13-يناير-2025
عبد الرحمن عباس

الكاتب السوداني عبد الرحمن عباس (الترا صوت)

عبد الرحمن عباس يوسف محمد، طبيب يبلغ من العمر 26 عامًا دخل عالم الأدب والكتابة بعمله الأول المنشور في "دار روافد" في القاهرة. في مجموعته القصصية "الحكّاء الأخير في هذا الزمان" حيث تتلاقى الأهواء الشخصية مع الموروث الثقافي، استطاع أن يقدم عملًا يحمل بين طياته أفكارًا عميقة وتجارب إنسانية خالدة أهلته للفوز بجائزة "سرد الذهب".

في هذا الحوار، يحدثنا الكاتب الشاب عن رحلته الإبداعية وتأثير التراث والأساطير في تشكيل ملامح أعماله، والثيمات الفلسفية التي طغت على مجموعته، مثل الموت والغربة والصراع مع الهوية. كما نتعرف على تطلعاته الأدبية المستقبلية، ورؤيته للكتابة بوصفها فنًا يعبر، بعمق، عن الذات والمجتمع.


 

  • في العنوان الفرعي للمجموعة كتبت هذه ليست لنشر ماذا تقصد؟

في الواقع هذا جزء من الحكاية الأخيرة التي تقول كل شيء. في القصة الأخيرة من المجموعة، يحكي الراوي أن بطل القصة عثر على مجموعة من الأوراق، مجموعة من الحكايات كتبها كاتبٌ مغمور، كتبها بألم، وبرغبة في الخلاص، وتخلص منها ظنًا بأنه بهذه الطريقة سيرمي أوجاعه إلى الأبد. 

وربما سبب هذا العنوان الفرعي، لأنني وفي لحظةً ما لم أكن أريد أن يقرأ أحد هذه القصص. والجدير بالذكر أنني كتبت هذه المجموعة القصصية لنفسي في المقام الأول، كتبتها للطفل في داخلي، الذي يحب الحكايات ويقتات الخيال. لكن يسعدني أن أرى حكاياتها تعبر الحدود وتقرأ.

 

  • هل كان تحول الزول إلى حجر في النهاية بمثابة عقاب له أم نتيجة حتمية للوضع الذي عاشه؟

استندت هذه القصة إلى ميثولوجيا التحول، يمر فيها "الزول" بتحولات عديدة تنتهي بتحجره، ربما في رمزية إلى نهاية حتمية للمعاملة التي نالها من مجتمعه. قصة هذا الزول هي قصة كثيرين، ربما بدرجات أقل، لكنها قصصٌ موجودة، يعامل فيها الناس أسوأ معاملة بسبب صفات خارجية ما اختاروها. من جانب آخر، القصة تستغل معنى الصيرورة، وتقول إن تحولاته إلى كائنات أخرى هي بمثابة ارتقاء وتغيير إلى الأفضل، في نقد لاذع للنفس البشرية.

 

  • هل يمكن أن يكون تحول الزول في حكاية صيرورة الزول إلى حجر بمثابة تمثيل لهوية ضائعة مثلًا؟ وهل تعكس تلك الفكرة الانغلاق الاجتماعي؟

بالطبع، فالزول كان يبحث طوال حياته القصيرة عن نفسه. فمنذ أيام لين عظامه كان مادة لتعليقات الناس المحيطين بها، عرفوه بناءً على شكله. ربما كان يعي أنه أكثر من مجرد تصورهم عنه، لكنه في النهاية لم يستطع الاحتمال فضاعت هويته في ظلام تصورات الناس عنه. وتعكس القصة انطوائية وانعزالًا إجباريًا ناله الزول. وهذه العزلة التي لم يخترها تضمنت نهايته. ومن يدري! ربما كان ذلك أفضل له، ربما هو سعيدٌ الآن بكونه حجرًا في قاع البحر الأحمر، في تلك البقعة الصافية. ربما وجد عزاءً عن كل الذي عاشه.

 

  • ما يجمع بين أغلب القصص هو الموت الغرب الضياع هل تعتقد أن هذا الصراع يمثل تناقضات داخلية في نفس الإنسان أم هو انعكاس للتوترات الاجتماعية في العالم المعاصر؟

ربما ينشغل الإنسان بالأيام وتأخذه الحياة بمتطلباتها، لكنه لن يتوقف أبدًا عن التساؤل: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ ومتى تنتهي حياتي؟ وما هو المصير؟

عبد الرحمن عباس: كتبت هذه المجموعة القصصية لنفسي في المقام الأول، كتبتها للطفل في داخلي، الذي يحب الحكايات ويقتات الخيال

الموت هو الحقيقة الأولى والأخيرة في هذه الحياة، وهو الهاجس الأكبر في حياة الكائن البشري. الغربة والضياع شكلان من أشكال الموت. هذا الصراع بين هذه الحقائق هو جزء من الإنسان. فمنذ الأزل بحث الإنسان عن نفسه وما وجدها. يمكننا أن نقول إن للضياع والغربة علاقة سببية، الغربة هي طاعون العصر، والأمر المحزن أنها تتنامى في نفس إنسان القرن الحادي والعشرين بصورة مرعبة. وأقصد الغربة بمعنييها المكاني والروحي.

 

  • ما الذي ألهمك لكتابة القصص في مجموعتك الأدبية؟ هل كانت هناك تجارب شخصية أو أحداث معينة أدت إلى هذه الأفكار؟

بالطبع، ثمة أحداث بعينها كانت سببًا في كتابتي لقصص بعينها، لكن في الغالب أنا مسكونٌ بهذه الحكايات، وبهذه الأسئلة التي تطرحها المجموعة. إذا قلنا إن الكتابة يمكن أن تقسم إلى الأدب من أجل الأدب، والأدب من أجل الحياة (القضايا)، فالمجموعة مزيجٌ منهما، لكن يغلب عليها طابع الأدب من أجل الأدب.

 

  • كيف يمكنك تفسير استخدامك لهذا الأسلوب الرمزي في أغلب قصص المجموعة، وهل تعتقد أن القارئ العادي يستطيع استيعاب المعاني العميقة خلف هذه الرموز؟

في موروثنا الحكائي الشعبي السوداني نطلق على الحكايات المحلية اسم "أحاجي"، لا أعتقد أن للاسم علاقةٌ بالألغاز، لكن دائمًا ثمة حكمة خفية في الحكاية. الكتابة لعبة بين الكاتب والقارئ، وهذه الرمزية البسيطة تمثل استفزازي للقارئ. أعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذه الرمزيات يمكن أن يستوعب من معظم القراء.

 

  • مجموعة القصص تحتوي على توجهات فلسفية واضحة، مثل البحث عن الهوية والصراع الوجودي. هل تعكس هذه الأفكار نظرة شخصية لديك تجاه العالم والمجتمع ؟

بالطبع. لا يستطيع الكاتب فصل نفسه عن عمله، وعمله الأول تحديدًا. الذين يعرفونني سيعثرون علي بجلاء في بطن هذه الحكايات. إنها حكايات عني وعنا جميعًا. أسئلة الوجود جزءٌ أصيل منا وإن أخذتنا الحياة بمشاغلها من حين لآخر. وكل الأسئلة الكونية التي تطرحها المجموعة، هي في الواقع جزءٌ منا جميعًا، لن نتوقف عن طرحها ما دمنا.

 

  • العديد من شخصياتك، مثل "بهية" السمكة و"الكائن إكس"، يواجهون مشاعر الاغتراب والتوق للتغيير. هل تعتقد أن هذا الشعور بالاغتراب هو جزء من التجربة الإنسانية العالمية في عصرنا الحالي؟

كما أسلفت في إجابة عن سؤال سابق، تنامت الغربة بشقيها في عصرنا الحالي، لكنني في هذه المجموعة ركزت على غربة الروح، الغربة الأكثر وجعًا، التي يشعر فيها المرء أن المكان لا يسعه، ولا يشبهه.

هل يشعر الإنسان بالغربة في وطنه وبين أهله؟ نعم، هي غربةٌ قاسية، ليس لها حل في الغالب. ناقشت المجموعة هذه الغربة من خلال قصتي "حكاية السمكة التي أحبت اليابسة" و"حكاية رميلة". وفي القصتين، هامت البطلتان بعوالم أخرى معاكسةٌ تمامًا لعالميهما. وفي القصتين عثرتا على ما رامتا، وهذه النهايات المستحيلة تحكي رغبتي العميقة في قول أن بوسع المرء أن يعثر على نفسه، حتى ولو في عالم مختلف تمامًا عن عالمه.

 

  • كيف ترى تطورك ككاتب في هذه المجموعة؟ هل كانت هناك تجارب سابقة أثرت على أسلوبك ورؤيتك الأدبية؟

من المعلوم أن للقصة القصيرة قواعدها وأشكالها، وأنها فنٌ مستقل، له صعوبته الخاصة. أجدني استمتع أيما متعة وأنا أضع البداية والنهاية والعقدة، أعثر على نفسي في ساحة اللعب الضيقة هذه. في الواقع، قبل أعوام قليلة لم أكن أعرف ماذا تعني القصة القصيرة، قبل أعوام قليلة فقط ما كنت أدري كيف يكتب المرء قصة، لكنني أعرف جيدًا أنني كتبت قصتي الأولى إثر افتتاني بقصة قصيرة قرأتها.

ما بين ضياع وضياع، عثرت على القطعة الناقصة. 

الحكّاء الأخير في هذا الزمان

لا أزال أذكر كيف رمت بي قصة "الضائعان" للقاصة إسراء رفعت؛ إلى دنيا القصص والسرد، وكيف كان غسان كنفاني الإجابة لتساؤل بريء لازمني منذ أول قصة قرأتها: ما معنى الدهشة؟

ما أزال أذكر اللحظات التي أعقبت انتهائي من كتابة أول قصة لي. حين حملتها بين يدي مثل عصفور وليد، وأنا أتأملها بحنو. كانت نحيلةً خاليةً من الريش، عمياء وكسيحة. كانت مشوهة، لكنها كانت تشبهني كثيرًا، تشبهني حد التطابق. أتذكر بوضوح أنني أخذتها كما هي وعرضتها على أحدهم، بعد تفكير طويل وتردد. كانت الفكرة في حد ذاتها غريبةً علي؛ فكرة أن يقرأ أحدهم شيئًا كتبته.

واليوم، وبعد أن كتبت الكثير من القصص، أشعر بالغرابة ذاتها، لكنها ممتزجةٌ بأحاسيس متداخلة من التوجس والفخر. لا أعرف على وجه الدقة ما أشعر به، لكنني متأكدٌ أنني سعيدٌ بأن أحدًا رأى أن ما أكتبه يستحق أن يكون ورقًا على رفوف المكتبات، وأن يقرأ. متأكدٌ أنني أشعر بالراحة، وبأن حلمًا ضئيلًا من أحلامي غادر عالمي الصغير وراح يجوب العالم.

 

  • من هو الجمهور الذي تستهدفه من خلال هذه المجموعة القصصية؟ هل تعتقد أن القصص تناسب جميع الأعمار أم أن هناك فئة معينة من القراء يمكنهم الاستمتاع بها أكثر؟

في الواقع، وكما ذكرت، كتبت هذه القصص لنفسي، وجزءٌ منها كان حكايات اختلقتها أيام عزلة كوفيد - 19 خلال جلسات أنس مع أخي الصغير. أعتقد أن للمجموعة بعدين: بعد يمكن حتى للأطفال قراءته والاستمتاع به، وبعد آخر مؤلم وممتع، يمكن للكبار فهمه أكثر.

 

  • ما هي مشاريعك الأدبية القادمة؟ وهل هناك أية أفكار أو مواضيع جديدة تود استكشافها في أعمالك القادمة؟

مشروعي الأدبي القادم مجموعةٌ قصصية عن الأمراض النفسية باختلافاتها، وهي محاولةٌ مني لقول شيء ما، للتعريف بها، وبأسبابها، للتعبير عن ما يعانيه المرضى النفسيين. يعاني كل المرضى النفسيين من كل فئة بدرجة متقاربة، وتكمن أعظم معاناتهم في محيطهم وتأثيره عليهم.

الكثير من مرضى الاضطرابات النفسية الذين صادفوني عانوا من عدم تفهم الأسرة لحالتهم وصعوبة تقبل مجتمعاتهم لطبيعة أمراضهم، إذ يعاني المريض النفسي أكثر ما يعاني من صعوبة تقبل الناس لعلته. لذلك يطرح المشروع أسئلة على شاكلة: ما هو الاضطراب النفسي؟

عبد الرحمن عباس: الموت هو الحقيقة الأولى والأخيرة في هذه الحياة، وهو الهاجس الأكبر في حياة الكائن البشري. الغربة والضياع شكلان من أشكال الموت

كيف ينظر المجتمع للمريض النفسي وكيف يتعامل معه؟، كيف تتعاطى الأسرة مع الفرد المعتل نفسيًا؟ وما أثر ذلك عليه؟، وتسخر المجموعة فن القصة القصيرة لوضع تعريف للعلة النفسية وإضافة معارف ربما تكون غائبة لدى عامة الناس عن عالم الاضطرابات النفسية، وتغيير مفاهيم مغلوطة وتفسيرات شعبية من خلال السرد وبسلاسة ومن غير مباشرة، المفاهيم مثل أن جميع أشكال المرض النفسي ضربٌ من الجنون، وامتناع الأسر عرض المريض على الطبيب النفسي خجلًا منها وخوفًا من الوصمة المجتمعية، وإرجاع الكثير من الأعراض النفسية لوساوس الشيطان، وغيرها.

كما تحاول وصف تفاعلات المضطربين نفسيا مع أسرهم ومجتمعاتهم ومدى تقبلها ونظرتها للمريض النفسي كفرد منها، ومدى استيعابها لطبيعة الاضطراب النفسية وفهمها لأسبابها وكيفية التعاطي معها.

 

  • هل كان هناك موقف حياتي شخصي ألهمك كتابة هذه القصص الفلسفية، خاصة فيما يتعلق بمفهوم الموت والوجود. وما هو دور الحرب الدائرة الآن في هذا؟

لا أتذكر موقفًا بعينه، لكن الإنسان نتاج تجاربه، كل الأسئلة المطروحة في العمل، هي هواجسي وتساؤلاتي، وربما هواجسنا جميعًا كبشر. أما عن الحرب فهي تجربةٌ إنسانية قاسية، تعري النفوس البشرية، وتنبش أعماقنا، وتتركنا في مواجهة أكثر الأسئلة إلحاحًا. كتبت مجموعتي هذه قبل الحرب بفترة، لكن التجارب الإنسانية تتشابه، ربما نجد في مجموعتي ما يصف الحرب وآثارها كما لو أنها كانت جزءًا من تجاربي قبل كتابة العمل.

 

  • هل هناك فلسفة معينة أو مؤلف أدبي أثر في صياغة هذه القصص وتحديدًا في ما يتعلق بمفهوم الموت والوجود؟

أميل إلى السوداوية في جل مناحي حياتي، قراءاتي شملت كتابات تنز ألمًا، قرأت لديستوفسكي وإيميل سيوران وشوبنهاور وغيرهم. ربما تأثرت بنظرة كل منهم إلى الحياة، ففي النهاية نحن نتاج من نقرؤه، بقدر ما نكون نتاج تجاربنا.

 

  • التجارب الإنسانية في أوقات الحرب والمعاناة التي ترافقها، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي هي من ألهمتك؟

كتبت المجموعة قبل هذه الحرب، لكن تجارب أخرى شكلتني، الحياة في معظمها تعب وشقاء وآلام، والتجارب الإنسانية تتشابه حد التطابق، ما قرأته ألقى بظلاله علي بوضوح.

الموت هو التيمة الأكثر تكرارًا حتى أن أغلب شخصيات المجموعة لاقته بصورة أو بأخرى، حتى وصلت في إحدى القصص إلى موت الموت نفسه كيف وصلت إلى هذه التأملية المستحيلة؟

الموت هو الحكاية الأولى والأخيرة في مجموعتي هذه، وهو الحقيقة الأكثر قابلية للتصديق، وهو هاجس البشرية الأكبر. القصة التي تتناول محاولة انتحار الموت قصة فانتازية خالصة، ربما هي خيال جامح. فكرةٌ أردت فيها أن أجعل من الموت كائنًا حيًا يشعر ويندم ويتحسر ويرغب في أن يحظى بنهاية.