20-ديسمبر-2019

تصوير: علاء طليعة

محمد المطرود ناقد وشاعر سوريّ من مواليد 1970، بدأ مسيرته الأدبية بكتابة الشِّعر، ولا يزال. هو صاحب لغة شعرية بركانية، لغة متفجرة بمجازاتها وصياغاتها وحوافها الحادة، صحيح أنها لغة من النوع الذي باتت القصائد المعاصرة تهرب منه نحو السهل والمتاح، لكن الصحيح أيضًا أنها بمثابة تحدٍّ يأخذ الشعر في رحلة لاستكشاف نكهات غير مسبوقة. إلى جانب ذلك، تريد قصائده هذا الشاعر الذي يتلفّع بصمت البدو وغموضهم أن تُحدّث قارئها، أن تتسامر معه، فهي أقرب ما تكون إلى بئر من الحكايات التي تختزن أرواحًا جماعية وأمكنة مفقودة.

أصدر المطرود أربع مجموعات شعرية، هي: "ثمار العاصفة" (1997)، و"سيرة البئر" (2005)، و"ما يقوله الولد الهاذي" (2009)، و"اسمه أحمد وظلّه النار" (2014). بالإضافة إلى كتاب يجمع بين السّرد والسّرد الشعريّ بعنوان "آلام ذئب الجنوب" (2019). هنا حوار معه.


  • لنبدأ حديثنا هذا من الطفولة، باعتبارها مصدر كلّ شيء، بما في ذلك التفاصيل الأولى التي فتحت عينيك عليها؛ هل كان فيها ما يوحي بأنّك ستصير شاعرًا؟ نبحث هنا عن الدوافع الأولى للجنوح نحو الشِّعر، وعمّن سار بك نحو الكتابة وقادر خطواتك الأولى إليها كذلك.

لستُ كائنَ حاضر بالمطلق، ومعَ أنّ طفولتي كانت بائسة للغاية، أجدني أطاردها لخلقِ زمن أستطيعُ فيه ترتيب أولويات الأشياء التي كونتني آنذاك، كما لو أنني أعيدُ مقولةً لستاندال بما معناه "مطاردة السعادة"، خُلقت في بيئة أحزانها عظيمة وأفراحها صغيرة وهامشية، أب يذهبُ إلى زعاماته شبه الوهمية، طيشه، خياناته، تعاليه على الأبوّة، وأخوال متعثرون تناهبتهم الأمراض والجوع، في هذا الفضاء السوريالي الفجائعي ولادة كائن خارج التفكير باليوم من حيث حاجاته يعتبر مأثرة، ومع هذا تقول جدتي أنني كنتُ ألصق رأسي بالأرض، وأسمعُ أصواتًا، لم يسمعها أحد، ربّما هذه كانت علاقتي معي كأحدٍ مختلفٍ عن سياق مكانه وزمانه وشخصهِ اليوم.

من هنا أستطيعُ القول لم يأخذني أحدٌ إلى الشعر بقدر ما أخذتني جنيّاتُ الظروف إليه، أنا مدين في ذلك لأشياء لا أقوى على تسميتها أو لأقل لا أعرف كنهها بالضبط!

محمد المطرود: لم يأخذني أحدٌ إلى الشعر بقدر ما أخذتني جنيّاتُ الظروف إليه!

  • بالنسبة إلى محمد المطرود، كيف تأتي القصيدة عنده؟ وعلى ماذا يعوّل عادةً في بناء قصيدته؟ وكيف يتعامل مع قلق الجملة الأولى؟

لنقف عند قلق الجملة الأولى، ذلك الملمح الأول، الحجرة الأولى التي ترمى بها نافذة ما نائمة، وذلك التجاوز الأولي للعقل الأداتي، الوظيفي، والعقلانية التقنية بحسب فلاسفة النظرية النقدية ومنهم ماركوز، وعليه فإنّ مراكمةً وامتلاءً تاريخيًا وزمانيًا يكونُ، يجعلني أحرصُ على استحضار ملكات وتقانات بشكل غير متنبّه له كما أزعم، لكنهُ مقلق، وله أسئلتهُ الدائمة في سلوكي المعيشي والذي بالنسبة لي شخصيًا لا أفصلهُ عن سلوكي ككاتب، فأنا آخذ معي نصي الذي لم يولد بعد إلى طاولة الطعام وإلى علاقتي مع الأنثى بمقدّسها ومدّنسها، أي كما يقال بالعامية "تأكل وتشرب معي"، ثمّ أشتغل بضراوة وبحزم شديدين، كي يأتي النصّ أنيقًا، ملتصقًا بي كخصوصية وكانتماء للمشروع الذي أعمل عليه.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة محمد المطرود

  • منذ مجموعتك الأولى، ما المراحل التي مرّت بها تجربتك للوصول إلى "آلام ذئب الجنوب"؟ ما الذي تراه ثابتًا في هذه التجربة؟ وما الذي تغيّر كذلك؟

نشرت "ثمار العاطفة" العام 1997، مرّت بي عواصف كتبت لأجلها بلغة غير ناضجة، كثيرة الأخطاء، فطرية ومتعثّرة، ثمّ مرّت بي عواصف وسيول جارفة اختلفت وجوديًا عن سابقاتها، تغيّرت لغتي معها، قراءاتي الكثيرة وغير الممنهجة أيضًا، قرّبتني من فهم جديد للكتابة والحياة، هذا الرهان فصلَ بيني الجديد وبيني القديم كنوع من التحدي الذي لم أفعله في عملي الأول، فجاءت كتابتي تحت مسمّى "النصّ المثقف" كتخفيف احتيالي من بعضهم من "نصّ معقّد". كما قلتُ الثابت هو أنا الكائن الذي لا يعزل سلوكه عن كتابته، والمتغير هو قلقي الدائم، وهو ما أوصلني إلى "آلام ذئب الجنوب" كنصوص ميتا روائية، وهذا يعني أنني لم أركن إلى التسميات، وكان القلق موجودًا في هذه الجزئية التجنيسية.

  • في هذا السياق، المتابع لتجربتك الشّعرية، يشعر بأنّك توقفت عن كتابة الشِّعر، وكتبك الأخيرة تنحو منحىً نثريًا، على الأقلّ من حيث الشكل وتراسل الكتل والسطور؛ هل هي نقلة داخل الشِّعر؟ أم نقلة من الشِّعر نفسه؟

الأمر يتعدى كونهُ شكليًا إلى كونهِ اختيارًا وقرارًا ومقترحًا جماليًا ونفسيًا وتطوريًا، ضاقت قصيدتي النثرية بي رغم انفلاتها وجموحها، وقد يكون هذا مرّدهُ إلى حالة التشكيك التي تلازمني، في الحياة أنا مجامل أحيانًا لحدّ مقرف وليس نفاقًا، لا مصلحة لدي من كلّ الذي أجاملهم، لكني لا أجامل نفسي، شديد البأس معها، غالبًا ما أجرحها، ومن هنا يتأتّى نزوعي للتجديد في الهامش والمتن، قد لا أنجح كثيرًا، وقد لا أفشل كثيرًا، تجربتي وعلاقتي مع السرد قديمة ومستمرة، وهذا يعني أنني لم أتخلَّ عن الشعر لصالحه، غير أنني أخلق مصالحة بينهما، وهذا يعني أيضًا أنّ حروبًا خفية بينهما على حدودٍ تكونُ أحيانًا واضحة جدًا، وأحيانًا متماهية وضبابية جدًا.

  • كيف تتصوّر أن يكون شكل قصائدك في المستقبل؟ وما هي طموحاتك في الكتابة؟

استكمالًا لما قلته صديقي أعلاه، لن أضعَ تصوّرًا متكاملًا لهذا النصّ المستقبلي، كما لا أضعُ تصوّرًا للذي سأكونهُ غدًا، لما أعيشهُ من فوضى عارمة على مستوى داخلي الذي أقنّعهُ دومًا، تخرجُ كتابةً أحيانًا، وتضمرُ على مستوى السلوك، وربّما طموحي الأكيد أنْ أكتب نصي الذي سأرضى عنه تمامًا.

محمد المطرود: حالة الطمأنينة في بلدي البديل، لو جازت التسمية، خلقت حدية في تناول رحلة العبور

  • لنعد خطوة إلى الوراء، كتابك "اسمه أحمد وظله النار" فيه عنف، عنف في المضمون، وعنف في الشّكل، ربما بحكم أنّه يروي تجربة الخروج من سورية؟

سمعت أكثر من مرّة عن عنف في كتابي هذا، حتى أنّني خفتُ أن أكون مباشرًا في وضع الدم على الصفحات، جاء أحمد ومعه نارهُ، كان بحاجة إلى أصوات أعلى من أصواته الداخلية، حالة الطمأنينة في بلدي البديل لو جازت التسمية، خلقت حدية في تناول رحلة العبور من مُلك يتداعى إلى مُلكٍ غائم وملتبس، من أصوات الانفجارات وتشظي الهويات إلى فارس يرومُ مُلكه وسيفهُ الماء، لهذا كان التعويض عن هذا الفقد هو الكتابةِ بالنار ولو مجازًا.

اقرأ/ي أيضًا: محمد المطرود.. مكان مفقود يُبنى بالنثر والأساطير

  • "ثمار العاصفة"، "سيرة بئر"، "ما يقوله الولد الهاذي"، عناوين مُفكّر بها طويلًا، موحية وجذّابة... إلى أي حد تفكّر بالعنوان؟ وكيف بنيت علاقتك معه؟

كقلق الجملةِ المؤسسةِ للذي سأكتبُ أو لنقل هي انسلال الخيط الأول من كرةِ الصوف، كذلك تمامًا يشغلني العنوان، ولعلاقتي الوثيقة بالنقد متابعة وشغلًا، من الطبيعي أن أُشغل بالعتبات النصيّة ومنها العنونة، أحيانًا يجرني العنوان لأكملَ، وأحيانًا أذهب في الكتابة إلى العنوان الذي يبدو أنّه كان يأكل ويشرب ويتنزّه معي.

تصوير: علاء طليعة
  • تقف في منطقة غامضة لغويًا. لديك قاموس واسع، بل إنّه يذهب إلى التوسّع عملًا بعد آخر. ولعلّ نصوص "آلام ذئب الجنوب" خير مثال. هل فكّرت بالقاموس؟ هل جاء ذلك بشكل مدروس؟ أم الأمر تلقائي؟

سأقول شيئًا صديقي مصطفى، مفرداتي ليست قاموسية، المنطقة الغامضة أو الملتبسة هي في تقانة الكتابة، في مداورة اللغة وهندستها وفق جملة يراها المتلقي جديدة وشديدة السبك والدقة، سأكذبُ عليك إذا قلت لا أفكر بهذا، لكن لا أفكر بمفردة معجمية لأبني عليها، من حيثُ أبويّ أمتدُّ على قوميتين، وهذا منحني هجنة انعكست على أدائي في اللغة، كذلك أنتمي إلى مكان قَبلي له خصوصية من حيث قربه من اللغة الفصحى. إذًا لنتفق تساوقًا مع سؤالك يوجد التلقائي والمفكّر به.

  • تكتب كثيرًا لكنّك تنشر قليلًا. هذا ما يعرفه أصدقاؤك. بودّي أن أعرف منك لماذا باتت غرازة الكتابة تعدّ مذمّة؟ أو مثار سؤال؟

أتمرّن على الكتابة، ولا أسميها كتابة، لدي المئات من الكتابات المبتورة والتي أضحك منها بعد زمن، الصرامة التي أمتلكها تجاه نفسي والمسؤولية كما قلت لك، تمنعني من نشرِ كلّ ما أكتب، لديّ ثقب ضيق جدًا أمرر من خلالهِ نصوصي، منخل ناعم، لاحظ كم هم كثر الذين كتبوا عشرات الكتب ولم يثيروا حساسية أحد، ولم يخلقوا فرقًا أو التباسًا في المشهد، لقد قلتها في مقالات عدة بما معناه هناك من يكتب ألف نص لكنه النص نفسه، وهناك ألفُ ناصٍّ يكتبونَ نصًّا واحدًا، لا يتمايزون فيه عن بعضهم.

محمد المطرود: هناك من يكتب ألف نص لكنه نفسُ النص، وهناك ألفُ ناصٍّ يكتبونَ نصًّا واحدً

بصراحة، ليست الغزارة هي التي تُذّم، إنما عدم مشروعية وتجاوز هذه الكتابة، أو لنقل الاستسهال الذي يصلُ حدود "الإسهال".

اقرأ/ي أيضًا: أحلم بالجنوب ويسكنني ذئب

  • الحديث عن الكتابة والنشر يدفعنا لسؤالك عمّا إذا كان لديك كتاب مؤجّل في حياتك، ولماذا؟

كتابي الذي أطمحُ لكتابته، بدأ ولم ينته، روايتي التي أعمل من سنين، وما كتاب "آلام ذئب الجنوب" إلًا مقترحًا أوليًا قد يريحني قليلًا إلى حينِ أضعُ المفصل الأخير والنقطة الأخيرة، وأقول: هذه روايتي بعجرها وبجرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في مديح النص وذم سواه

ثقافة البؤس