26-مايو-2022
جيانلوكا سوليرا

الكاتب والنشاط الإيطالي جيانلوكا سوليرا (تويتر)

في عالم ينقسم على نفسه وتنتشر فيه النزاعات ليس فقط بين البلدان المختلفة، بل داخل البلد الواحد، تصبح الأفكار والمشاريع التي تعمل على البحث عن المشترك وبناء الفضاءات الجامعة ضرورة حيوية للتخلص من التناحر والعنصرية وبناء مجتمعات متعاونة تواجه تحدياتها المشتركة.

يمثل مشروع بناء فضاء متوسطي مشترك عبر الحوار بين ضفتي البحر المتوسط الشمالية والجنوبية أحد المشاريع التي تستحق التوقف عندها

في هذا الإطار، يمثل مشروع بناء فضاء متوسطي مشترك عبر الحوار بين ضفتي البحر المتوسط الشمالية والجنوبية أحد المشاريع التي تستحق التوقف عندها، نظرًا للمكانة التاريخية والعالمية الخاصة التي تحظى بها تلك المنطقة التي احتلت قلب العالم القديم، وما زالت تحتل قلب العالم الحديث.

أحد الذين كرسوا عملهم لبناء هذا المشروع هو جيانلوكا سوليرا. سوليرا كاتب وناشط وسياسي إيطالي انضم منذ بدايات نشاطه إلى الحركة الخضراء وأسهم في تأسيس أول قائمة خضراء مدنية في إيطاليا، ثم عمل مستشارًا للبرلمان الأوروبي بين عامي 1995 و2004. بين عامي 2005 و2012، تولى سوليرا تنسيق شبكات المجتمع المدني في مؤسسة آنا ليندا للحوار بين الثقافات.

في عام 2016، أصدر سوليرا كتابه "الهوية المتوسطية والمواطنة النشطة" حول إمكانية بناء فضاء متوسطي مشترك على أساس مواطنة تقوم على النشاط والتعاون العابر للحدود. ومنذ 2019، يتولى سوليرا إدارة برنامج «حوار المتوسط للحقوق والمساواة»، وهو برنامج ممول من الاتحاد الأوروبي لدعم مؤسسات المجتمع المدني في منطقة المتوسط ومساعدتها في التعاون والتشبيك العابر للحدود. حول مفهوم الهوية المتوسطية والمواطنة النشطة أجرينا معه المقابلة أدناه.

في البدء، في كتابكم "الهوية المتوسطية والمواطنة النشطة"، تتحدثون عن هوية متوسطية مشتركة، في نظركم علامَ تقوم هذه الهوية؟ 

نعم، أتحدَّث عن هوية متوسطية لأنني أعتقد أننا جميعا، نحن الذين ينتمون إلى العائلة التاريخية لمنطقة حوض البحر المتوسط، نشترك في كثير من الأشياء مع جيراننا، سواء من ناحية اللغة والمعجم، نظام العيش، العادات الغذائية، التاريخ أو الطبيعة. وبالتالي أظن أننا عندما نتحدَّث عن هوية متوسطية، نود أن نسلط الضوء على حقيقة أن الأشياء التي تجمعنا أكثر من تلك التي تفرقنا. لست وحدي صاحب هذه الفكرة، وإنما هناك كثيرون يشاركونني إياها وقد طرحوها في كتاباتهم وأنشطتهم. ومن المهم طرح هذه الهوية المتوسطية في أيامنا هذه، لمواجهة الصورة التي أصبح الإعلام والخطاب السياسي يقدم بها حوض البحر الأبيض المتوسط كمنطقة صدام وقطيعة.

وفي هذا السياق، أود أن أنوه أن "الهوية" بالنسبة لي، ليست كلمة للتفرقة، كما جرى استخدامها كثيرًا لتعبر عن انتماء لمجموعة معينة في اختلافها عن مجموعات أخرى، وللقول بأننا "نحن لسنا مثل هؤلاء، نحن مختلفون". بالنسبة لي، مفهوم "الهوية" في علاقته مع المتوسط يعني أكثر "لا-هوية"، حيث المتوسط هوية للهويات، هوية جامعة ومنفتحة على الآخر خارج سياقها المحلي، مهتمة بالمعرفة ومستعدة للاستقبال والتبادل. لذا أريد أن أؤكد على هذه النقطة، إن استخدام مصطلح الهوية في السياق المتوسطي لا يجب أن يكون عامل تقسيم، بل للاعتراف بالتعددية والاختلاف الذي يزخر به تاريخنا.

في نظركم، كيف يمكننا تحويل هذه الهوية، كما تتصورونها عاملاً جامعًا، إلى برنامج سياسي يمكنه تأطير العمل على هذا المشروع المتوسطي الموحد؟

في الحقيقة، هذا سؤال مهم جدًا، وفي نفس الوقت ليس من السهل الإجابة عليه، وهو كذلك أساس العمل الذي نقوم به، ويقوم به كل النشطاء، أي تغيير السرديات السائدة عن البحر الأبيض المتوسط، وتحويل ذلك إلى مشروع سياسي. بالتالي، الاعتراف بهذه الهوية هو بالنسبة إلينا طريقة لطرح النقاش حول مكانة المتوسط في تحديد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ونريد أن يمثل هذا الاعتراف بهوية تعددية متوسطية قاعدة لإعادة التفكير في المتوسط كمجال جامع وليس منطقة قطيعة وتفرقة.

ومن أجل هذا، علينا في البدء أن نجتهد في الاعتراف بهذه الهوية. ثانيًا، أن نصوغ من خلالها مشروعًا للانخراط السياسي للمواطنين. فنحن نعلم أن فكرة الوحدة المتوسطية ليست جديدة في تاريخنا المعاصر، وقد تم في 1995 إصدار "إعلان برشلونة" الذي أكدت فيه بلدان المتوسط طموحها لتأسيس متوسط متحد بين شماله الأوروبي وجنوبه. لكن في الوقت الحالي تم استبعاد تلك الفكرة من على طاولة النقاش العام، ولم يبق من هذه الوحدة إلا صور خيالية للفنانين والشعراء، وللأسف لا يمثل هذا مشروعًا لانخراط المواطنين في النشاط السياسي.

نحن نريد طرح هذا للنقاش، وبما أن المؤسسات ليست مستعدة للتفكير في هذا الصدد، نرى ضرورة وجود حركة من المواطنين أنفسهم تضع في قلب نشاطها فكرة أنه يمكننا تحقيق الوحدة والتعاون والاندماج بين مكونات الفضاء المتوسطي.

في هذه النقطة بالتحديد، تضعون الحوار بين مكونات الفضاء المتوسطي كأداة لتحقيق هذا المشروع الاتحادي. كيف يمكن لهذا الحوار أن يفضي إلى إيجاد حلول للأزمات الراهنة التي يعرفها المتوسط؟

بطبيعة الحال فإن الأزمات التي يعرفها المتوسط عميقة، ومشروع الوحدة ليس مشروعًا للغد أو بعد غد، لكن علينا بدء العمل عليه من الآن، وأول خطوة هي تغيير السرديات الحالية عن المتوسط. لأننا عندما نسمع مثلاً خطابات الحملات الانتخابية الأخيرة في أوروبا وفي الشرق المتوسط، نجد دائمًا ارتباط حوض البحر الأبيض المتوسط بما هو سلبي: الهجرة التي توصف بأنها "غير شرعية"، الأزمة المناخية، الحروب وانعدام الاستقرار في مناطق منه، الفساد، التطرف، القمع.

نحن نريد أن نقدم فكرة مختلفة، بمعنى أن كل هذه الأزمات وعوامل عدم الاستقرار والصراع التي تمس الضفتين بكيفيات مختلفة، يجب أن تعالج بنظرة عابرة للدول. لا يمكن معالجة تدفق الهجرة "غير الشرعية" دون أن تشترك شعوب المتوسط في تفكير جماعي حول الحل. نفس الشيء بالنسبة للتغيرات المناخية وحماية الموارد الطبيعية والطاقة في المنطقة. ويمكننا قول نفس الشيء بخصوص المشاكل الأمنية والديموقراطية والحريات. وكذلك بالنسبة للعلاقات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. نحن نعتقد بحقيقة أنه لا يمكن لهذه الأزمات أن تحل حسب منظور ضفة واحدة، دون إشراك الأمم والشعوب من الضفة الأخرى.

هذا ما يدفعنا للمطالبة بأن يتم تحقيق هذا بشكل ممنهج. أن يتم عن طريق التفكير كشعوب تشترك في فضاء واحد، ولديها نفس التحديات، وتطمح لمكاسب مشتركة. وبالتالي، من الواضح أنه ليست هنالك مؤسسات لتحقيق هذا. هناك مؤسسات مثل "سكرتارية الاتحاد المتوسطي"، لكن يبقى دورها تقنيًا من أجل توزيع التمويلات للمشاريع، لكن دون رؤية سياسية توجه عملها. هناك أيضًا "الجمعية البرلمانية للبحر الأبيض المتوسط"، وهو منتدى يلتقي فيه البرلمانيون من الضفتين ويتبادلون الأفكار، لكن دون قدرة على الفعل، أو تأثير على مراكز اتخاد القرار.

ما نود إيصاله إجمالا هو أن هذه الأزمات لا ينبغي أن ترى كعوامل لإبعادنا عن التفكير في خلق فضاء مشترك، بل هي ما تجعل تحقيق هذا الفضاء ضرورة مستعجلة.

 في هذا السياق، هلَّا حدثتنا قليلاً عن برنامج "حوار المتوسط للحقوق والمساواة" الذي تديره حاليا؟

الآن سأخاطبكم كمدير لهذا البرنامج. "حوار المتوسط للحقوق والمساواة" هو برنامج نعمل داخله على الجمع بين منظمات المجتمع المدني من كافة بلدان البحر الأبيض المتوسط، من أجل التبادل والتفكير المشترك والعمل بشكل عابر للدول.

ومن أجل تحقيق هذا لدينا عدة أدوات، على رأسها رسم تصور استراتيجي من أجل نظرة مستقبلية للمتوسط خلال السنوات القادمة، وفي هذا الصدد اشتغلنا على إعلان مشترك وخارطة طريق بمقترحات وبرامج للعمل من أجل بناء فضاء مشترك ضمن ما نسميه «رؤية المتوسط 2030». هناك كذلك أنشطة المناصرة العابرة للدول، بمعنى تمكين المنظمات من العمل مع بعضها البعض على التحديات ذات الاهتمام المشترك.

كذلك نمنح النشطاء الشباب فرصة للاجتماع، كسر الحدود، والتفكير عبر أنشطة حيث يعملون بشكل جماعي على أسئلة عديدة، مثل التحديات المناخية، وفق معايير مشتركة، لكي يحسوا بذلك الانتماء لنفس الحركة، بأنهم ليسوا معزولين وأن ما يفكرون به على المستوى المحلي يمكن أن يكون له أثر ما وراء الحدود.

وبطبيعة الحال، في قلب عملنا تقع قضية الحقوق والمساواة، وسننظم مطلع حزيران/ يونيو القادم مهرجانًا بعنوان "مهرجان مواطني المتوسط"، حيث نسعى إلى جمع أناس للحديث عن تجاربهم ونشاطهم في مجال الحقوق والمساواة، بهدف خلق إحساس بالمواطنة المتوسطية عبر التبادل وتمكين النشطاء من التفكير في سياق المنطقة المتوسطية، وخلق فضاء تعاون مع نظرائهم في بلدان المنطقة.

بالحديث عن "مهرجان مواطني المتوسط"، هل يمكن أن تعطينا نظرة عن الأنشطة التي سيتضمنها؟

سينعقد المهرجان في مدينة كاتانيا في جزيرة صقلية بإيطاليا بين 2 و5 حزيران/ يونيو القادم. سندعو حوالي 120 مشاركًا يشملون نشطاء وفنانين وصحفيين وباحثين، وسنحدد تسعة مواضيع للعمل، وعلى أساسها سنقترح أشكالًا مختلفة للأنشطة: طاولات نقاش، عروض، ورشات عمل، معارض فنية، عروض أفلام، قراءات مع الأدباء الشباب المشاركين.

إذاً، سنحاول استخدام أدوات عديدة تستند إلى الحوار السياسي، لكن تهتم أيضًا بالتعبير الثقافي. هذه الأدوات سنستخدمها في معالجة المواضيع المختارة التي نجد من ضمنها مثلاً: هل المتوسط فضاء مشترك؟ التحديات البيئية التي تواجهها المنطقة، الديمقراطية وحقوق المواطنة، ودور المجتمع المدني. وبالتالي لمعالجة هذه المواضيع سنعتمد أشكالًا مختلفة من الفعاليات تسمح للمشاركين القادمين من سياقات مختلفة بالتعبير وتبادل الأفكار.

مفهوم "الهوية" في علاقته مع المتوسط يعني أكثر "لا-هوية"، حيث المتوسط هوية للهويات، هوية جامعة ومنفتحة على الآخر 

المعادلة هي دائماً الوصول، قدر الممكن، إلى تجميع عدد من المشاركين القادمين من ضفتي المتوسط حول طاولة النقاش أو أمام نفس خشبة العرض. هذه هي المعادلة التي نعمل على تحقيقها.