24-أبريل-2019

جبور الدويهي (تصوير سميح زعتر)

على مدار أكثر من 25 سنة، تمكّن الروائي اللبنانيّ جبّور الدويهي من أن يصنع للغته الروائية شخصيةً تُمايزها. اللغة عند أستاذ الأدب الفرنسيّ في الجامعة اللبنانية حكاية طويلة. نتحدّث عن كاتبٍ قدّم 8 رواياتٍ باللغة العربية، هو القادم أساسًا من فضاء الأدب الفرنسيّ، والناشئ في مدرسةٍ فرنسية كذلك الأمر؛ مدرسة كان أستاذتها يولون اللغة العربية اهتمامًا كبيرًا، بمعنى أنّ لا مجال للتساهل أمام هذه اللغة، كما يقول في واحدٍ من حواراته.

افتتح الدويهي رحلته في الكتابة بمجموعةٍ قصصية وحيدة بعنوان "الموت بين الأهل نعاس" صدرت سنة 1990، ليتبعها بروايته الأولى "اعتدال الخريف" سنة 1995. بعد ذلك، سوف يتوغّل ابن مدينة زغرتا، شمال لبنان، بالرواية، فيقدّم: "ريّا النهر" (1998)، و"عين وردة" (2002)، و"مطر حزيران" (2006)، و"شريد المنازل" (2010)، و"حيّ الأمريكان" (2014)، و"طبع في بيروت" (2016)، و"ملك الهند" (2019).


  • دعنا أوّلًا نعد إلى البدايات؛ ما الذي جاء بك إلى عالم الرواية؟ ولماذا الرواية تحديدًا؟ نسأل لأنّك بدأت تجربتك الإبداعية بكتابة القصّة القصيرة، وصدرت لك مجموعة قصصية وحيدة حتّى هذه اللحظة. وأيضًا، تقول في أحد حواراتك إنّك تكتب لغرض المتعة، وتقول في آخر إنّك لم تعد تصلح لشيء سوى الكتابة. بناءً على قولك، نودّ سؤالك عمّن سار بك أوّلًا إلى الحكاية، وزع فيك شهوة أن تحكي؟ نبحث ربّما عمّن وجّه خطواتك الأولى نحو الكتابة؟

في سلسلة "أستريكس" من الشرائط المصوّرة الفرنسية الشهيرة، يوزّع حكيم القرية على رجالها قبل المعركة مع الجنود الرومان شرابًا سحريًا يمنحهم قوّة استثنائية لكنه، يمنعه عن "أوبليكس" الضخم الجثة بحجة أنه وقع في قَدْر الشراب عندما كان صغيرًا واكتسب القوّة الدائمة. وهكذا يمكنني القول إني وقعت في قَدْر الروايات باكرًا فكنت نهمًا في المطالعة من الصفوف الأولى، لم أترك مجلدًا واحدًا في مكتبة المدرسة إلاّ وقرأته.

جبور الدويهي: الأسلوب أعمق من أن نتمكّن من تغييره عمدًا، فهو ملتصق بعلاقتنا باللغة، ويحدِّد هويتنا الكتابية

اقرأ/ي أيضًا: جبور الدويهي.. حميمية السرد

بقي نداء الأدب ملحًّا عليّ في المرحلة الثانوية، فخرجت عن المطالعات المدرسية إلى مؤلّفات من عوالم مختلفة كتشارلز ديكنز ودوستويفسكي وبلزاك وفولكنر ونجيب محفوظ وغيرهم الكثيرين. وبالرغم من تحصيلي علامات عالية في الرياضيات والفيزياء، اخترت التخصص في الأدب الفرنسي الذي أمضيت عمري في تدريسه في الثانويات ومن بعدها في الجامعة اللبنانية، فعاشرت الروائيين جميعًا حتى عنّت الكتابة على بالي، فتجرّأتُ على بعض البورتريهات والحكايات الصغيرة في مجموعة "الموت بين الأهل نعاس"، لأنتقل فيما بعد الى الرواية التي وجدت فيها متعة حياتي. هكذا جاءت الكتابة تتمة طبيعية لدراستي وتكويني واهتمامي بالناس وأحوالهم وظروفهم، بعد التزام قصير بالأفكار اليسارية، واستمتاعي بالأخبار كما كان يرويها في المقاهي من لديهم موهبة السرد الشفهي.

  • اليوم، في رصيدك العديد من الأعمال الروائية، ونعرف أنّ مدّة كتابة الرواية عندك تستغرق عامين. السؤال هنا؛ منذ أن صدر عملك الأوّل وحتّى صدور الأخير "ملك الهند"، ما الذي تغيّر في تجربتك الأدبية؟ وما الذي ظلّ ثابتًا في المقابل؟ ولماذا؟ ما الذي يظلّ برأيك قابلًا للتغيير دائمًا؟ وما الذي يُكتب له أن يظلّ ثابتًا في تجربة الكاتب؟

أعتقد أن الأسلوب في الكتابة أعمق من أن نتمكّن من تغييره عمدًا، فهو ملتصق بعلاقتنا باللغة، ويحدِّد هويتنا الكتابية. وأنا أحبُّ أن يقال إنّه يمكن التعرّف الى كتابتي من أسلوبها. لكن في المقابل أحاول عند إقدامي على مشروع روائي جديد، أن استكشف حدودًا سردية جديدة، وتوليفات متنوّعة مثل التعامل مع الزمن السردي والتعريف بالشخصيات وتنويع الحبكة والايقاع. ربّما ما تطوّر في كتابتي هو تحديدًا هذا الإيقاع الذي بات أكثر رشاقة، فما أخشاه هو سقوط الكتاب من يد القارئ. وهذا ما يدفعني إلى صرف سنتين، لا بل ثلاث، لإنجاز رواية من مئتي صفحة لا غير، أُعيد وأُعيد وأُصحِّح الإيقاع والمفردات.

  • نعرف كقرّاء لجبّور الدويهي أنّ محترف الرواية عنده هو الأمكنة، لا سيما الهامشية التي تكون أحيانًا بمعزلٍ عمّا يدور من حولها من أحداثٍ كبيرة، بينما تكون في أحيانٍ أخرى منخرطةً بكلّ ما تحوي فيها. ما السر وراء هذه الولع بالمكان؟ وإلى أي حدٍّ تعوّل عليه عادةً في بناء عمارتك الروائية؟ ماذا عن التجارب الشخصية وموقعها في رواياتك؟

صحيح أنني غالبًا ما أبدأ من المكان؛ مقهى على ضفة نهر تديرهُ امرأة بعد وفاة والديها. منزل عائلة عريقة بطبقتين يسكنهُ ابن العائلة العازب بعد أن هجره الباقون. حيّ فقير ببيوته المتكدسة لا يمكن الوصول إليه سوى عبر الأدراج الضيّقة. مطبعة أُقيمت مكان إسطبلات لخيول السباق في بيروت. وفي الكثير من الحالات، تكون لي علاقة مع المكان وموقعه في المدينة أو البلدة، ثمّ أنتقل إلى ساكنيه وهم دائمًا يشبهون المكان، ويخرجون من تاريخه إذ إنّ لكلّ مكانٍ تاريخ وأحداث شهدها، فتتكوّن لديّ مادّة كافية لتأليف رواية غارقة في واقع اجتماعي واقتصادي يمكن للقارئ التماهي مع الكثير من عناصره.

  • في سياق الحديث عن الأمكنة، نستعيد روايتك "حي الأمريكان" التي تناولت عدّة مواضيع كالعنف والفقر والحرمان والجهاد والتطرّف في مدينة طرابلس من خلال ذلك الحيّ، في وقتٍ كان فيه التطرّف يستفحل في جسد عددٍ من الدول العربية. سؤالنا لك، أين موقع المدينة من كلّ ما ذُكر في الرواية؟ وهل تكون "حي الأمريكان" مسودّة لمدونة المدينة؟ نقصد أنّ الأخيرة تحتاج اليوم إلى كتابة ثانية نظرًا لتراكم الوقائع المهملة هناك؟

لا شك أنّ "حيّ الامريكان" هي رواية مدينة متوسطية يمتزج في بعض أحيائها البؤس المادي بالدعوات الجهادية، وهي معادلة يمكن تتبعها في العديد من المدن العربية، وفي بعض الأحياء في المدن الغربية. وهي تقدّم مثالًا دقيقًا على علاقة الشخصيات بالأمكنة. وهي لا تقتصر على حيّ الأمريكان، بل تتنقل أحداثها عبر سيدة تخدم في أحد بيوت العائلات الغنية بين المناطق الفقيرة، وتلك التي تقطنها الطبقات الوسطى، وجهان انفصلا حديثًا لمدينة تقليدية متمحورة حول سوق تجاري يعود الى العصر المملوكي، وتطلّ عليه قلعة صليبية من القرن الثاني عشر، مدينة لم تعرف يومًا هذا الفرز السكني – الطبقي.

جبور الدويهي: طبعت الحرب الأهلية اللبنانية النتاج الروائي اللبنانيّ الذي عُرف ازدهارًا ملحوظًا بعد هذه الحرب

اقرأ/ي أيضًا: الحرب الأهلية اللبنانية في خمس روايات

  •   لنتحدّث عن الحرب الأهلية اللبنانية قليلًا. لا نزال نرى إصدارات أدبية جديدة تتناول هذه الحرب من جديد. برأيك، هل لا تزال هذه الحرب قابلةً لأن تُروى؟ في المقابل، يتعامل البعض مع الحرب كخزّانٍ للحكايات، أو خلفيةٍ لحكاية ما، إلخ. كيف يتعامل جبّور الدويهي معها؟ ولنفترض أنّ الحرب برمّتها لم تحدث، ما الطريق الذي تتوقع أنّ الرواية اللبنانية كانت ستسلكهُ برأيك؟

لقد طبعت الحرب الأهلية اللبنانية النتاج الروائي اللبنانيّ الذي عُرف ازدهارًا ملحوظًا بعد هذه الحرب، خصوصًا لدى الجيل الذي عاشها وعرف لبنان قبلها، وشاهد بأمّ العين انهيار البناء الاجتماعي والسياسي وتعاظم الانقسامات العامودية. قد لا تزال اليوم قابلة لأن تروى لكن بالطبع بطريقة مختلفة مع المسافة الزمنية التي تفصل حدوثها عن لحظة الكتابة. صحيح أنّ الأعمال الحربية زالت لكن نزاع الهويات الطائفية والجماعاتية ما يزال قائمًا، وهو استمرار بشكل ما للحرب المستعرة بأعمال العنف. وهي وإن لم تكن موضوعًا رئيسيًا، لا بدّ أن تكون موجودة في المشهد ويصعب الجزم بما كانت ستكون عليه الرواية اللبنانية لولا هذا الزلزال الكبير الذي دكّ أُسس العيش معًا وردّ الجماعات الى انطواء بدائي. أما أنا، فقد التقيت طويلًا بهذه النزاعات الأهلية، ولم أنجح في التخلّص من وجودها في رواياتي لأنّها باتت نمط حياة الى حدٍّ ما.

  • لا تغيب السياسة عن أعمالك الروائية إطلاقًا. على سبيل المثال، نقرأ في "مطر حزيران"، عدا عن حادثة مجزرة "كنيسة مزيارة"، نقدًا واضحًا لطريقة العمل السياسي في لبنان. هل يريد جبّور الدويهي للسياسة أن تكون حاضرةً بشكلٍ مباشر في أعماله؟ أم أن يكون حضورها عبارة عن كتابة تأثيرها، أي السياسة، على حيوات البشر؟ وهل تكتب من موقع الحياد؟

وهل تريدني أن أُناصر طرفًا على طرف في تلك النزاعات العبثية التي يسقط فيها القتلى من دون سبب وجيه، وتنتهي بالمصالحة وفق مصالح سياسية صغيرة؟ وكما ذكرت، بدأت بسرد المشاكل المحلية في "مطر حزيران"، تلك التي شاركت فيها عائلتي في وجه عائلات أخرى، فأضعفتُ الجانب السياسي في كتابتي (عن أحداث تسبّب بها الصراع على السلطة السياسية) حتى كاد يضمحل لصالح المآسي الشخصية وأصوات نساء وأولاد وحيوات صغيرة يعصف بها العنف، وإلى ما هنالك من طقوس في استخدام السلاح والعلاقة بالحيوانات والدين، والنظرة للانتماء الى الأحزاب السياسية وتصنيف الغريب والقريب الفكرة عن الذات والآخر وعن المآكل والألعاب، الخ.

  • بعد كلّ ما سبق، دعنا نسألك عمّن فجّر أسئلة الكتابة الحقيقة عندك؟ وما السؤال الذي يشغلك أدبيًا في الوقت الراهن؟ وأيضًا، على ماذا تعوّل أكثر نقديًا، آراء الكتّاب أو النقّاد؟ ومَن مِن هذين الطرفين ترك أثرًا أكبر في تجربتك الأدبية؟

أعوّل في الواقع على رأي وردة فعل الأصدقاء، فأنا أعرض مسودّتي على ثلّة من الذين أثق بهم وبذائقتهم الأدبية، فأنتقل بعدها الى النشر وتلقّي ردود النقاد. وأكثر ما يكتب في الصحف كناية عن عجالات تعريفية نادرًا ما تقدّم إضافة، باستثناء بعض المقالات القليلة التي تذهب في عمق الكتابة وأسئلتها. وتأتي بداية فيما يخصّني الرغبة في الكتابة ومتعتها، فلقد أتيت إلى الرواية من هنا وليس من إشكاليات نظرية. وكلّ سعيي أن أنقل شيئًا من متعة الكتابة هذه الى القارئ، أمّا الباقي، فأتركه للنقّاد والمعنيين بمفاعيل الكتابة وأبعادها السياسية والجمالية وغيرها.

  • صدرت لك قبل عدّة أسابيع رواية جديدة عن "دار الساقي" تحمل عنوان "ملك الهند". حدّثنا عنها قليلًا؟

يبدأ مشروع الكتابة بصورة وليس بفكرة، رجل مصاب بطلق ناري يوجد مقتولًا في ضاحية بلدته التي عاد اليها مؤخرًا من غربة طويلة. ومن يقل جريمة، يقول تحقيق وهكذا "تورطّت" فيما يشبه الرواية البوليسية ولو أنني حافظت على أسلوب الخيال الأدبيّ الذي يدفعني دائمًا إلى الكتابة.

جبور الدويهي: صحيح أنّ الأعمال الحربية زالت، لكن نزاع الهويات الطائفية والجماعاتية ما يزال قائمًا في لبنان

اقرأ/ي أيضًا: رواية "فقدان".. نازك سابا يارد تحصي خسائر أبطالها

  • سؤالنا الأخير؛ من يقرأ رواية الشباب اللبناني اليوم، يُلاحظ الجنوح الكبير لا لكتابة الحرب الأهلية فقط، وإنّما لتقديم أعمالٍ روائية بشخصياتٍ معطوبة ومشوّهة. كما نُلاحظ إلى حدٍّ يحضر الجنس في حكايات هذه الروايات، أو المجتمعات التي تدور فيها الأحداث. كيف ينظر جبّور الدويهي إلى هذا الأمر؟ وهل يشغل الجنس المجتمع اللبنانيّ إلى الحدّ الذي نراه في هذه الروايات؟

الروايات الجديدة، الشابّة، تفرد حيّزًا أوسع للجنس من روايات جيلنا، ويترافق ذلك بطبيعة الحال مع تركّز الرواية على سيرة الفرد، وربّما هزيمته كما هي حال الروايات عمومًا. فالروائي اللبنانيّ والعربيّ الصاعد، يحمل هويته وأوهامه وتخيّلاته وثقافته الشخصية كموارد رئيسية للكتابة، ولو أنّ الحرب الأهلية أو الثورات العربية والحروب تشكل خلفية لا بدّ منها في المشهد. والصحيح أنّ رواية الأنا تتكاثر مقابل حكاية الجماعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فوزي ذبيان.. ديستوبيا الضاحية الجنوبية

ربيع جابر.. الفتنة البيروتية