت الأنظار؛ جوخة الحارثي، وزهران القاسمي، وبشرى خلفان، وهدى حمد، وزوينة الكلباني على سبيل التمثيل لا الحصر.

اليحيائي: التجريب يُفقد الكاتب، غالبًا، الشعبية لدى القاعدة العريضة من القراء. هذا ليس في العالم العربي، بل في العالم كله

هنالك حضور للتاريخ، أحداثًا وشخصيات، في روايات بعض هؤلاء، بشرى خلفان وزوينة الكلباني على وجه الخصوص. لكن هذه الروايات ليست تاريخية، وتراوح، خصوصًا لدى بشرى خلفان، بين الحدث التاريخي والمعاصر. وكما قلت، تاريخ عُمان محتشد بالأحداث وبالشخصيات التي تقع في دائرة البطل الشعبي أو البطل الأسطوري الذي يمكن استلهامه روائيًا، وهو ما يمثل إغراء للروائيين. لكن الخوف – خوفي الشخصي حتى حيال محاولاتي في كتابة الرواية – هو من أن يصبح اللجوء الى الحدث التاريخي هربًا أو خوفًا من مقاربة قضايا الحاضر ومشكلاته، فيتوارى اليومي والإشكالي، الاجتماعي والسياسي، خلف ستارة التاريخي والماضوي.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| المترجم البرتغالي هوجو مايا: أنا صياد يتصيّد الجنون

الخوف الآخر، وقد المحت إليه في إجابة سابقة، هو من استمراء اللجوء إلى الماضي واستدعاء بطولاته وأبطاله، لمداعبة وإشباع غرور الذاكرة المشدودة، بطبيعة الحال، إلى الماضي. الحنين إلى بطولات الأسلاف يُعبّر أيضًا عن أزمة تجاه الحاضر، وهذا أيضًا ما يجب التنبه إليه عند مقاربة الموضوعة التاريخية في الرواية.

  • أصدرت قبل فترة قصيرة كتابًا بعنوان "نظام الحكم في عُمان: من إمامة الانتخاب إلى السلطنة الوراثية". بدايةً، ما الذي دفعك إلى تأليف الكتاب؟ وثانيًا، كيف تقرأ تأثير ومآلات وتداعيات هذا التحول من "الانتخاب" إلى "التوريث" على المشهد السياسي العُماني، ومستقبل عُمان؟

هذا الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، وجاء ضمن اهتمامي القديم/ الجديد بالتاريخ وبالتاريخ السياسي على وجه الخصوص. المجتمع السياسي في عُمان قديم ويعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وكشفت التنقيبات الأثرية، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، عن وجود شواهد لشكل من أشكال التنظيم السياسي، وشكل من أشكال الدولة التي كانت لها علاقات تجارية مع حضارات ما بين النهرين، وحضارات وادي السند.

أما السلالات الحاكمة التي يمكن توثيق مسيرتها التاريخية فتعود إلى القرن الثاني الميلادي. ومع مجيء الإسلام بقي الحكم في عُمان مستقلًا، لكن ذلك الاستقلال تراجع مع الدولة الأموية. ومع سقوط الدولة الأموية، أعلن العمانيون استقلالهم، وأعلنوا قيام أول حكم قائم على التشاور وحرية الاختيار، وكان أول إمام مُنتخب هو الجلندى بن مسعود عام 794م. وتلك كانت بداية مسيرة طويلة لنظام حكم يرفض التوريث، ويصر على قاعدة الشورى والاختيار، وثمة قواعد وتنظيرات كثيرة حول ما يمكننا وصفه، مع الحذر، بـ "نظرية الحكم" لدى العمانيين.

لكن مسيرة هذا النظام تعرضت للانكسار وللتراجع وللعودة إلى حالة الكمون والعمل السري، بسبب الحروب الخارجية، والصراعات والحروب الداخلية، والاستبداد. وهي صراعات وحروب تتصاعد تارة وتهدأ تارة، لكنها لم تنتهي إلا في العام 1959 مع ما يعرف بـ "حرب الجبل الأخضر" وسقوط آخر حكم للإمامة في عُمان، واستقرار حكم السلطنة.

اليحيائي: سطوة الماضي وحضور الحركة الإباضية جعل حكام عُمان يتهيبون من تسمية أولياء عهود ومن إيجاد مؤسسة ولاية العهد

رغم ذلك، رغم تلك المسيرة الطويلة، فإن مسألة التوريث كانت أيضًا حاضرة جنبًا إلى جنب مع مسألة رفض التوريث، بل إن التوريث ذاته كان يمارس دون الاعتراف به ودون أن توضع له قواعد ومؤسسات كما في النظم الوراثية الأخرى. وهذا يعود، في تقديري، إلى سطوة الماضي من جهة، وحضور الحركة الإباضية في الحياتين السياسية والاجتماعية في عُمان من جهة أخرى. وما يميز الإباضية عن المذاهب الأخرى في الإسلام، هو أنها ليست مجرد مذهب ديني، إنما هي حركة سياسية، بل إن بعض المؤرخين والدارسين عدها أول حزب سياسي في الإسلام، وهذا بدوره ما يميز عُمان عن سواها من الدول العربية.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فرانشيسكا بيلينو: الأدب فرصة لنضع أنفسنا في مكان الآخرين

سطوة الماضي وحضور الحركة الإباضية جعل حكام عُمان، وتحديدًا منذ قيام الدولة البوسعيدية قبل ثلاثمئة عام، وقيام "حكم السلطنة"، يتهيبون من تسمية أولياء عهود ومن إيجاد مؤسسة ولاية العهد، أو النص على التوريث في نص تشريعي مكتوب. السلطان قابوس قام بخطوة متقدمة في النظام الأساسي للدولة (1996)، أول دستور مكتوب في تاريخ عُمان (المادة الخامسة والسادسة)، لكن الخطوة الحاسمة قام بها السلطان هيثم بن طارق عندما ألغى النظام الأساسي القديم، وأصدر نظامًا جديدًا (2021) نص على أن يكون الابن البكر للسلطان هو وريث الحكم "ولي العهد". هذه الخطوة الأخيرة للسلطان هيثم شكلت تحولًا في مسيرة نظام الحكم، وهي بمثابة ولادة ثانية لحكم السلطنة.

  • أخيرًا، ما هي مشاريعك القادمة؟

انتهيت قبل أشهر من كتابة رواية جديدة، وهي الآن في الخطوات الأخيرة لإعدادها للنشر، وربما ترى النور مع نهاية صيف هذا العام. وكنت بدأت التفكير ووضع الخطوط العريضة أو المداخل الأولى لرواية جديدة، لكني توقفت لأسباب تتعلق بالسفر وبتغيير مكان العمل ومقر الإقامة. ولدي كتاب مقالات يناقش قضايا التغيير والتحولات الديمقراطية في العالم العربي قد يرى النور خلال الأشهر القادمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| باسم شرف: الكتابة لعبة القمار مع القارئ

حوار| طارق إمام: المدن الأكثر حداثة تبدو لي وثنيةً