18-يناير-2019

داليا إيهاب يونس مؤسسة ومديرة مشروع "قعدة غُنا" (فيسبوك)

في شتاء القاهرة، كان موعدنا مع "قعدة غُنا" في إحدى مساحات منطقة وسط البلد بالعاصمة المصرية، في إحدى العمارات القديمة بشارع عدلي.

داليا إيهاب يونس: قعدة غُنا هي مساحة آمنة للتعبير عن النفس والتعامل مع الضغوط والتواصل الإنساني باستخدام الموسيقى والغناء

بُعيد المغرب بقليل، وفي الدور الرابع من العمارة شبه الأثرية، دخلنا قاعة واسعة ذات سقف مرتفع، بين نحو 40 شخصًا في شبه دائرة على رأسها داليا إيهاب يونس.

اخلع نعليك.. وغنّي

قبل دخولك للقاعة الواسعة، ستخلع نعليك وتضعهما في الصندوق المخصص. وستشعر أنك خليعك معهما بعض القلق والتفكير الزائد عن الحد، وقد دخلت عالمًا ستقاوم فيه خجلك من الغناء أمام أناس تراهم للمرة الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | رشا الديب.. لماذا علينا أن نكون أبطال حكايتنا؟

تطلب داليا من الحضور أن يغني كل واحد اسمه بأي نخمة يختارها. وما بين اختلاف الأمزجة من خجل ومقاومة للخجل، وتجريب ومفاجأة؛ غنى الجميع أسماءهم، وردد البقية وراء كل واحد، فهكذا ينص قانون "قعدة غُنا".

وهذه فقط اللعبة الأولى، وثمة غيرها من الألعاب الغنائية، فمثلًا أحدى هذه الألعاب تتطلب وقوف الجميع في داشرة كبير، ثم يخرج واحد في منتصفها ليغني أغنية ما، ثم يشاركه آخرون الغناء، أو يقول أحدهم ما كانت تعنيه له هذه الأغنية، أو يخرج اثنان لا يعرفان بعضهما من المجموعة؛ واحد يحكي همًا لديه و الآخر يترجمه لأغنية يغنيها. ألعاب تناسب برد الجو والقاعات الواسعة، بدفئها وحميميتها؛ فللغناء سحره، والجَمْعة تريح القلب.

قعدة غنا

أسست وتدير مشروع "قعدة غُنا"، داليا إيهاب يونس، وهي طبيبة مصرية شابة، تبلغ من العمر قرابة 33 عامًا. تركت العمل في الطب واشتغلت في صناعة المحتوى. وهي حاصلة على الماجستير في إدارة الأعمال. التقى "ألترا صوت" بداليا على هامش "قعدة الغُنا"، وكان هذا الحوار:

  • بماذا تصفين "قعدة غُنا"؟

"قعدة غُنا" هي مساحة آمنة للتعبير عن النفس والتعامل مع الضغوط والتواصل الإنساني باستخدام الموسيقى والغناء.

  • كونك طبيبة بالأساس، هل ثمة رابط بين الطب والغناء؟

لا يوجد رابط. أنا تركت الطب لأعمل في صناعة المحتوى منذ التخرج، فقد كان قرار دخولي الكلية قرار "استخسار" للمجموع، وأدى لقضاء سبع سنوات في دراسة لا أحبها.

ثم قررت ألا أعيد خطأ الاستخسار مرة أخرى حتى لا ينتهي بي الحال في عمل لا أحبه، لذا تركت العمل في الطب.

أما الغناء فهو أكثر ما أحب فعله في حياتي، لذلك أنا حريصة على ألا أتكسب منه حتى لا أشعر بالتقييد أو أضطر لتقديم ما لا أرضى عنه.

أحب أن يبقى فني المنفذ والمتنفس والوسيلة لنشر البهجة والأمل. هذا إلى جانب عملي الحالي الذي أفخر به كذلك ويساعدني على توفير حياة كريمة لي ولابني.

  • "قعدة غُنا" مشروع غير تقليدي، ومن المحتمل أنه واجه النقد، فكيف تتعاملين مع النقد؟

أنظر لطبيعة النقد وخلفية الناقد قبل أي شيء، فهناك من ينتقدون مختلف مشروعاتي الفنية نقدًا بناءً ينم عن علم أو عن اهتمام صادق، وهذا ما أحترمه وأدرسه بعناية ويفيدني كثيرًا.

وهناك من ينتقدون لنقص معلومات أو لضيق أفق وعدم تقبل للأفكار الجديدة بشكل عام، وهؤلاء لا أضيع وقتي طويلًا لا في الجدل معهم أو أخذ كلامهم على محمل الجد.

  • كيف بدأ مشروع "قعدة غُنا"؟

بدأت الفكرة في أيلول/سبتمبر 2019، حين عرضت عليّ فتاة هي ندى نصار، بعد حضورها أولى حفلاتي، أن أستمع  لها ولمجموعة من صديقاتها لتوجيههم صوتيًا.

واقترحتُ على ندى أن يتم تغيير الهدف من هذه "القعدة" لأن تصبح "قعدة غُنا" وليس جلسة تقييم أو توجيه، يستطيع فيها كل الحضور أن يغنوا بشكل حر بعيدًا عن الأحكام أو التقييم.

وسبب ذلك أنني كنت أمر بفترة صعبة في حياتي مؤخرًا، وساعدني الغناء وإقامة أول حفلاتي على أن أتخطاها بسهولة، فشعرتُ بمسؤولية أنه يجب أن أساعد الآخرين على تخطي الأوجاع والمشاعر السلبية باستخدام الغناء والموسيقى.

وكان الهدف من هذا المشروع هو تشجيع الحضور على التعبير عن أنفسهم بالغناء، حتى لو كانت أصواتهم غير جيدة، لأن الغناء نشاط إنساني يعبر به الشخص عمّا يشعر به من مشاعر إيجابية أو سلبية قبل أن يكون نشاطًا فنيًا.

بالإضافة إلى توفير مساحة آمنة للتعبير دون أحكام أو استهزاء أو تنمر، ونشر ثقافة استكشاف الذات عن طريق الفن، فأنا أقوم بتطبيق العديد من مفاهيم الدعم النفسي واستخدام الفن للتعافي، وهي أمور تعلمتها عبر حضوري لورش ودورات مختلفة في هذا المجال.

أردتُ أيضًا إتاحة الفرصة لتجربة جديدة غير تقليدية في تكوين علاقات إنسانية مميزة في وقت مكثف، نظرًا لما تتضمنه "القعدة" من ألعاب ونشاطات تقوم على التواصل الفعال والإيجابي بين الحاضرين.

قعدة غنا

هذا فضلًا عن نشر ثقافة "المتعة المسؤولة"، حيث يقضي الحاضرون وقتًا ممتعًا، مع التزامهم بقواعد الاحترام المتبادل والدعم غير المشروط، والمساهمة في إسعاد أشخاص يتعرفون عليهم لأول مرة دون انتظار مقابل. وحتى كانون الثاني/يناير الجاري، أقمنا 21 "قعدة غُنا" في أماكن مختلفة، في القاهرة وطنطا والإسكندرية.

  • ما هي أصعب المواقف أو الحكايات التي سمعتيها عن معاناة الناس أو مشاعرهم؟

أصعب القصص كانت في "قعدة غُنا" في الإسكندرية، من سيدة كانت تمر بضغوط نفسية صعبة بسبب الانفصال.

احترمت شجاعتها في البوح، وتذكرت مشاعري عندما مررت بهذه التجربة، وغنينا لها أغنية خاصة. وكانت تلك من أكثر اللحظات الإنسانية التي أشعرتني بقيمة ما أفعله في حياة الناس، وأنها نعمة كبيرة القدرة على العلاج باستخدام الموسيقى والغناء.

  • ماذا تعلمتِ من تجربة مشروع "قعدة غُنا"؟ وهل غيرت فيكِ شيئًا؟

تعلمت أن أجمل شيء يمكن أن تهديه لشخص آخر، هو أن تعيد إليه الحق في أن يكون مسموعًا في مساحة آمنة للتعبير، ذلك الحق الذي تسلبه منا مسؤوليات الحياة اليومية والأشخاص غير المتفهمين وتجاربنا السيئة.

وبطبعي أنا شخصية أكره المفاجآت والأحداث غير المتوقعة خارج الخطط، ومن أهم ما غيرته فيّ "قعدة غُنا" هي أنها علمتني التوازن ما بين التخطيط والتنظيم، وبين ترك مساحة بنفس القدر للارتجال والتغيير بما يتناسب مع اللحظة.

كذلك أنا أهتم بالدقة والإتقان بشكل كبير، وهذا كان يجعلني أحجم عن كثير من التجارب الفنية، لأني لا أرى أني مؤهلة فنيًا لخوضها، لكن "قعدة غُنا" علمتني أن الروح والإحساس يجبران النقص في الموهبة أو الاحتراف، لأن الهدف في النهاية هو أن يصل ما يخرج من القلب للقلب بشكل صادق قبل أن يكون متقن.

  • أعرف أن الترانيم جزء من مشروعك الغنائي غير التقليدي، وهذا أمر حتمًا يحتاج إلى جرأة. حدثينا عن هذه التجربة

أتتني الجرأة بعد رد الفعل الإيجابي لدى انتشار مقطع فيديو من برنامج غنيت فيه ترنيمة بمناسبة عيد الميلاد في 2018. وفي صيف ذلك العام قمت بتسجيل فيديو لترنيمة "يا مريم البكر" داخل كنيسة جامعة برينستون في الولايات المتحدة أثناء زيارتي لها.

وعندما عدت للقاهرة، كان عيد العذراء قد اقترب، وفكرت في أن أقدم على خطوة أن أقوم بتسجيل فيديو داخل كنيسة مصرية بمناسبة العيد. وحقق الفيديو كذلك ردود فعل إيجابية حتى التقطته بعض وسائل الإعلام ذات الانتشار الواسع بعدها بعدة أشهر، وقاموا بكتابة مقالات وتسجيل لقاءات معي على إثرها. وبالطبع قوبلت بهجوم شديد واتهامات، وادعاءات مضحكة أحيانًا. 

وكان ذلك شيئًا متوقعًا، وقد حرصت على الظهور في عدة برامج لتوضيح الصورة وتصحيح بعض المعلومات المغلوطة مثل أنني "مرنمة في القداس" أو "عضوة في كورال كنيسة"، وليس للدفاع عما فعلت، لأني لا أرى فيه حرج. كما أنني أؤمن دائمًا بمقولة: من حقك أن تكرهني، ولكن لسبب صحيح.

  • هل أتى لكِ أحدهم في نهاية "قعدة غُنا" و قال لكِ أن "القعدة" جددت حياته أو حسنت مزاجه؟

كثيرون. وهناك جمل حُفرت في روحي، مثل: "كان فيه جزء بداخلي ميّت، أيقظته قعدة غُنا" و"قعدة الغنا زي النفس اللي بياخده الغرقان" و"لسة فيه ناس حلوة ومبهجة في البلد" و" قعدة غُنا هي إكسير سلامة عقلك لشهور قدام" وغيرها.

وحرصتُ على تجميعهم كلهم في ألبوم على صفحتي بفيسبوك لأنظر لهم كلما يكون العالم قاسيًا عليّ، وأتذكر أن هناك أكثر من 400 شخص شاركوا في هذه التجربة منذ بدايتها في 16 أيلول/سبتمبر 2017، وعشرات منهم كرروا التجربة، وجاؤوا معهم بأصدقائهم ومعارفهم.

"السعادة التي أزهرت في يدي"

في نهاية "قعدة غُنا"  تقتصر الدائرة في النصف ساعة الأخيرة على من يرغب في البقاء حتى النهاية. تنوه داليا إلى أن اللحظات القادمة حميمية وتسمح بالبوح بالمشاعر والأفكار، بحيث يتحدث الشخص بشكل مقتضب عن هَمِ ما، لتقوم داليا بمشاركته بأغنية، شريطة أن يكون قد سمعها لأول مرة.

داليا يونس: تعلمت أن أجمل شيء يمكن أن تهديه لشخص آخر هو أن تعيد إليه الحق في أن يكون مسموعًا في مساحة آمنة للتعبير

وكانت من ضمن الحكايات، واحدة لفتاة مرت بظروف صعبة، ولا تستطيع التصالح مع الماضي، وتتساءل عن جدوى الاستمرار كل يوم، فاختارت داليا مقطعًا من أغنية في مسرحية "صح النوم" لفيروز.

تختتم داليا إيهاب يونس، حديثها مع "ألترا صوت" قائلة: "قعدة غُنا كانت السعادة التي رميتها للناس فأزهرت في يدي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

تعرّف على "آنا وينتور".. المرأة التي غيّرت أسلوب ارتدائنا للملابس!

"طافرٌ من الحرايق".. مروان بوناصر يسرد الحياة في الراب والرواية