07-ديسمبر-2022
الكاتب والمؤرخ اللبناني فوّاز طرابلسي

الكاتب والمؤرخ اللبناني فوّاز طرابلسي

السياسة والتاريخ والاقتصاد والفن والأدب، وما يرتبط بها ويتفرع عنها، هي المجالات التي كتب فيها وعنها الكاتب والمؤرخ والمفكّر اللبناني فوّاز طرابلسي، الذي أقام بينها روابط وصلات عديدة أعاد عبرها قراءة أحداث سياسية وتاريخية فارقة، وقضايا اقتصادية واجتماعية مختلفة. فالتاريخ، بالنسبة إليه، هو الأنسب والأشمل للتعبير عن الحروب والتجارب الكبرى التي خبرها. أما الأدب والفن، فهما في نظره الأقدر على الإحاطة بالتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف.

قرأ طرابلسي من خلال الأدب والفن وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية، وتناول عبرهما تحولات السلطة والمجتمع في لبنان خلال النصف الثاني من القرن الفائت. ورغم شغفه بهذين المجالين، إلا أن كتاباته لم تقتصر عليهما فقط، بل شملت السياسة والتاريخ والاقتصاد والأنثروبولوجيا وغيرها. ناهيك عن السيرة واليوميات والشهادات الشخصية التي تحيل إلى سيرة حافلة بالمغامرات الممتدة من بيروت إلى ظفار وصولًا إلى عدن خلال سنوات حكم اليسار لجنوب اليمن.

أصدر فوّاز طرابلسي، على مدار أكثر من 3 عقود، أكثر من 20 كتابًا، منها: "غيرنيكا – بيروت: الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب" (1987)، و"صورة الفتى بالأحمر" (1997)، و"صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية" (1999)، و"إن كان بدك تعشق: كتابات في الثقافة الشعبية" (2004)، و"يا قمر مشغرة: المحسوبية، الاقتصاد، التوازن الطائفي" (2004).

إضافةً إلى: "فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة" (2006)، و"تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف" (2008)، و"حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس" (2012)، و"الديمقراطية ثورة" (2012)، و"ثورات بلا ثوار" (2014)، و"دم الأخوين: العنف في الحروب الأهلية" (2017)، و"سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط" (2019). كما ترجم أيضًا عدة أعمال أدبية وفلسفية وسياسية لكبار الكتّاب والمفكرين العالميين، مثل أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد.

في هذا الحوار الذي سيُنشر على 3 أجزاء، يجيب الكاتب والمؤرخ والمفكر اللبناني على مجموعة من التساؤلات حول قضايا ومواضيع مختلفة تشمل السياسة والتاريخ والأدب والفن، إلى جانب ثورات الربيع العربي والديمقراطية والدولة الوطنية والطائفية ومفهوم المجتمع المدني والتأريخ وغيره.


8- الدولة/ المجتمع المدني

  • في حوارنا كما تُلاحظ يولد السؤال من آخر سبقه. وبالتالي، نود أن نسألك هنا عن الأُسس التي وضعت الدولة في تناقض مستمر مع المجتمع المدني. بالإضافة إلى الأسس التي أدت إلى التسلط الراهن للدولة على المجتمع؟ وكيف يقرأ فوّاز طرابلسي مستقبل العلاقة بين الدولة والشعب في ظل هذا الفشل المستمر في إحداث عملية التحول الديمقراطي؟ لا سيما في ظل النزوح المستمر نحو الطائفة والبنى الاجتماعية ما دون الوطنية؟

يوجد فارق بين ثنائية الدولة/ الشعب والدولة /المجتمع، وثنائية الدولة/ المجتمع المدني. سأركز على ثنائية دولة/ مجتمع مدني. والمقصود هنا بالمدني ما هو غير السياسي.

طرابلسي: منظمات المجتمع المدني عاجزة عن لعب الدور الذي تلعبه الأحزاب من حيث تقديم التصورات الشاملة لقضايا الدولة والمجتمع

أرى أن مقولة الدولة/ المجتمع المدني على قدر من التبسيط والسطيحة من الناحية المعرفية، مثلها مثل جميع الثنائيات. تفترض وجود كتلتين متضادتين: من جهة، الدولة التي هي تعريفًا مستبدة تقمع الحريات الفردية بل الأفراد وتخنق القطاع الخاص والحرية الاقتصادية في آن. ومن جهة ثانية "المجتمع المدني"، وهو القطاع الاقتصادي الخاص والمؤسسات الأهلية غير السياسية وقد طردت منها الأحزاب السياسية والنقابات. في الدولة يتجسد الاستبداد وغلبة القطاع العام على القطاع الخاص. فترتبط الحرية الفردية بالحرية الاقتصادية في وجه عدو واحد: الدولة.

وهذه الترسيمة في شيطنة الدولة من مخلفات الحركات المناهضة للشيوعية زمن سقوط الأنظمة السوفييتية في أوروبا الشرقية، مارستها قوى اجتماعية وسياسية معادية للاستبداد، وما لبثت أن سلّمت السلطة والاقتصاد إلى النيوليبرالية وأثرياء الأثرياء المتداخلين مع الأطقم السياسية إلى حد التماهي بينهما (الأوليغارك).

صودرت مقولة "المجتمع المدني" من أبرز تعبير لها عند أنطونيو غرامشي، وقلِب مضمونها ودلالتها رأسًا على عقب. كل سلطة طبقية عند غرامشي تحافظ على نفسها وتمارس دورها كسلطة، أي كسلطة أقلية على أكثرية، بمزيج من وسيلتين القسر والطواعية، وفي القسر.

تقع "الخنادق الأمامية" للدولة في المجتمع المدني حسب غرامشي وهذا قوامه المدرسة، والعائلة، والمؤسسات الدينية. ويمكن أن نضيف إليها الإعلام ووسائل التواصل المجتمعي. هنا ميدان الهيمنة، أي النفوذ الثقافي أو الدور القيادي الذي تمارسه الطبقة الحاكمة على المحكومين، وتضمن طواعية القبول بسلطتها وفكرها. وهنا ميدان الصراع الثقافي للمعارضة ضد هيمنة فكر وثقافة وأيديولوجية الطبقة المسيطرة. ويرى غرامشي إلى هذا الصراع لكسب الهيمنة على الهيمنة على أنه مقدمة لتسلّم السلطة – بالثورة – في المجتمع السياسي، أي في الدولة، وليس بديلًا منها. وتسلّم السلطة يتم بواسطة أحزاب ونقابات عمالية ومهنية بالدرجة الأولى.

"المنظمات غير الحكومية"، وتاليًا "منظمات المجتمع المدني"، هي أبرز مكونات هذا "المجتمع". ومع أنه يصعب إيجاز البحث فيها وفي تجربتها، أود أن أجازف بطرح مضبطة انتقادات في موضوع إما يلفّه الصمت، وإما الاتهامات وهواجس التآمر.

  1. المجتمع المدني يعادل إلى حد كبير بيئة الطبقات المتوسطة والأفكار السائدة فيها، وهو يعبّر عن التباعد المتزايد بينها وسائر الطبقات الشعبية.

طرابلسي: الأخطر في ثنائية دولة/ مجتمع مدني هو مساهمتها في حجب دور الدولة في الوحدة الوطنية وتماسك النسيج المجتمعي

  1. تتوزع منظمات المجتمع المدني على اختصاصات تجزّيء قضايا المجتمع والدولة إلى دزينة من المطالب: بيئة، حقوق إنسان، عدالة انتقالية، فض نزاعات، ريادة أعمال، تسليف ميكروي، عناية بالفئات المهمشة، نسوية، خيارات جنسية، شباب، حماية اجتماعية، إلخ. ويمكن بيان كيف أن كل واحدة من هذه الحقول هي بديل عن مشاريع أو برامج سابقة خلال فترة حركات التحرر الوطني والاجتماعي في ظل النزاع بين المعسكرين. وهي عاجزة عن أن تلعب الدور الذي تلعبه الأحزاب من حيث تقديم التصورات الشاملة لقضايا الدولة والمجتمع، وعن القدرة على الجمع والحشد والتعبئة لتحقيق التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.

  1. في ظل النيوليبرالية، تسلب المؤسسات المالية والتنموية أدوارَ الدولة في التخطيط والاستثمار الاقتصادي والخدمات العامة والتوزيع الاجتماعي. ثم تأتي منظمات المجتمع المدني لتبرر وجودها وأدوارها وخدماتها بأنها تعويض عن دولة غائبة أو مقصّرة، علمًا أن كل ما تستطيع تحقيقه لا يعوّض إلا بالقليل القليل عما تستطيع الدولة.
  2. تقدّم منظمات المجتمع المدني نفسها، ضمنًا أو علنًا، على أنها بديل عن الأحزاب السياسية، بحجة أن الأخيرة "فاشلة" أو سلطوية أو متّهمة بالمشاركة في الحروب. وتجدر الإشارة أنها تستميل بل تستوعب الكثير الكثير من الحزبيين الذين ناضلوا سابقًا في حركات التحرر الوطني والاجتماعي ومن أجل التغيير الاجتماعي والسياسي. والمعروف أن منظمات المجتمع المدني نفسها، الدولية منها ("أوكسفام" مثلًا) أو الوطنية (المنظمات الألمانية مثلًا) ممولة من حكومات وأحزاب.
  3. تروّج منظمات المجتمع المدني للديمقراطية والمساءلة والمحاسبة علمًا أنها في معظمها غير منتخبة إلا من أعضائها محدودي العدد، إنها لا تضع نفسها موضع مساءلة أو محاسبة إلا لمموليها، ونادرًا ما تعقد المؤتمرات أو الندوات لمراجعة تجاربها على الملأ، وقد انتهت المرحلة التي كانت فيها منظمات عمل طوعية وباتت مدفوعة الأجر وبالعملات الصعبة.

والأخطر في ثنائية دولة/ مجتمع مدني هو مساهمتها في حجب دور الدولة في الوحدة الوطنية وتماسك النسيج المجتمعي، في الدول حديثة النشأة خصوصًا. فباسم الديمقراطية و"البناء القومي" احتلّت الولايات المتحدة العراق ودمّرت أبرز مؤسسات الدولة فيه – قسمًا كبيرًا من الإدارة، حل الجيش والاجهزة الأمنية، وحل "حزب البعث"، واستصدار قانون "اجتثاث البعث"، إلخ.

طرابلسي: التاريخ ليس علم الماضي فقط بقدر ما هو علم دينامي عن الاستمرارية والانقطاع

حمل الاحتلال إلى السلطة الميليشيات الموالية لإيران، وبنى السلطة الجديدة على تحالف كردي – شيعي، في نظام سياسي فيدرالي (من ثلاث محافظات كردية من أصل ١٨ محافظة) تتوزع السلطة فيه على أساس طائفي- مذهبي – إثني. فماذا كانت النتيجة؟

استدعى الاحتلال معارضة قوامها الجهادية السنية (بقيادة ضباط بعثيين سابقين، مدعومين من النظامين السوري والسعودي أول الأمر)، وتفككت أوصال الوطن العراقي، فوصل الفساد إلى حد الإسهام في انحلال الجيش العراقي، فحلّت محله ميليشيات "الحشد الشعبي" ذات الغالبية الشيعية والموالية لإيران التي دخلت إلى المعركة لتحرير الموصل من حكم "داعش"، وقد فاقم ذلك من النزاعات المناطقية والاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية، وصولًا إلى ما نشهده الآن من انفجار النزاعات داخل المذهب الواحد.

9- التأريخ، السرد، الأدب

  • أطلنا الحديث في السياسة وأمورها. اسمح لنا بالانتقال باتجاه التاريخ، وطرح السؤال التالي: في جميع مؤلفاتك نجد نبرة تاريخية تُجاورها نبرة سردية. وعليه، كيف تنظر إلى الماضي؟ كيف تتعامل مع منتوجه التاريخي؟ هل تراه نصًا ابداعيًا مبنيًا على تراكيب سردية وبلاغية تصوغ التفسير التاريخي؟ وفقًا لرؤية هايدن وايت. أم لديك رؤيتك الخاصة؟ نود سؤالك أيضًا عن رأيك في فكرة أن ما يجرد التاريخ من مكانته كأساس وطيد للحقيقة الوثيقة، ويعلي من شأن السرد بوصفه جوهر التاريخية، هو وصف الكتابة التاريخية على أنها "كتابة" والتعامل معها على هذا الأساس. إلى أي حد تتطابق هذه المقولة مع كتابك "حديد وحرير" تحديدًا؟ وإلى أي حد تختلف أو تتفق معها أيضًا؟ ولماذا؟

التاريخ هو علم الإنسان في زمانه. هذا هو التعريف الرائع للتاريخ عند ابن خلدون: "الناس بزمانهم أكثر منه بآبائهم". في وجه تاريخ القبيلة الذي يبحث عن جذور، ينهض التأريخ الخلدوني ليروي ما يفعله الزمن في البشر. بهذا المعنى ليس التاريخ هو علم الماضي فقط بقدر ما هو علم دينامي عن الاستمرارية والانقطاع. ولأنه علم عن فعل الزمن، فما نعرفه عن الماضي متطوّر بتطور مكتشفاتنا عنه ووسائلنا المعرفية والتعبيرية. وبناءً على هذه المقدمات، لست أعتقد أن التاريخ يطمح إلى تثبيت حقيقة أو حقائق.

لست معنيًا في أعمالي بفلسفة التاريخ وبنظريات في تأويل الوقائع التاريخية عمومًا. همّي أكثر تواضعًا بكثير، وهو الشغل على تبديد عدد كبير من الأساطير والخرافات السائدة والمقاربات الجزئية من أجل المساهمة في ملء ثغرات فارغة في مداركنا التاريخية، علمًا أن جهدي لا يتعدّى تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين في لبنان والمشرق العربي.

لدي هذه الملاحظات على سؤالك.

  • أنا شديد الفضول بشأن الطريقة التي بها تتأسس وتستبدل المناهج الأكاديمية الغربية، الأميركية خصوصًا، ثم تشيع في العالم في الأكاديميا، والإعلام، ووسائل التواصل المجتمعية، والنتاج الفكري، والرأي العام في العالم وفي بلادنا خصوصًا. هذا موضوع نادرًا ما يجري التطرّق إليه. يؤخذ على علّاته. ويغلب الفكر النقلي. تنتقل دَرْجة (موضة، تقليعة) أكاديمية – ثقافية إلى أخرى، فنجهد للحاق بالجديدة بلا تساؤل عن كيف تمت النقلة ولماذا. يحدونا افتراض بأن التقدم يساوي اللحاق بآخر دَرْجَة (موضة، تقليعة). لكن، من قال إن آخر تقليعة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية هي بالضرورة أجدى منهج لمقاربة أوضاعنا؟ ومن قال إنه يتعيّن علينا أن نعيد تعريف أنفسنا ومجتمعاتنا بناءً عليها؟ هذا عدا عن أن تلك الدَرجات ملغومة دومًا بالسلطة وبالمصالح.

طرابلسي: من قال إن آخر تقليعة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية هي بالضرورة أجدى منهج لمقاربة أوضاعنا؟

هذا مثال.  يبشّرنا جماعة ما بعد الحداثة أن عصر السرديات الكبرى قد انتهى. ويا للصدفة! يبدو أنه انتهى مع نهاية الحرب الباردة! وماذا عن لاهوت السوق السحرية؟ وأحادية تفسير العالم بواسطة الثقافة والهويات؟ أليست هذه وتلك سرديات كبرى وشاملة، حتى لا أقول شمولية؟

  • يوجد فرق بين إنكار وجود حقيقة أو حقائق عامة، وبين اعتبار الصراع الفكري صراع سرديات بلا أي مقياس للمفاضلة بينها، أي بدون القواعد التي يوفرها علم التاريخ، فيغلب فيها الرأي أي "الهوى" كما يسمّيه علماء العرب الأقدمين، أو تصير أي سردية تعادل أي سردية أخرى. بل تتفوق سردية بسبب قوة الطرف الذي يحملها أكثر من تفوقها بسبب متانة الأسناد والبحث والحجة والبراهين، ناهيك عن المقدرة البلاغية.
  • يوجد فرق كبير بين اللجوء إلى الأدب في سرد التأريخ، واختزال التأريخ بالأدوات اللغوية المستخدمة لإعطاء معنى للوقائع التاريخية.
  • إن اختصار التأريخ بإعطاء معنى للأحداث والوقائع، يفترض أن تعيين الأحداث والوقائع قد تم أولًا بأول، أي أن التحقق من وقوعها قد تأكد وحظي بدعم أكثرية من المراجع الثقاة. المهمة الأولى في التأريخ هي السرد، سرد الوقائع والأحداث. ونقطة البداية فيه هو التأكد من أن الوقائع قد حصلت فعلًا، وتعيين الطريقة التي حصلت بها. توجد وقائع حصلت في التاريخ ووقائع لم تحصل، أي وقائع متخيّلة بقصد أو دون قصد. هنا الشغل: التحقق والإسناد والمرجعية.
  • المؤرخ البلجيكي هنري لامنس، هو صاحب رواية "لبنان ملجأ الأقليات الدينية" وبينهم الموارنة. يروي أن تلك الأقليات لجأت إلى جبال لبنان هربًا من الاضطهاد الإسلامي في القرن العاشر. الواقعة مخترعة. دحضها المؤرخ كمال الصليبي بالتذكير، في حالة الموارنة، بأن هؤلاء عاشوا ثلاثة قرون في ظل الخلافة الأموية في منطقة حمص، وأنهم هُجّروا منها لا على يد الحكم الإسلامي، وإنما على يد البيزنطيينالذين سيطروا على الشمال السوري ووادي نهر العاصي خلال القسم الكبير من القرنين العاشر والحادي عشر لاتهامهم الموارنة بالهرطقة.

بعض مؤلفات فوّاز طرابلسي

  • هذا من حيث الوقائع. الأهم أن بناء السرد التاريخي يتم عادةً بالسجال مع أساطير وخرافات، أو بملء الثغرات في روايات ناقصة، أو يتولى تحيين روايات قائمة بعد العثور على أدلة ومكتشفات جديدة بصددها. تكتسب هذه العملية أهمية خاصة في بلداننا، حيث القسم الكبير من تاريخنا مكتوب من خارجها، ما يعني أنه يحتمل، بل يستوجب، المراجعة النقدية والتدقيق والتفكيك وبناء سرد بديل. الاستشراقالموضوع في خدمة السياسات الاستعمارية غالب في تاريخ المنطقة. توجد روايات فاضحة في قصدها الاستعماري، ورواية لامنس واحدة من مئات من أمثالها. وكثير منها معتمد عربيًا على أنه متحقق ومرجعي.

أسلوبي في رواية التاريخ يقرره الموضوع ذاته. في "تاريخ لبنان الحديث: من الامارة الى اتفاق الطائف" (2008) أردت كتابة تاريخ يشبك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في سعيي إلى التأريخ الشامل. تتبعت نشأة النواة في إمارة جبل لبنان والمتصرّفية، وصولًا إلى نشأة الكيان بُعيد الحرب العالمية الأولى، وتابعت أبرز محطات تطوره. أفردت حوالي نصف الكتاب للتأريخ للحرب الأهلية ومقدماتها خلال عقد صاخب تميّز بالحركات والنزاعات الاجتماعية الكثيفة.

عالجت الحرب كصيرورة، قسّمتها إلى ثلاث حقب بناءً على ثلاثة مقاييس: طبيعة القوى المتحاربة في كل حقبة، والموضوع الرئيس الذي يجرى عليه النزاع المسلّح، وتدخل القوى الخارجية وأثرها على مجريات النزاع. وأفردت عدة صفحات لما أسميته "الاقتصاد السياسي للميليشيات"، لبيان دور العنف والسلطة السياسية في إنتاج مصالح اقتصادية والإثراء على حساب دماء اللبنانيين، وهو ما يؤسس لفهم الاقتصاد السياسي والاجتماعي لما بعد الحرب، وتنامي الظاهرة المافياوية.

في كتاب "حرير وحديد: من جبل لبنان الى قناة السويس" (2013)، اعتمدت أسلوب التدوين المستوحى من الحوليات، وعرضته على شكل مشاهد ولقطات، ما قد يصلح لسيناريو فيلم وثائقي يشبك شخصيات وأحداثًا بعضها ببعض. ستلقى فيه: نساء جبل لبنان واقتصاد الحرير، الاحتلال الفرنسي للجزائر، حلم نابليون الثالث بإنشاء "المملكة العربية" في السلطنة العثمانية، أو على أنقاضها، برئاسة الأمير عبد القادر الجزائري، إتباع الاشتراكي سان سيمون لدى محمد علي باشا لتلقيح مصر بالحداثة الصناعية، الليدي هستر ستانهوب البريطانية تعلن نفسها ملكة على اليهود في تدمر وتنتظر عودة المسيح في القدس من منزلها بقرية جون في جبل لبنان، النهضوي اللبناني فارس الشدياق يجوب المتوسط في دورة كاملة تنتهي في إسطنبول، يدرس في الازهر ويترجم الكتاب المقدس في بريطانيا، ويشهر اسلامه في تونس، ويتأثر بالاشتراكية، ومغامرات أخرى.

طرابلسي: يوجد فرق كبير بين اللجوء إلى الأدب في سرد التأريخ، واختزال التأريخ بالأدوات اللغوية المستخدمة لإعطاء معنى للوقائع التاريخية

تتقاطع هذا المسارات، تنعقد ثم تتفكك، لتصل إلى ذروتها في الاقتتال الأهلي العام 1860، والتدخل العسكري الفرنسي الذي يمهد لتسوية فرنسية – عثمانية ولدت بموجبها متصرفية جبل لبنان، وأفسحت المجال للمهندس الفرنسي دُ لسيبس (نسيب زوجة نابليون الثالث) لافتتاح أعمال شق قناة السويس في أكبر صفقة اقتصادية استعمارية في القرن التاسع عشر.

أما "سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط"، فالتأريخ فيه أقرب إلى تحقيق بوليسي، يكشف أن "الثلاثي" ليس بريئًا من ارتكاب "الجريمة" التاريخية. لكنهم ليسوا المتهمين الوحيدين، وأن "الجريمة" ليست مطابقة تمامًا لما أظهره التحقيق الذي تلاعب بالوقائع والأدلة والشهادات، وسوف يتبيّن في نهاية التحقيق المضاد أن "الجريمة" تخفي "جرائم"!

10- التاريخ/ الذاكرة

  • كيف ترى النزعات التي بدأت تنتشر مؤخرًا للمساواة بين التاريخ والذاكرة؟ بل إن بعضها ذهبت نحو تفضيل الذاكرة على التاريخ معتبرةً أنها أكثر أصالة وصحة ووضوح من التاريخ الذي تراه مصطنعًا؟

أفترض أن الحديث هو عن الذاكرة الجمعية. الاهتمام بالذاكرة دائم، لكن الراهن منه من نتاج ما بعد الحداثة وإجمال التأريخ بما هو من قبيل السرديات الكبرى. النظرة التي تؤثر الذاكرة على التاريخ من مخلّفات أيديولوجيا الحرب الباردة: تتهم الأنظمة الشيوعية بطمس الذاكرة بحيث يصير التذكّر فعل معارضة، وهو ما تعبّر عنه معادلة ميلان كونديرا "النضال ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان".

ليست الذاكرة والنسيان على طرفي نقيض كما سنرى بعد قليل. وقد تبدو معادلة كونديرا جذابة أدبيًا، لكنها خاوية من حيث المضمون. من الوسائل البديهية التي تملكها السلطات للسيطرة أو الهيمنة أو اكتساب الشرعية، هي إنتاج ذاكرات شعبية أو جمعية، وتغذيتها والتحكّم بها، من خلال الاحتفال بأحداث معينة، وإحياء ذكرى حكّام سابقين يبررون حُكم اللاحقين، والتذكير بمواقع عسكرية معينة، وتكريم أبطال وطنيين، والتباهي بانتصارات، بل حتى التباكي على هزائم وويلات وكوارث، إلخ. هذه كلها تغذية لذاكرة، وليست فرضًا لنسيان.

أما العلاج بالذاكرة، فوصفة من الوصفات التي يوصى بها للمجتمعات التي عانت من الكوارث والحروب، بما فيها الحروب الأهلية. والافتراض السائد أن التذكير بأعمال العنف والكوارث قابل بذاته لضمان عدم تكرارها، جريًا على المثل الشعبي الدارج "تنذكر وما تنعاد"، هذا في الحد الأدنى. ومن منوعاته، التبشير بالسلمية، وتنظيم ورشات "الحقيقة والمصالحة"، أو "الحقيقة والكرامة" في صيغتها العربية، والتربية ضد الكراهية، وما شابه.

ويقوم العلاج هنا على الافتراض بأن إعادة بناء وحدة الشعب وتماسكه وتوازنه، يتم عن طريق بناء "ذاكرة جمعية" مشتركة للأحداث، وصولًا إلى رواية مشتركة للتاريخ. لم ينجح هذا العلاج بمفرده في منع تكرار الحروب، في أي حالة من الحالات، لأنه يعوّض بذاكرة العنف والأهوال عن دراسة الأسباب والنتائج والدروس. مثلًا، وقع اقتتال أهلي ذو طابع طائفي في جبل لبنان خلال فترة 1845 – 1860 لا يزال في الذاكرة إلى الآن، مع أن ذكراه لم تمنع من اندلاع حرب أهلية صغيرة عام 1958، ولا ذاكرة الحربين السابقتين حالت دون اندلاع حروب الأعوام 1975 – 1989.

الحقيقة أنه لا توجد ذاكرة جمعية قدر ما توجد رواية تقدّم نفسها على أنها الرواية الشائعة أو الرسمية لحادثة معينة أو حقبة معينة. وهي رواية تغلب فيها الوظيفة الأيديولوجية النفسانية على الوظيفة المعرفية. خُذ مثلًا ذاكرة المجاعة في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى. إنها مظلومية جمعية تتهم السلطات العثمانية بمشروع إبادة مسيحيي جبل لبنان، إذ تروي أن العثمانيين "أقفلوا البحر" لمنع وصول المؤن والمساعدات لأهالي جبل لبنان، علمًا أن الذي "أقفل البحر" هو الحصار البحري الإنكليزي كفعل حربي ضد السلطنة العثمانية.

طرابلسي: همي هو العمل على تبديد عدد كبير من الأساطير والخرافات السائدة والمقاربات الجزئية من أجل المساهمة في ملئ ثغرات فاغرة في مداركنا التاريخية

صحيح أن وقع المجاعة كان الأقسى على جبل لبنان قياسًا إلى سائر بلاد الشام، لكن "الذاكرة" لا تذكر الأسباب: البُعد عن حوران وصعوبة وصول القمح والحبوب وارتفاع كلفة النقل والسعر وجشع التجار، والندرة الإضافية للمواد الغذائية بسبب انتقال جبل لبنان إلى اقتصاد الحرير وتخلي الأهالي عن زراعة القمح والحبوب واستبدالها بملايين أشجار التوت لإطعام دود القز، فساد موظفي الإعاشة العثمانيين، والأهم دور التجار والمرابين المحليين في تخزين المواد الغذائية واحتكارها، وسلب الأهالي ممتلكاتهم المتواضعة لقاء توفير القوت لهم، بل إفقارهم والإثراء على نكبات المجاعة ومآسيها.

وهي ممارسات موثقة من شهود عيان، أشهرهم رجل الدين الماروني الخوري أنطون يمّين ("لبنان بعد الحرب 1914 – 1919" 1919). يبقى "الدليل الاحصائي" أن عدد الضحايا المسيحيين أكبر من عدد الضحايا الدروز. والرد عليه بسيط: عدد المسيحيين أكبر أصلًا من عدد الدروز في جبل لبنان، وقد نزحت أعداد كبيرة من الدروز إلى حوران هربًا من المجاعة.

وهذا مثال آخر معاصر على "الذاكرة الجمعية" بما هي رواية لمظلومية: قصة البوارج الحربية الأميركية التي تحركت نحو ساحل لبنان، خلال الفترة الأولى من الحرب الاهلية (1975 – 1976) لنقل المسيحيين إلى الولايات المتحدة الأميركية وتوطين الفلسطينيين مكانهم.

بالفعل، حرّكت الإدارة الاميركية قطعًا من أسطولها في خريف 1976 لحظة دخول القوات السورية إلى لبنان، الذي توسطت الدبلوماسية الأميركية بين سورية وإسرائيل لإجازة دخولها لوقف الحرب ومنع طرف من الانتصار على الطرف الآخر، على ما أعلن حافظ الأسد. كان الإجراء البحري من قبيل الاحتياط من إمكان تدخل سوفييتي إلى جانب "منظمة التحرير الفلسطينية"، أو من احتمال صدام بين القوات السورية المتقدمة والقوات الإسرائيلية. لم يقع أي صدام، وكان رئيس الوزراء السوفييتي أليكسي كوسيغِن في زيارة رسمية لدمشق عندما أعلن الأسد دخول قواته إلى لبنان.

هذه الوقائع موثقة من المصدر في وثائق مجلس الأمن القومي والخارجية في حكومة الولايات المتحدة الأميركية، وهي مترجمة ومنشورة باللغة العربية في العدد الأول من فصلية "بدايات" العام 2012. والطريف أن النائب جميل السيّد كرر الرواية ذاتها عن مجيء دين براون إلى لبنان لنقل المسيحيين على البوارج الأميركية في حديث أخير له مع الإعلامي جاد غصن خلال كتابة هذه السطور (4/11/2022).

طرابلسي: لا توجد ذاكرة جمعية قدر ما توجد رواية تقدّم نفسها على أنها الرواية الشائعة أو الرسمية لحادثة معينة أو حقبة معينة

نأتي إلى الأهم: إن وضع الذاكرة مقابل النسيان وبالتضاد معها يحجب ما بينهما من علاقات وتأثيرات متبادلة. لا يمكن للإنسان أن ينسى كل شيء، ولا يمكنه أن يتذكّر كل شيء. كلاهما عملية انتقاء. كل عملية تذكّر تتضمن إهمال ما لا يراد تذكّره، إهمالًا إراديًا أو غير إرادي. واعيًا أم من غير وعي. ثم إننا لا ننسى إلا ما نعرفه أو ما نتذكره.

تحدث حالات فقدان الذاكرة في الحالات الفردية، وغالبًا نتيجة كبت لواقعة مؤلمة أو حادثة رضّية. لكن ليس يوجد فقدان ذاكرة أو محو ذاكرة في الحالات الجمعية.

ومثلما لا يوجد ذاكرة جمعية، لا يوجد نسيان جمعي. ما يسقط من الذاكرة تحل محله ذاكرة أخرى. و"النسيان" ما هو إلا عملية استبدال ذاكرة بأخرى. ويمكن القول بالتالي إن "التذكر" الفعلي هو نقد الذاكرة الشائعة.

خُذ تصوير الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990 بأنها "حرب الآخرين" حسب مقولة الصحافي غسان تويني الشهيرة، ولها منوعان "حرب الآخرين على لبنان"، و"الحرب في لبنان من أجل الآخرين". هذا ليس ضربًا من النسيان. هذه رواية مفروضة، مشغولة، ومعممة بواسطة الإعلام، والأبحاث ووسائل الاتصال المجتمعية وغيرها، تحظى بنسبة عالية من الانتشار. ولها وظائف متعددة: تبرئ السلطات التي لم تعمل لمنع اندلاع الحرب كما تبرئ الميليشيات التي خاضت الحرب وقد بات قادتها في السلطة، وتطمئن اللبنانيات واللبنانيين عمومًا أن لا مسؤولية تقع عليهم على القتل والدمار الذي ألحقوه ببلادهم (دون أن ينفردوا في ذلك)، وتغيّب البحث في أسباب الحرب وتعيين المسؤوليات والمحاسبة بإلقائها اللوم على الآخرين.

وأخيرًا، تقدّم هذه "الذاكرة" التسويغ لإعادة بناء النظام الاقتصادي والسياسي الذي كان قائمًا قبل الحرب، مع تضخيم أبرز معالمه، أي الانتقال من الليبرالية إلى النيوليبرالية، وبناء مجتمع الاستهلاك، وإعادة بناء موسعة لنظام الطائفية السياسية مع تعميق طابعها الديني، وإن بتعديل في توازناته الداخلية. وكل ذلك باسم العودة إلى لبنان كما كان، أو حتى العودة إلى عصر ذهبي سبق الحرب. وشرط ذلك ألا يخطر ببال أحد ان يسأل: إذا كان ذاك العصر الذهبي عصرًا ذهبيًا كما تصفونه، لماذا أدى إلى الحرب؟ فتعود قصة إبريق الزيت: كانت الحرب حرب الآخرين على أرض لبنان. ويكون الرد: إذا كانت حرب الآخرين، لماذا ارتضى نحو 80 ألف لبناني أن يموتوا فيها؟

طرابلسي: إن وضع الذاكرة مقابل النسيان وبالتضاد معها يحجب ما بينهما من علاقات وتأثيرات متبادلة

في المقابل، دعوت وأدعو إلى واجب التذكّر وضرورة النسيان. واجب تذكّر أسباب الحرب ومساراتها وكيفية انتهائها والدروس المستخلصة منها. ودعوت وأكرر الدعوة الى ضرورة تناسي أعمال العنف والمجازر التي تبادلها اللبنانيون خلالها. نتذكر تلك الأعمال لكي ننساها. وإننا نستطيع أن ننساها لأننا نعرفها، ولأننا نتذكرها. ويمكن لعملية التذكر والنسيان المتبادلة هذه أن تشكّل الأساس لتسوية تاريخية تصفّي بقايا الحرب. وهو ما لم يحصل في "اتفاق الطائف" وتوابعه. لذا أتحدث عن تناسي، بما هو فعل إرادي. حتى أنه يمكن إجمال كل هذه المحاجّة بالعنوان الذي أعطاه محمود درويش ليومياته عن الحصار الإسرائيلي لبيروت صيف 1982 - وما تضمنه من مراجعة الشاعر النقدية لما تحمّله لبنان واللبنانيين من وجود المقاومة الفلسطينية المسلّحة على أرضه – "ذاكرة للنسيان".

  • أخيرًا، ما هي مشاريعك القادمة؟

أنا في طور إنجاز الجزء الثاني من "صورة الفتى بالأحمر"، وهي شهادة عن تجربة "لبنان الاشتراكي" و"منظمة العمل الشيوعي في لبنان"، وعنوانه "زمن اليسار الجديد".