25-سبتمبر-2021

الخبير في شؤون الجماعات الجهادية حسن أبو هنية (ألترا صوت)

أعاد سقوط العاصمة الأفغانية كابول بيد مقاتلي "حركة طالبان"، في الخامس عشر من آب/ أغسطس الفائت، قضايا مثل محاربة الإرهاب والجهادية العالمية، إلى واجهة النقاش العالمي مجددًا، على اعتبار أن عودة الحركة إلى السلطة في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منها، سيؤدي حتمًا إلى انتعاش التنظيمات الجهادية، وانتشار الفكر الجهادي بصورة أوسع مما كان عليه الحال قبل الانسحاب. 

ويتمحور هذا النقاش حول مجموعة من المسائل، منها: تداعيات عودة طالبان على المنطقة وانعكاساتها على نشاط الحركات الجهادية، ومستقبل النظام العالمي بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان وتخليها عن محاربة الإرهاب، بالإضافة إلى تأثير هذه التطورات على الأنظمة القمعية في العالم العربي. 

في هذا الحوار، يجيب الباحث الأردني حسن أبو هنية، الخبير في شؤون الجماعات الجهادية، على جملة من التساؤلات المتعلقة بالمواضيع السابقة، أو المتفرعة منها.


سؤال يشغل العالم. طبعًا أكثر ما يثير في سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، هو هدف الولايات المتحدة اﻷمريكية من غزوها اﻷخيرة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، أي القضاء على اﻹرهاب الذي تمثّل في تنظيم القاعدة الذي نفّذ الهجمات. هذا هو الهدف اﻷساسي الذي تحدث عنه جورج بوش الابن قبل الغزو، باﻹضافة إلى هدف آخر تمثّل في بناء اﻷمة والدولة الديمقراطية، وهو الهدف الذي تخلى عنه جو بايدن مؤخرًا، بل ونفى أن تكون غاية بلاده من غزوها ﻷفغانستان هو تحقيقه. 

أبو هنية: انشغال الولايات المتحدة اﻷمريكية بمحاربة اﻹرهاب، مكّن الصين من التحول إلى قوة عالمية كبيرة

ولكن إذا عدنا إلى خطابات بوش الابن، بل إلى جميع الخطابات الرسمية اﻷمريكية قبل الغزو وبعده، نجد أنها كانت تتحدث عن  القضاء على الإرهاب وبناء اﻷمة أيضًا. هذه هي اﻷسباب المعلنة. أما الخفية، فتتمثّل في رغبة المحافظين الجُدد الذين ظهروا في الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، في إعادة تشكيل العالم على أساس الهيمنة والعولمة اﻹمبريالية اﻷمريكية. 

اقرأ/ي أيضًا: حوار| المؤرخ شكري عرّاف: التحدي الأكبر هو ألّا تقبل أن تراهم يلغونك

في العودة إلى الهدف اﻷساسي من الغزو، وهو القضاء على اﻹرهاب، فنحن نعلم بأن اﻷمر انتهى إلى فشل ذريع. وهذا ينطبق أيضًا على بناء الدولة أيضًا. فلا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة اﻷمريكية فشلت، على مدار عشرين عامًا، في بناء دولة ديمقراطية ليبرالية. ناهيك عن فشلها في تنفيذ جميع ذرائعها اﻷخرى المتعلقة، كما هو شأن سائر الكولونياليات التاريخية التقليدية، بجلب السلام والاستقرار وحماية حقوق اﻹنسان التي تُختزل إلى حماية حقوق المرأة وتحريرها. وهذا ما تسميه ليلى أبو لغد "النسوية اﻷمنية". 

في المجال اﻷكبر، القضاء على اﻹرهاب، تباهى بايدن بأن بلاده قد نجحت في منع عودته إلى المنطقة. ولكننا إذا رجعنا إلى المركز الوطني الأمريكي لمكافحة اﻹرهاب، سنكتشف أنه تضاعف أكثر من أربع مرات مقارنةً بما كان عليه قبل الغزو. فبينما كان اﻷمر يقتصر في السابق على تنظيم مركزي يقوده أسامة بن لادن في أفغانستان وباكستان، أصبح اليوم يشمل شبكة مترامية اﻷطراف في أفريقيا وآسيا ودول أخرى مختلفة. ناهيك طبعًا عن ولادة نهج جديد يتمثّل في تنظيم الدولة اﻹسلامية في العراق والشام "داعش"، الذي سيطر على مساحات واسعة في العراق وسوريا، ويسيطر اﻵن على ما نسبته 1% من مساحة أفريقيا. مما يعني أن القاعدة كانت، في ذلك الوقت، شيئًا تافهًا. وبالتالي لم يتم القضاء على اﻹرهاب، وإنما على أسامة بن لادن فقط. 

أما فيما يتعلق بعودة حركة طالبان إلى السلطة، فإن النقاش اﻵن يدور حول سؤال: كيف ستدير الحركة المشهد الجهادي؟ فبعد بروز "ولاية خراسان" في كانون الثاني/ يناير 2015، أصبح هناك تنافس على زعامة الجهادية العالمية بين تنظيم القاعدة والدولة اﻹسلامية. ومن المعروف في هذا السياق أن الحركة تؤوي أكثر من 70 حركة جهادية مختلفة التوجهات والولاءات. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، تشير جميع المعطيات إلى انتعاش المشهد الجهادي، حيث استقبل الجهاديون عودة طالبان إلى الحكم على أنه هزيمة مذلة للولايات المتحدة اﻷمريكية. حتى أن بعض المعلقين قالوا إن بن لادن يضحك، في قبره المائي، على جميع ما فعلته واشنطن. 

وباﻹضافة إلى جميع ما سبق، فإن انشغال الولايات المتحدة اﻷمريكية بمحاربة اﻹرهاب، مكّن الصين من التحول إلى قوة عالمية كبيرة. وبالتالي، ما حدث في أفغانستان هو كارثة على الولايات المتحدة وحلفائها. أما بالنسبة إلى الجهادية، فهي تستعيد اﻵن نشاطها، وربما نتحدث في السنوات القادمة عن شكل التحالف الجهادي الجديد. 

صحيح. وهذا اﻷمر لم يعد سرًا، كما أنه ليس جديدًا، إذ بدأ فعليًا منذ ولاية باراك أوباما الذي دشّن مبدأ إعادة التوازن والتوجه نحو آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، حيث تتمركز اﻵن أكثر من ثلثي القوات اﻷمريكية. وبالتالي، فإن ما يحدث اﻵن هو نتيجة إعادة الولايات المتحدة تعريف أولوياتها الاستراتيجية. فبعد أن كان التنافس قائمًا بينها وبين اﻹرهاب، عدوها التاريخي الذي خاضت ضدّه حروب مفتوحة الزمان والمكان، بات اليوم قائمًا بينها وبين روسيا والصين. ولذلك، سعت إدارة بايدن، ومن قبله ترامب وأوباما، إلى إنهاء هذه الحروب بهدف التصدي لهما اقتصاديًا وعسكريًا أيضًا. 

أبو هنية: الجديد في حركة طالبان اليوم ليس خطابها، وإنما سلوكها وممارساتها وخبرتها في التعامل مع المجتمع الدولي ومخاطبة اﻵخرين

وأضف إلى ما سبق اﻷولويات المحلية المتمثلة في مواجهة تداعيات جائحة كورونا من جهة، واﻹرهاب المحلي الذي يُنظر إليه اليوم على أنه أكثر خطورة من تنظيم القاعدة، من جهةٍ أخرى.

طبعًا، ﻷن هذه الانتكاسة بدأت بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي وقيام الثورات المضادة، التي تزامنت مع وصول ترامب إلى السلطة وﻷن ما يعبِّر عنه انسحاب الولايات المتحدة اﻷمريكية من أفغانستان، هو تخليها عن مساعيها في نشر الديمقراطية والحريات وإقامة المجتمعات المدنية. وهذه كانت، كما نعلم، ذريعتها لغزو أفغانستان والعراق. 

اقرأ/ي أيضًا: حوار| سعيد ناشيد: نعيش في عالم غير آمن

لم تعد هذه اﻷمور إذًا ذات أولوية بالنسبة للولايات المتحدة اﻷمريكية التي ترى أنها، منذ عهد ترامب، شؤون داخلية لا علاقة لها بها. اﻷمر الذي شجّع الانقلاب على نتائج الربيع العربي، بل وجعلَ الدكتاتوريات العربية في منأى عن المساءلة أو المحاسبة. وهذا ما يفسِّر انتقال اﻷنظمة العربية من السلطوية إلى الاستبداد. حتى تونس التي كانت حرة جزئيًا، أصبحت اليوم غير حرة على اﻹطلاق. وهذا طبعًا بتشجيع من الولايات المتحدة التي لم تعد تمارس أي ضغوطات على أي دولة بما يخص هذه المسألة. 

إذا رجعنا إلى خطابات الملا محمد عمر، قبل أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وبعدها، نجد أنه كان يتحدث عن جميع هذه القضايا التي تشدِّد عليها طالبان اليوم. مما يعني أن الخطاب الحالي للحركة ليس جديدًا، وإنما الجديد هو سلوكها وممارساتها. فالحركة التي منعت تعليم النساء، وألغت الحقوق والحريات، وارتكبت انتهاكات مختلفة ضد الأقليات خلال فترة حكمها الأولى، تتساهل الآن في جميع هذه المواضيع، ولكن في إطار الشريعة الإسلامية. 

وطالبان في النهاية هي حركة سياقية. صحيح أن لديها تقاليد خطابية، كما يقول طلال أسد، وتستند إلى قومية هي "البشتون"، مما يجعل من تحليلها قريبًا من التحليل الخلدوني، الذي يجعلها أقرب إلى دعوة دينية ملتحمة بعصبية هي القومية في هذا السياق؛ إلا أنها تغيّرت بشكل كبير مقارنةً بما كانت عليه، وأصبح لديها خبرة كبيرة في التعامل مع المجتمع الدولي ومخاطبة اﻵخرين، وهذا ينطبق أيضًا على فهمها للشريعة الإسلامية. وربما هذا هو الجديد في حركة طالبان اليوم.

أبو هنية: تتمثّل أبرز تحولات الحركات الجهادية اليوم، في تخليها عن قتال العدو البعيد وحروب النكاية لصالح التركيز على الشأن المحلي

ولكن في النهاية لن تتحول طالبان إلى إمارة ليبرالية، ولا يمكن أن يحدث ذلك. فعلى سبيل المثال، أمضت الولايات المتحدة عشرين عامًا في أفغانستان، دون أن تنجح في بناء نظام ديمقراطي. والدليل هو الانتخابات الأخيرة التي جاء فيها أشرف غني رئيسًا، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 16%، أي أن هناك عشرين ولاية لم تشارك في هذه الانتخابات التي اقتصرت على منطقة محدودة تُعرف بـ "المنطقة الخضراء"، في الوقت الذي كانت فيه بقية الولايات الأفغانية غارقة في البؤس والفقر. 

اقرأ/ي أيضًا: حوار | إيان لوستيك: حل الدولتين تجارة مربحة للوهم

ورغم ذلك، هناك من يرى أن الأفغان سيعيشون في الجحيم بعد عودة طالبان، وكأنهم كانوا يعيشون في الجنة قبل عودتها! وهذا يرتبط طبعًا بالنظريات الاستشراقية التي لا تتعامل مع أفغانستان كما هي، وإنما مع تلك التي تم تخيُّلها بعد الغزو الأمريكي على أنها جنة.

بالتأكيد. وأعتقد أن المرأة هي المدخل لإعادة تكرار المرحلة الكولونيالية التي صوَّر فيها المستعمرون الإسلام على أنه كاره للمرأة، رغم أنها كانت تتمتع في العالم الإسلامي، تاريخيًا، بالكثير من الحقوق التي لم تكن موجودة في أوروبا والغرب. 

لا يجب أن ننسى أيضًا الحجاب الذي يصوَّر على أنه رمز لخضوع المرأة، بينما اعتبره فرانز فانون، خلال الثورة الجزائرية، رمزًا للمقاومة وتأكيدًا للهوية. وحتى الحبيب بورقيبة كان له موقفًا مشابهًا، حيث كتب مقالة أكد فيها أن مقاومة النساء للمستعمر عبر ارتداء الحجاب، هو أيديولوجيا مضادة. طبعًا عدّل بورقيبة أقواله فيما بعد على أساس انتفاء الأسباب. ولكن، رغم ذلك، ورغم ذهاب الكثير من المبررات، لا نزال في العالم الإسلامي نتمسك بالحجاب باعتباره محدِّدًا للهوية. وهذا ما لا يريد الآخر إدراكه إلى جانب إدراك حقيقة أن النساء يأخذن الحجاب، كما بيَّنت صبا محمود في كتابها "سياسة التقوى"، من باب الورع والتقوى، وليس الخضوع والاضطهاد. 

الحركات الجهادية، كما هي الحركات الاجتماعية عمومًا، أقرب إلى السياقات. واﻷخيرة عادةً هي من يحدِّد شكلها وخطابها. ففي لحظة ما كانت أولويات الجهادية تقتصر على قتال ما أطلق عليه عبد السلام فرج، في "الفريضة الغائبة"، العدو القريب، أي الأنظمة العربية. ولكن ما حدث في عصر العولمة أن هذه التنظيمات رأت في الولايات المتحدة الداعم اﻷول لتلك اﻷنظمة، وعلى هذا اﻷساس قاتلتها بصفتها العدو البعيد.

أبو هنية: الدراسات النقدية الحديثة ترى أنه من الضروري أن نعيد دراسة الجماعات الجهادية بصفتها نتاج عنف سياسي

وتتمثل أبرز تحولات الحركات الجهادية اليوم، في تخليها عن قتال العدو البعيد وحروب النكاية لصالح الشأن المحلي. فإذا نظرنا إلى الحالة اﻷفريقية على سبيل المثال، سنجد أن أهداف مختلف الجماعات الجهادية هناك، التابعة للقاعدة أو تنظيم الدولة، هي أهداف محلية. في المقابل، نعلم بأنه ليس هناك أي تدخل عسكري أمريكي في أفريقيا، وأن القوة العسكرية الوحيدة في القارة هي فرنسية. لذلك نجد أن عداء الجماعات الجهادية اﻷفريقية يتركّز على فرنسا. وأنا أتوقع أن الجهادية العالمية ستتخلى عن محاربة الولايات المتحدة، وتتجه لقتال الدول اﻷوروبية في المستقبل.  

اقرأ/ي أيضًا: حوار| خالد زيادة: الدولة الدينية مفهوم حديث

يجب أن ندرك إذًا أن أولويات الجهادية العالمية قد تغيّرت. وبوسعنا اختزال هذه التغيّرات في جملة "إن لم تعتدوا علينا، لن نعتدي عليكم". هذا ما تقوله اليوم حركة طالبان. وهذا مأخوذ من الشريعة والفقه اﻹسلاميين، وهو اﻷصل أيضًا في العلاقات الدولية. ولا يجب أن أن في هذا السياق أن العداء بين الولايات المتحدة والجهادية، بدأ بردة فعل اﻷخيرة على ممارسات الأولى التي كانت حليفتهم خلال الغزو السوفييتي ﻷفغانستان. وهذا ما لا يريد اﻷمريكيون الاعتراف به، لا سيما وأن جزءًا كبيرًا منهم يعتبر أن هجمات أيلول/ سبتمبر هي اعتداء على الحرية والقيم اﻷمريكية، بينما هي في اﻷصل ردة فعل على السياسات اﻹمبريالية اﻷمريكية. 

وكما نعلم، تُعرِّف اﻷنظمة الكولونيالية أي حركة مقاومة ضدها بأنها "إرهابية"، ولا تعترف بأن سبب ظهورها هو ممارساتها الاستعمارية ولذلك نجد أن الدراسات النقدية الحديثة تشدِّد على أن اﻹرهاب ليس له تعريف، وأن من يحدِّد من هو اﻹرهابي، هي سلطة القوى. ولهذا السبب، ترى هذه الدراسات أنه من الضروري أن نعيد دراسة هذه الجماعات بصفتها نتاج عنف سياسي، أو أسباب سياسية. 

أعتقد أن هذا أمر معقد، قمنا أنا وصديقي محمد أبو رمّان بشرح جزءٍ منه في كتابنا الأخير "تنظيم حراس الدين: صعود القاعد وأفولها في المشرق العربي". فالهيئة (جبهة النصرة، ثم جبهة فتح الشام سابقًا) تمتعت دائمًا بالمرونة والقدرة على التكيُّف، وهذا مكّنها من الانتقال من دولة العراق الإسلامية، عندما أرادت إلغائها ودمجها في جسد الدولة الإسلامية في العراق والشام في نيسان/ أبريل 2013، إلى تنظيم القاعدة. وساعدها أيضًا في فك ارتباطها بالأخيرة في تموز/ يوليو 2016. 

أبو هنية: الصراع على زعامة السلفية العالمية بين القاعدة وتنظيم الدولة اﻹسلامية في العراق والشام، حُسم لمصلحة اﻷخير

اشتملت الهيئة، منذ تأسيسها، على أجنحة مختلفة، حيث كان هناك جناح يضم بقايا تنظيم دولة العراق الإسلامية، وآخر يضم المرتبطين بالقاعدة، أي "جماعة خراسان" التي كانت هدفًا للضربات الجوية الأمريكية، بالإضافة إلى الجناح البراغماتي الذي يقوده أبو محمد الجولاني. وبسبب هذا التعدد، جاء خطاب التنظيم ملتبسًا، يميل إلى الاعتدال أحيانًا، ويسلك مسلك تنظيم الدولة في أحيانٍ أخرى، لا سيما لناحية التعامل مع فصائل الجيش الحر، وبقية التنظيمات الجهادية.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| استدعاء تيودور أدورنو لفهم اليمين المتطرف اليوم

وفي جميع المراحل التي مرّت بها الهيئة، كانت لديها دائمًا هذه النظرة البراغماتية التي وصفها أحد الباحثين بـ "البراغماتية المحسوبة". ولعل أكثر ما استفادت منه خلال السنوات الأخيرة، هو تموضعها في منطقة جغرافية لم يكن لدى الفاعلين فيها الرغبة في القضاء عليها. ويبدو أن الهيئة مدركة تمامًا لحقيقة أنها لن تستطيع البقاء دون دعمٍ خارجي، وهذا ما يفسِّر مغازلتها لتركيا والدول الغربية، خاصةً الولايات المتحدة التي تسعى قيادة الهيئة إلى التقرّب منها عبر الاستثمار في خلافاتها مع روسيا، وتقديما نفسها بصفتها عدوًا لأعدائها، أي النظام وروسيا وإيران. 

ولكن في النهاية يجب أن ندرك أن هيئة تحرير الشام ليست تنظيمًا يفرض شروطه بالقوة، كما هي طالبان. وأنها لم تنل بعد رضى الولايات المتحدة التي لا تزال تصنّفها تنظيمًا إرهابيًا، في الوقت الذي يرى فيه مجلس الأمن القومي الأمريكي، أنها حركة براغماتية مشكوك في أيديولوجياتها، وأن تحولاتها خطابية وليست جوهرية.

العنوان الفرعي لكتابي الأخير "تنظيم حراس الدين"، هو "صعود القاعدة وأفولها في المشرق العربي"، وللعنوان دلالاته. فالقاعدة سعت دائمًا إلى إيجاد موطئ قدم لها في بلاد الشام باعتبارها أرض الحشد والرباط، وأنشأت الكثير من التنظيمات في المنطقة، مثا "كتائب عبد االله عزام"، و"تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، وغيرهما. 

أبو هنية: المثير في إقصاء اﻹسلام السياسي من الحكم أنه كان يجري دون تقديم بديلٍ عنه

وبعد تشكيل التحالف الدولي لضرب تنظيم داعش، وضعت القيادة المركزية للقاعدة خطة لإعادة التموضع في بلاد الشام، حيث شكَّلت آنذاك لجنة للإشراف على هذه العملية تحت اسم "لجنة حطين"، التي كان يقودها سيف العدل. وتمخض عن عمل هذه اللجنة "تنظيم حراس الدين"، باعتباره الفرع الرسمي الجديد للقاعدة في بلاد الشام. وتوقعت القيادة المركزية آنذاك، أن انهيار تنظيم داعش سيدفع بمقاتليه إلى اللجوء للتنظيم الجديد، الذي رأت أنه سيستقطب أيضًا جهاديي هيئة تحرير الشام الرافضين لفك ارتباطها بالقاعدة. 

اقرأ/ي أيضًا: عن اللغة والإنسانية ونهاية التاريخ.. حوار مع نعوم تشومسكي

والحقيقة أن بدايات التنظيم كانت مشجعة، إذ وصل عدد مقاتليه في حينها إلى خمسة آلاف مقاتل، وكان له وجود فعلي على اﻷرض. ولكن ما حدث فيما بعد أنه تحول إلى هدف للضربات الجوية الأمريكية، التي اغتالت عددًا كبيرًا من قياداته العملياتية التاريخية، في الوقت الذي كانت فيه هيئة تحرير الشام تقاتله على الأرض وتطارد مقاتليه، الذين إما لجأوا إلى تركيا، أو التحقوا بتنظيمات أخرى، الأمر الذي أضعف التنظيم، وأفشل بالتالي مشروع القاعدة في بلاد الشام. 

الصراع على زعامة السلفية العالمية حُسم لمصلحة داعش، لا سيما في ظل تخلّي الفروع الإقليمية للقاعدة عن نهجها، قتال العدو البعيد والنكاية، لصالح قتال العدو القريب والتمكين. مما يعني أن نهج القاعدة قد عاد إلى نهج تنظيم الدولة الذي كان سبب خلافاتهما. ففي الوقت الذي كانت فيه القاعدة تعارض توجه الدولة الإسلامية نحو قتال العدو القريب وسعيه إلى إقامة نظامٍ من الحكم، كانت هي بدورها تخوض حروب تمكين وليس نكاية. ولذلك، نجد أن جميع الحركات الجهادية تتبنّى اليوم نهج داعش على حساب نهج القاعدة، إن كان على صعيد التمكين وحروب السيطرة، أو الاستراتيجيات العسكرية.

هي قد تبدو كذلك، ولكنها تنظيمات حاضرة في المشهد، لا سيما تنظيم الدولة الذي ينفذ عمليات مختلفة في العراق والبادية السورية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن التنظيم يدرك أن قوته ليست ذاتية، ولم تكن كذلك مطلقًا. صحيح أنه أنه يمتلك هيكل وتمويل وأيديولوجيا ومسيِّرين، إلا أنه لا يستطيع التحرك إلا في ظل ظروف اجتماعية بائسة، فهو في النهاية انعكاس لهذه الظروف التي هيّأتها الأنظمة العربية الفاشلة.

أبو هنية: لم يعد نشر الديمقراطية والحريات ومحاربة اﻹرهاب أمور ذات أولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة اﻷمريكية 

وإذا نظرنا اليوم إلى المنطقة العربية التي انحدرت إلى مستويات مخيفة من الاستبداد وغياب الحريات، بالإضافة إلى فشل التنظيم القائمة في أداء واجباتها، سنجدها بيئة خصبة لنشوء الحركات الجهادية، لا سيما بعد عودة طالبان التي منحت هذه الفكرة زخمًا إضافيًا. وأعتقد أن الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة في المنطقة العربية، بالإضافة إلى تداعيات جائحة كورونا، وعدم وجود حل للقضية الفلسطينية، إلى جانب انغلاق آفاق أي حلول سياسية، تجعل من هذه المنطقة بحاجة إلى حادثة بسيطة لتنفجر. 

بالتأكيد هي مهيّأة طالما أن العوامل التي ذكرناها ناجزة. وما تغيّر اليوم أن الأنظمة العربية لن تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة هذه التنظيمات، بعد أن تخلت الأخيرة عن محاربة الإرهاب. ولذلك تجد أن هذه الأنظمة تعيش حالة من الخوف بعد سيطرة طالبان على أفغانستان، لا بسبب عودة الحركة فقط، بل بسبب تخلّي الأمريكيين عن حليفهم أشرف غني، الأمر الذي يؤكد استعدادها للتخلي عنهم أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فيصل دراج: المثقف قائم في النقد

أضاف إلى ما سبق أن ما أثبتته الأحداث الأخيرة في أفغانستان، هو هشاشة الجيوش الوطنية وعدم استعدادها للقتال. فسقوط كابول ومن قبلها الموصل في العراق، لم يكن نتيجة مؤامرة، وإنما نتيجة طبيعية لعدم رغبة الجيوش الوطنية في القتال. وهذا يكشف أن الأنظمة القمعية العربية ليست قوة قتال، بل قوة بوليس. 

ولا بد من الإشارة هنا إلى التعريف الجديد الذي وضعه بعض الخبراء للجهادية، بغض النظر عما إذا كان دقيقًا أم لا، باعتبارها نتيجة طبيعية لفقدان الخيارات. بمعنى: ماذا تنتظر الأنظمة القمعية من الناس عندما لا تترك لهم خيارات؟ وفي ظل غياب حكم رشيد، واقتصاديات قوية، وفرص عمل؟ هذا بالضبط ما يجعل المنطقة مهيّأة لموجة جديدة من العنف. ودائمًا ما نلاحط أن كل موجة تأتي أشد من سابقتها. 

ومشكلة هذه الأنظمة أنها دائمًا ما تستنتج استنتاجات خاطئة. فهي، على سبيل المثال، تعيد سبب ما حدث خلال السنوات اﻷخيرة إلى عدم استخدامها للعنف بطريقة كافية. أي أنها ترى أن الحل يكمن في استخدام المزيد من العنف والقسوة، وليس في توفير الديمقراطية والحريات. والعنف يقابله عنف. 

هذا أيضًا مقلق بالنسبة إلى الدول الأوروبية التي أدركت أنه لا يوجد استقلال للأمن الأوروبي. فهي، رغم رفضها الانسحاب من أفغانستان، إلا أنها لم تستطع اتخاذ قرار أوروبي موحد للبقاء، رغم إدراكها لهشاشة الوضع الأوروبي من الناحية الأمنية. 

أبو هنية: ما أثبتته اﻷحداث اﻷخيرة في أفغانستان هو هشاشة الجيوش الوطنية وعدم استعدادها للقتال

وفي الوقت الذي حسمت فيه الولايات المتحدة الأمريكية أمورها، وحددت أولوياتها الاستراتيجية في التصدي للنفوذين الصيني والروسي، تجد أوروبا نفسها اليوم دون عدو. وإذا نظرنا إلى المنافسات الانتخابية في فرنسا على سبيل المثال، نجد أن الجميع يزاود على كراهية الإسلام، أي أنهم لا زالوا يعرِّفون مخاوفهم بـ "الإرهاب". 

والسبب خلف تجديد وإعادة إحياء الدول الأوروبية لهذه الظاهرة، هو أنها لا تريد أن تتعامل معها على أنها نتاج عنف وصراعات سياسية. والملفت للانتباه أنهم يتساءلون عن سبب كراهية هذه التنظيمات لهم، دون أن يخطر في بالهم أن السبب هو ممارساتها ضدها. فعلى سبيل المثال، هناك من يقول بأن الجهادية تستهدف هذه الدول لأنها ناجحة، بينما هي تستهدفها لأنها تتسلى بضربها. والحقيقة أن جزء كبير من الحرب على الإرهاب، كان عبارة عن تسلية.

الخلاصة أن الدول الأوروبية لديها اليوم مشكلة كبيرة تكمن في تمسكها بهذه الثيمة التي استنفذت أغراضها، أي ما يسمى الحرب على الإرهاب الذي صوَّره برنارد لويس وصمويل هنتنغتون، على أنه صدام حضارات سيبقى قائمًا إلى الأبد بين الإسلام والغرب. وهذه المقولة أصبحت، بعد صعود الصين، خرافة. وهي في الأساس خرافة. وأعتقد أنه من السذاجة اليوم الحديث صدام حضارات بين الإسلام والغرب. 

أعتقد أن أعداء أحرار الشام، المعلنين والخفيين، كانوا كُثر. بل إن أكثر من كان له أعداء في الثورة السورية، هم الأحرار الذين تبنّوا صيغة أساسها التماهي مع الوطنية، بصرف النظر عما إذا كانت حقيقية أم متخيلة. والحركة في النهاية هي أقرب إلى السرورية التي تجمع بين المحلية والوطنية والجهادية والنضال والسياسة.. الخ. ولهذا السبب كانت معاداة من قبل الجميع. حتى أن اغتيال قادتها، على سبيل المثال، وعلى عكس الكثير من الاغتيالات التي كانت واضحة وصريحة، لا يزال بل وسيبقى غامضًا. غير أن الواضح في الأمر، هو تواطؤ جميع القوى المحلية والخارجية على إنهاء الحركة التي كانت مرشحة، نظريًا، لأن تقود سوريا. 

اقرأ/ي أيضًا: حوار| جلبير الأشقر: الربيع العربي مستمر وأشكال الوعي في تصاعد

حتى الداعمين، على اختلافهم، كانوا يريدون أيضًا أخذ الحركة إلى اتجاه ما. ولكن الأحرار، في المقابل، حافظوا على نوع من التوازن تجاه هذه المسألة وغيرها. ولعل هذا التوازن هو أول ما فقدته الحركة بعد مقتل قادتها. 

الحقيقة أن تجربة أحرار الشام يجب أن تُدرس ويعاد دراستها مرات عديدة، لأنها تجربة مذهلة، ولها سمات عديدة، لعل أهمها هو أنها لم تكن مكروهة لا من الشعب السوري، ولا حتى من القوى الإقليمية أو الدولية، ناهيك عن أنها لم تصنَّف ضمن لوائح اﻹرهاب الأمريكية. ولهذه الأسباب مجتمعة، تم وأد هذه التجربة التي كانت قوة قتالية كبيرة، ولها كوادر سياسية وخدماتية مميزة. 

تلقى الإسلام السياسي ضربات عديدة. ولكنه، رغم ذلك، لم يخسر أي معركة انتخابية ديمقراطية حقيقية، بغض النظر عما إذا كنت راضٍ عنهم أم لا، لأن المسألة في النهاية ليست شخصية. وبالتالي أنت لا تستطيع اليوم التنبؤ بمصير الإسلام السياسي، على اختلاف أشكاله، لا سيما وأن الأنظمة العربية ستجد نفسها مضطرة إلى التحالف معه مرةً أخرى. 

أبو هنية: أتوقع أن الجهادية العالمية ستتخلى عن محاربة الولايات المتحدة اﻷمريكية، وتتجه لقتال الدول اﻷوروبية

والمثير في هذه القضية أن إقصاء الإسلام السياسي من الحكم، كان يجري دون تقديم بديلٍ عنه، لأنه لا يوجد في الأساس بديل يمتلك قاعدة شعبية، ومتجذِّر اجتماعيًا، كما هو حال الإسلام السياسي. ولذلك حين قامت الثورة السورية، حسم الغرب المسألة بسؤال: ما البديل عن النظام السوري؟ لأنهم كانوا يعرفون أن الإسلاميين هم البديل.

صحيح، هذا حقيقي، ولكن الدول الغربية لا تريد حدوث ذلك. وفي المقابل، لا يوجد بديل. أضف إلى ذلك أن الأنظمة العربية لم تحاول بل لا تريد بناء تيار إسلامي أو اجتماعي سائد، لأنها في الأساس لا تملك برامج سياسية أو دينية تجذب الناس. ولا بد من اﻹشارة هنا إلى أن الإسلام السياسي قوته موضوعية كامنة في تمثيله لعدد كبير من الناس. ولكنه، رغم ذلك، مستهدف. فعلى سبيل المثال، قدِّمت "حركة النهضة" الكثير من التنازلات، واندمجت في السياسات النيوليبرالية، وفاوضت صندوق النقد الدولي، وتسامحت مع رموز الثورة المضادة وبقايا النظام السابق، بل وتحالفوا معهم. ومع ذلك، لم ترضى هذه الفئات عنها ودون تقديم أي بديلٍ أيضًا. 

اقرأ/ي أيضًا: حوار| جابر أحمد: الشعب العربي الأهوازي مع فلسطين

ولذلك، لم يُكتب بعد مستقبل الإسلام السياسي، خاصةً وأن الأنظمة العربية القائمة لا تزال مأزومة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بل وحتى تحرريًا، إذ أصبحت جميعها مطبّعة مع إسرائيل. رغم ذلك، لا تزال هذه الأنظمة تملك جيش من الأجهزة اﻷيديولوجية والمثقفين الذين يدافعون عنها وعن سياساتها. بينما يجب على المثقف، كما قال إدوارد سعيد، أن يقول الحقيقة في مواجهة السلطة، وليس العكس. 

 

  • أُجري هذا الحوار عبد منصة "ZOOM"، وتم تفريغه وتحريره واختصاره بالشكل الأنسب للقراءة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| لورنسو فرتشيني: قانون القومية مؤشر على أزمة إسرائيل الاستعمارية

حوار| جيمس سكوت: هناك دائمًا ما هو تحت رادار السلطة