16-يونيو-2022
الفنان بطرس المعري

الفنان بطرس المعري

في الأسبوع الفائت، نشرت مقالة حول تجربة الفنان السوري بطرس المعري أردتها أن تكون مقدمة لهذا الحوار، الذي أجريناه على دفعات امتدت منذ بداية الكورونا وانتهت هذا الأسبوع، وبقينا خلال ذلك الوقت نضيف ونحذف ونعيد الصياغة. وحين جاء إصدار المعري لكتابه الجديد "رؤيا الدمشقي", وجدنا أنه حان وقت النشر.

جرى القسم الأكبر من الحوار في مرسم المعري في مدينة هامبورغ، إلى جانب أمكنة أخرى، منها الإنترنت. لهذا حاولنا الحفاظ على روح المحادثة التي عشناها، ليكون للقارئ أن يعيش أقرب قدر ممكن منها، وليحسّ بالقرب من فنان يروي ويتكلم ويمزح، من بين لوحاته.

بطرس المعرّي فنان تشكيلي من سوريا. تخرّج من كلية الفنون - قسم الحفر بجامعة دمشق عام 1991، قبل أن يكمل دراسته في فرنسا، ولم يعد إلى سوريا إلا العام 2008 بعد أن نال شهادة الدكتوراه، ليدرّس في كلية الفنون لمدة 4 سنوات قبل أن يهاجر من جديد العام 2013 إلى هامبورغ الألمانية التي يقيم فيها حاليًا. أقام العديد من المعارض في بلدان عديدة.


  • دعنا نبدأ من سؤال بسيط جدًا، لكنّه صعب أيضًا؛ صعب لأنّ كلّ واحدٍ منّا عنده جواب مختلف، ومرتبط بحكاية ما: متى وجدت نفسك فنانًا؟ وما الذي يعنيه لك ذلك؟ نتحدّث عن المرحلة التي يظنّ الإنسان فيها أنّه قادر على فعل معجزة. أي عندما يكون الفن ممزوجًا بالوهم والأسطرة، قبل التحوّل إلى الواقع؟

في العادة، تكون الإجابة سهلة عندما يكون السؤال نفسه قد تكرّر أمامك أكثر من مرّة، وبالتالي تصير مُعتادًا على الإجابة عليه بسهولة. متى وجدت نفسي فنانًا؟ أعتقد أنّ الأمر حدث دون قرارات، وتدرّج بشكلٍ طبيعي إلى أن وصلت إلى مرحلة بات فيها الرسم مهنتي، بالإضافة إلى الكتابة القليلة والقليلة جدًا. ولكنّني أستعيد حادثة حصلت في الصف الرابع، عندما أعطتنا المعلمة وظيفة، على ما أعتقد خطوطًا وأشكالًا، وأنجزتها بشكلٍ جيد دفعها للاعتقاد بأنّني استعنت بمسطرة أو ممحاة، ولكنّ زملائي حينها دافعوا عنّي، وأكّدوا لها أنّني أرسم بشكلٍ جميل. حينها، عرفت أنّني أملك موهبةً أتميّز بها عن الآخرين.

بطرس المعري:  أعتقد أنّ المرحلة التي وصلت إليها الآن، كانت بداياتها بين عامي 1998، و1999، عندما كنت أدرس الفن الشعبي

كان الرسم متوازيًا مع اهتمامي بالأدب والقراءة، وكنت آنذاك أقرأ أكثر مما كنت أرسم. أما الرسم نفسه، فأذكر أنّني في تلك الفترة رسمت شخصية "غراندايزر" وشخصيات كارتونية أخرى من مجلات كانت تأتي من لبنان، يجلبها صديقي الذي اشترى منّي آنذاك بعض تلك الرسومات.

  • هل كنت تعمل على مجلّتك الخاصّة؟

لا أبدًا. رسمت تلك الشخصيات لأنّه هو من طلب منّي فعل ذلك. وحينها، شعرت أنّني أملك قدرة لا يملكها الآخرون، ممن أعرفهم طبعًا. وفي مرحلة الإعدادية والثانوية، كانت هذه القدرة أو المهارة تنمو ولكن ببطء، إلى أن قرّرت أخيرًا دخول كلية الفنون الجميلة بعد الثانوية العامّة التي لم تكن فيها الخيارات كثيرة، دون أن يعني ذلك أنّني كنت أودّ أن أصير فنّانًا، أو أني قد دخلت الكلية على هذا الأساس.

نجحت يومها في مسابقة الفنون، وكنت أريد دخول قسم التصوير، ولكنّ العلامات أتاحت لي الحفر فقط، وكنت فيها من الأوائل. المهم عندي أنّني اخترت الرسم، ولم أملْ إلى الديكور أو الإعلان الذي كان يستهوي غالبية طلاب كلّية، باعتبار أنّ لها سوقًا وقيمة مادّية معينة.

أذكر الآن أنّني، حتّى ذلك الوقت، وبعد الانتهاء من الدراسة أيضًا، لم يكن هناك شيء واضح أمامي. تخرّجت من الكلية وأنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية، رسمت بعض الأشياء التجارية التي كنت أؤمن من خلالها مصروفي، كما كنت قد بدأت برسم بعض اللوحات، وشاركت في معرض مشترك في صالة افْتُتِحَت بالقصّاع لفترة قصيرة جدًا، عرضت فيها لوحات أثنى عليها بعض الزوّار والصحفيين، لأنّني كنت وقتها أمزج بين الرسم بقلم الحبر الأسود وبين الألوان المائية، قبل أن أبدًا بعدها بالخلط بين المائي والغواش بشكلٍ قريبٍ من الانطباعية؛ ضربات سريعة، وألوان فَرِحة. ولكنّني لم أكن حينها أملك مرسمًا خاصًّا، أو مكرّسًا كلّ وقتي للرسم أيضًا.

بطرس

إلى أن بدأت العمل في شركة إعلانات، ولم أكن حينها أملك أي خبرة في هذا المجال، ولكنّني قلت أجرب.. وبات لدي مهنة فنّية نجحت فيها. وفي كلّ الأحوال كان آنذاك العمل جماعي، بحكم وجود مصممين آخرين، واقتراحات الزبون وإرشاداته. ولكن، رغم ذلك، وجدت نفسي أقدّم أعمالًا وأفكارًا أرضت العملاء، وأنّ الأفكار نفسها جاءت من القراءة والأدب العربي والتاريخ والقراءات الساخرة أيضًا، عدا عن أفلام الكارتون التي تمنح العمل القليل من حس الفكاهة.

بعيدًا عن الشركة، كنت مستمرًا في الرسم، ولكن بشكلٍ خفيف. وحين سافرت إلى فرنسا لمتابعة الدراسة، لم أتوقّف أيضًا، وتمكّنت حينها من إقامة معرضي الأوّل في جمعية أسّسها سوريون ولبنانيون في العاصمة باريس تحت اسم "أربيسك"، ومن بعدها، أقمت عدّة معارض في المراكز الثقافية، منها معرض مشترك بعنوان "أنا والآخر".

  • في ذلك الوقت، هل كانت هوية لوحتك ظاهرة؟

لا، كانت لا تزال غير واضحة، وكنت حينها مستمرًا في التجريب. أعتقد أنّ المرحلة التي وصلت إليها الآن، كانت بداياتها بين عامي 1998، و1999، عندما كنت أدرس الفن الشعبي، وأتخيّل جو المقهى، لأنّ الموضوع بحد ذاته كان موجودًا فيه، قصّة الزير سالم، وعنترة، وألف ليلة وليلة والحكواتي الذي يرويها. ناهيك عن الزهر والأركيلة والناس الذين يقصدون المقهى للراحة النفسية وعدم التفكير بشيء إطلاقًا. كلّ هذه الأجواء بدأت حينها أرسمها بقلم الرصاص، وأنجزت أكثر من لوحة، قبل أن أنتقل للرسم بالأحبار الصينية، وكانت البداية عبارة عن نماذج، والنتيجة كانت أنّ الحبر الصيني كان أقوى.

بطرس المعري: لكوني ابن بيئة شعبية تربّيت ونشأت فيها،  تستطيع لوحاتي مخاطبة المثقفين والعامّة معًا

فكرة الحبر الصيني نفسها أعطاني إياها يوسف عبدلكي عندما حضر أحد معارضي، وخصّ برأيه لوحة مرسومة بالحبر الصيني دون غيرها، كي لا يقول بشكلٍ مباشر أنّ بقية اللوحات ليست جيدة. قال يومها إنّ اللوحة فيها "شحنة تعبيرية قوية"، وانتبهت حينها أنّه يقصد أنّ العمل القوي في هذه اللوحة تحديدًا. وبدأت منذ ذلك الوقت أرسم بالحبر الصيني، وعرضت ما رسمته مرّتين في غاليري خاص، كلود ليمان، كان يعرض حينها لأسماء عربية هامة كبن بيلا والعزاوي مما أعطاني دفعًا معنويا كبيرًا. بهذه الطريقة تحديدًا سارت الأمور، يعني دون تخطيط مسبق لأي شيء.

في باريس عملت على ثلاثة قصص أطفال، بالعربية والفرنسية، مأخوذة من التراث المحكي. حتّى الأساليب اشتغلت على أن تكون ثلاثة أساليب، الأول قريب من أسلوب الواسطي، والثاني قريب من جو برهان كركوتلي، أمّا الثالثة، فكنت أعمل على أن تكون خاصّة بي، تبعها فيما بعد خمسة كتب موجهة للأطفال العرب والفرانكفونيين أيضًا. وهكذا لم أكتشف آنذاك أنني فنان، لم أكن أمتلك الجرأة على قولها بالأحرى، ولكنني كنت أعرف أنّه لدي إمكانيات بدأت تظهر في أكثر من مجال، إلى أن اكتشفت أنّ الرسم واللوحة هي "أهم" ما يمكن أن أقدمه.

اكتشفت ذلك عندما عدت إلى دمشق، وبدأت التدريس في كلية الفنون. حينها بدأت بقطاف ثمار سنوات العمل في الرسم، المادية كما المعنوية. كما كانت اللوحة نفسها في ذلك الوقت قد بدأت تتبلور كذلك. وعندما جئت إلى ألمانيا، بحكم عائق اللغة والبلد الجديد، لم يكن أمامي الكثير من خيارات العمل. ولكن، ومن حسن الحظ، أنّ ما أنجزته في البلد، سوريا، وما أنجزته هنا أيضًا، بدأ يجد إعجابًا واهتمامًا عند الناس. صارت الصحافة تكتب وتصفني بالفنان. الشعور كان آنذاك بأنّني أيضًا أقدم للناس شيئًا لم يقدّمه الآخرون، ولا أعرف إن كان مُلاحظًا أنّ اللوحة التي أنجزها تُخاطب الساذج ابن الشارع والأمّي قبل أن تخاطب المتعلمين أو النخبة.

  • هل تعمل على ذلك بشكل مقصود؟

لا أستطيع القول بأنّه مقصود. يُمكن القول إنّ الأمر يعود لكوني ابن بيئة شعبية تربّيت ونشأت فيها، لكن بعد ذلك بات لدي مستوى من العلم والثقافة استطعت من خلاله مخاطبة المثقفين والعامّة معًا. وقد يرى البعض أنّ اللوحة التي أرسمها شعبية وبسيطة، حتى أن بعضهم يشعر أن بإمكانه صنع لوحات مثلها، ولكنّها ليس بهذه السهولة المتوقعة. هي لوحة يتفاعل معها المثقف والأمّي، وبالتالي أكون قد حققت بذلك شيئًا لم يلتفت إليه أحد آخر ربّما.

وفي الوقت نفسه، كنت أشتغل بذلك على ذاكرة تُحمى، بطريقتي، ودون أن أكون موثقًا.

  • ما هي الأشياء التي تمحو هذه الذاكرة؟

الزمن والتطور التكنولوجي والتغير الديموغرافي والحرب وأشرارها. وهذه الأخيرة جاءت لتسرّع من وتيرة التدمير. انظر لما حدث ويحدث في بلداننا، فلسطين ولبنان وسوريا. هذا خطير بالطبع، لكن الأخطر من هذا كله هو ما يمارسه بعضنا من "استقالة" من تلك الذاكرة، إما خوفًا من ثقلها، أو بحثًا عن ذاكرة جديدة في مكان جديد للهروب من واقع لا يعجبه أو لا يناسبه.

بطرس المعري: الحرب، كما تأتي بأمرائها، فهي تأتي بمثقفيها، تصبح مهمة هؤلاء تمهيد الطريق لمزيد من التدمير ولبناء ذاكرة تناسب كل فريق. الذاكرة هوية

الحرب، كما تأتي بأمرائها، فهي تأتي بمثقفيها، تصبح مهمة هؤلاء تمهيد الطريق لمزيد من التدمير ولبناء ذاكرة تناسب كل فريق. الذاكرة هوية.

  • لنعد خطوة إلى الوراء. هل هناك نقاط تحول أثّرت على إنتاجك؟ سواء كانت أعمالًا فنّية أو أشخاصًا؟ دعنا نتحدث عن أبرز علامات هذا التحول.

أعتقد أنّ المسؤول عن تغيير الكثير من الأشياء في تجربتي هو دراسة الفنون الشعبية، ومشاهدة أعمال أبو صبحي التيناوي وبرهان كركوتلي (ومن ثم يوسف عبدلكي) بشكل مكثّف. في البداية كنت أراها كما أرى أعمال أخرى بطريقة لنقل إنها "من الخارج". ولكن رأيت تلك الأعمال بالطريقة الصحيحة، عندما تشبّعت بهذا الجو، البيئة الشعبية، وتعمّقت في قراءته لأنّ كلّ عناصره تعني لي الكثير، مثل المقهى والحكواتي والأركيلة والتسلية وغيرها. ومعها الشام أيضًا، لأنّ قهوتي نفسها موجودة في الشام!

وبالتالي كل ما سبق لعب دورًا مهمًا في توليد أفكار الأعمال التي تناولت فيها هذا الجو. وأعتقد أنّه كان هناك، وراء المشهد الشعبي الظاهر، نوع من النقد الاجتماعي وأحيانًا السياسي في اللوحة، يستهدف الناس الذين يمضون أوقاتهم في المقهى دون فعل أي شيء آخر. ومن هذه الأجواء بدأت برسم الشخصيات التي تراها في لوحتي، أشخاص دون ملامح يدخنون الأركيلة. بمعنى آخر، لم يكن هناك أي موضوع آخر معين، وكنت أجلب كل شيء وأضعه داخل المقهى: سياسة، سخرية، حكايات قديمة أمزجها بما يحدث اليوم. وكل ما سبق بدأ يظهر في 1999.

بطرس 2

بالنسبة إلى باريس، والمعرض الذي أقمته عند غاليري "كلود ليمون" سنة 2004، كان خطوة أخرى. الفكرة أنّه كان قد مضى على وجودي هناك 6 سنوات تقريبًا، وأنّ العين تعلّم الرسام كما تعلّمه اليد والممارسة، الموضوع مشابه لموضوع القراءة، فكما تقوي القراءة لغتك تساهم الرؤية الجيدة في تحسين أعمال الرسام أيضًا. وفي باريس ترى أشياء كثيرة لم ترها من قبل، وأنا لا أقصد هنا فقط المتاحف وصالات العرض، بل حتى المجلات وأغلفة الكتب وواجهات المحلات والإعلانات التجارية، تشكل جميعها خزّان مشاهد بصرية، نتج عنه بالنسبة إلى تجربتي أنّ الألوان بدأت تظهر أكثر، وتخفّ الضجّة الموجودة في اللوحة، وأنا أعتقد أنّ التحوّل كان هنا.

عدا عن ذلك، هناك الكثير من الأعمال التي أشتغل عليها بحيث تكون بأحجام صغيرة، وتكون عادةً أقرب إلى رياحة للعين ولليد، أو استراحة ما بين الشوطين. أعمال سريعة بفكرة بسيطة، وتعتمد على الكولاج والتنفيذ السريع أيضًا. وهذه الأعمال عبارة عن مزيج المقدرة على الرسم، بالإضافة إلى المخزون الأدبي أو الفكري أو الثقافي، وبالتالي خرجت انطباعاتي عن الإقامة في باريس في مجموعة أعمال سميتها "دفتر إقامة"، عرضتها في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق وكانت أول معارضي الفردية هناك. وفي هذه الأعمال سيكون من السهل ملاحظة أنّ هناك أساليب ومواضيع متعددة، وألوان مختلفة عن المعتاد.

بطرس المعري: بالنسبة لغيرنيكا، استعملت بعض مفرداتها في بعض أعمالي الأخيرة، كما أعدت سابقًا صياغة بعض أعمال المعلمين بطريقتي، كالغداء على العشب لمانيه على سبيل المثال، هو حوار معهم أعود إليه من وقت إلى آخر

بعد هذه التجربة اشتغلت على "تجليات في أوقات الفراغ"، وهي أيضًا مجموعة من اللوحات الصغيرة في دفتر كان يظلّ معي أثناء الاستماع إلى نشرات الأخبار من مذياع كان في مرسمي في 2011. والرسم آنذاك كان بمثابة تفريغ لشحنات الغضب التي كانت تبثّها نشرات الأخبار. وكانت لكل لوحة فكرة أو موضوع، منها: "الغيمة السودا، وحبّوا بلدكم، ولا تنسوا فلسطين، وممنوع التدخين...". كانت بداية الخوف من الخراب القادم.

  • ولكن هذه الأعمال كانت على هامش عملك الأساسي، بمعنى أنّك فنّان لديه متن يرافقه هامش، أو هوامش أيضًا. وأعتقد أنّ علامات المتن عندك، علاماته البارزة التي يمكن أن تتشعّب، هي ثلاثة بشكل رئيس: المقهى، غرنيكا، الكتاب المقدس. وأرى أنّك دائمًا تعود وتجمع هذه الأشياء معًا في إطار أو قماشة دمشق، وعندما تجتمع، تحضر فيها حكاية.

نعم، هناك حكاية دائمًا. في البداية كان المقهى هو الحكاية أو ما يدلّ عليها، ولكن بعد ذلك تحرّرت منه، وابتعدت عنه قليلًا. أول ما اشتغلت عليه في الشام هو الجامع الأموي، ولكنّني في المقابل لم أتمكّن من رسم دمشق القديمة، لأنّني لم أعرف كيف أرسمها باستخدام أسلوبي، كما لا أريد أن أبتذل الموضوع، إلى أن رسمت مرّة على سبيل التجربة، وكانت البداية، لوحة صغيرة لنقل شاعرية لباب توما، المكان الذي ولدت ونشأت فيه، ورأيت حينها كيف تفاعل الناس مع اللوحة. هذا شجعني على المتابعة. وبالمناسبة، كان هناك حينها شيء يدفعك للشعور بأنّك لا ترسم لك فقط، دون أن تكون بالضرورة تلبّي رغبات غيرك.

أما بالنسبة لغيرنيكا فاستعملت بعض مفرداتها في بعض أعمالي الأخيرة، كما أعدت سابقًا صياغة بعض أعمال المعلمين بطريقتي، كالغداء على العشب لمانيه على سبيل المثال، هو حوار معهم أعود إليه من وقت إلى آخر.

وبالنسبة للكتاب المقدس فهو كتاب الحكايات الأول الذي عرفته، أعدت صياغة بعض مواضيعه الكبيرة بطريقتي، كالصلب والعشاء الأخير، كذلك تناولت موضوع نزول المسيح في آخر الزمان على مئذنته الدمشقية بحسب الرواية الاسلامية. لقد أصبح المسيح دمشقيًا.

  • لكن هذا يعود إلى مهارتك في استخدام المنصات، واستثمارها في خدمة أعمالك، في مقابل فنّانين لا يعرفون أبجديات العمل عليها!

صحيح، وجودي أكبر من وجود غيري، لكنني أتحدث عن الجمهور المحيط بي، والذي لن يجد في لوحة فاتح المدرس أو لوحة أسعد عرابي ما يجده في لوحتي. وهنا لا أقارن أعمالي بأعمالهم، لأنّهم سبقوني. لكن أتحدث عمّا يعني الناس البسطاء الذين لن يميزوا بين لوحة نزار صابور أو الزيات أو نذير نبعة...

ولا تنسى أن هذه المنصات قد أصبحت صالات عرض. لا يمكنك أن تعمل كفنان من دون صالة عرض أليس كذلك؟ هذه مشكلتهم وعليهم حلها.

بطرس المعري: المنصات أصبحت صالات عرض. لا يمكنك أن تعمل كفنان من دون صالة عرض أليس كذلك؟

 

فكرتي من التواجد في المنصات هي محاولة لأن لا نتركها للمخربين والفاشلين، ولا لبث الكراهية والحقد أو لنشر الابتذال. الأمر بالنسبة إلي ليس تسويقًا بحتًا لما أنجزه من أعمال، إنما مسؤولية. فكما تعلم الناس في وقتنا لا تقرأ الكتب ولا الصحف، بل تمضي وقتها في متابعة هذه المنصات بغثها وثمينها.

  • وبالتالي، هل تعتقد أنّه مطلوب منك أن تكون قريبًا من الناس؟

ليس مطلوبًا من الجميع أن يكونوا قريبين من الناس. لكن هناك أشخاصًا علاقتهم مع المجتمع أو مع البيئة الشعبية قوية جدًا، خذ كركوتلي مثالًا. وهذا لا يعني أنّنا نحب المجتمع أو البلاد أكثر من غيرنا، ومن الممكن أنّنا أيضًا لا نقدّم أشياء أهم مما قدمه الآخرين، ولكن أقل ما في الأمر أنّنا نسهّل دخول اللوحة إلى مزاج العامة. على سبيل المثال أعرف أشخاصًا قلما يعيرون الفن اهتمامًا لكنهم يتفاعلون بحماسة مع اللوحة، وهذا تحديدًا ما يجعلني سعيدًا.

وربما الأفكار التي نحملها والأسلوب الفني الذي نمارسه في العمل يجعلنا قريبين من الناس، هذا ليس قرارًا ولا خيارًا، في البداية على الأقل. لكن يحدث أن تجد نفسك ملتزمًا بهم، بشؤونهم الصغيرة وبقضاياهم الكبيرة، فتتورط إن كنت ميالًا إلى هذا الالتزام، أو لنقل إلى ممارسة دور "المتعلم" الذي يريد أن يمسك بيد من هم أقل منه تعلما أو تنورًا.

  • الكتاب المقدس يقودنا إلى فكرة القديسين، والأجواء المسيحية، وفكرة أن تصنع هالة لكلّ الشخصيات. ما قولك؟

الأجواء الدينية حاضرة في لوحتي، إن كانت مسيحية أو إسلامية، هي جزء هام من ثقافة البلاد، والنبع الذي يغذي ثقافتي بالتحديد، وبالتالي هويتي التي تنوس ما بينهما. الهالة تحديدًا جاءت فكرتها من أعمال الواسطي، لأنّه كان يضع هالة لأشخاص عاديين في منمنماته. في الأيقونة هي حصرًا على رأس القديسين. الهالة في كثير من الأحيان ليست أساسية، تكون حلًا في تكوين اللوحة، قد تحضر في البداية ولا ألبث أن أحذفها إن خلخلت، مع التقدم في العمل، الجو العام للوحة. ولا شك أنني أحيانًا ألجًا إلى وضع هالة حول رأس بعض الأشخاص المحببين، كتمييز لهم وليس كتقديس. علمًا أنني أحيانًا أتقصد بها تقديس بعض المهمشين!

بطرس 3

  • حسنًا، الهالات من الواسطي، وإلى جوارها تحضر شخصيات من غيرنيكا بيكاسو، وهناك الحيوانات التي يمكن أن نعيدها إلى أكثر من مصدر، وهناك الكثير من الكلام المكتوب. إذًا هناك أشياء مختلفة تعمل على خلطها لأجل أن توصل مقولتك أو فكرتك، وهذا ما يجعلنا نَعْرِف لوحتك من بين لوحات الآخرين.

بدأت قبل ثلاث سنوات بإنجاز مجموعة أعمال صغيرة نسبيًا فيها ثور برأس رجل ينظر إلى المتلقي، مع كرسي ومع كرة أحيانًا أو قاربًا ورقيًا، يقف وحيدًا تائهًا في فراغ المكان. وهي مجموعة سابقة للوحات الثلاثية الكبار التي يمكن أن نقول عنها تصف الحرب وتبعاتها وفيها استعنت بعناصر من غرنيكا لنقول إن الحرب هي مأساة إنسانية لا تخص بلدًا واحدًا أو شعبا واحدًا، فكان منها "الثلاثية السورية"، أو المعمعة كما يحلو لي تسميتها، وثلاثية "وا حبيبتي" لأب قد فجع بابنته، وثلاثية "الأم الحزينة" وهي امرأة مستلقية وفي خلفية المشهد قوارب ورقية صغيرة هي كناية عن قوارب الهروب، وهكذا تصبح الأم هي البلد التي يرحل عنها أو تخسر أبناءها.

بطرس المعري: الأجواء الدينية حاضرة في لوحتي، إن كانت مسيحية أو إسلامية، هي جزء هام من ثقافة البلاد، والنبع الذي يغذي ثقافتي بالتحديد، وبالتالي هويتي التي تنوس ما بينهما

في الحقيقة، إن جمع المتناقضات من العناصر في مكان واحد رهان يحلو لي كسبه. ألا تأتي بالمتوقع، وتجعل منه في نفس الوقت مألوفًا لا تناقض فيه.. هو بداية صياغة حكاية لا تشبه الحكايات، كحكاية البلاد بكل تناقضاتها. هذا يحرض عقل المتلقي على التفكير أيضًا.

  • ما هي الأفكار التي تريد أن توصلها من خلال هذه الأشياء؟ أو ربّما باتت عناصر حاضرة عندك تستخدمها من دون أن تفكر بالموضوع؟ لا سيما أنّك برزت وعُرفت بهذه الأعمال التي هي من صنعت لك شعبية بين الناس.

تتغير الأفكار والرسائل مع الوقت، كما تتغير الاهتمامات والمواضيع. ورغم أنني لا أجد في اللوحة خطابًا سياسيًا أو اجتماعيًا ولا وثيقة تاريخية، إلا أنني لا أستطيع أن أنفصل عن واقعي، لا سيما حاليًا، وأرسم الطبيعة والزهور.

ما صنع شعبية لي، إن كانت حقًا موجودة، هو أنني أتكلم في كثير من الأحيان بلغة العامة وعنها، أن هناك من يستمع إليهم ويشاركهم حياتهم وأحلامهم البسيطة، ولم تصنعها تلك العناصر ولا الموضوع.

في المجمل، كل لوحة هي بنت ساعتها، ولكل ساعة مزاجها. ربما حادثة أو صورة أو قصة توحي إليك بعمل تتبعه سلسلة أعمال… لا يوجد دائمًا تصور واضح أو خطة للعمل.

  • نلاحظ أنّك تمنح الشخصيات نفسها صفات مختلفة، فتعذو ملاكًا مرة، ومسيحًا في مرة ثانية، ورجل شارع عاديًا في ثالثة. إنك تضع هذا الوجه ذا الشكل اللافت في أكثر من سياق، لنغدو أمام مجموعة سياقات تندرج في إطار مقولات لها علاقة بالذاكرة السورية، أو الدمشقية.

أعتقد أن الأمر يتعلّق بالمزاج الذي يتحكّم بما أريد رسمه، أو ما يخطر في بالي فجأة، أن أرسم دراويش أو غير ذلك.

  • ولكن لماذا تبقيهم هم نفسهم؟

ليست قصة أن الشخصيات نفسها، ولكن هذا الشكل أقوم برسمه بهذه الطريقة تحديدًا. ألا ترى مثلًا تشابها في وجوه فاتح التي يرسمها؟ ما يهم في النهاية ليس التشابه ولا الشكل، صورة العمل ككل، أصالته وفرادته.

بطرس المعري: كل لوحة هي بنت ساعتها، ولكل ساعة مزاجها. ربما حادثة أو صورة أو قصة توحي إليك بعمل تتبعه سلسلة أعمال

 

لكن إذا أردت أن نتفلسف، فلنقل لقد أصبح لنا وجها واحدًا ربما متشابهًا. وما الغريب في ذلك، فزمننا زمن قولبه وتعليب الشعوب وإفراغها من خصوصيتها أو نكهتها... عداك عن عمليات التجميل التي تنتج نساءً متشابهات الحواجب والأنف، أنف أشخاصي مايزال مائلًا معكوفا لم ولن تطاله تلك العمليات!

  • كيف وصلت إلى هذا الشكل؟ أقصد، كم أخذ منك؟

كما ذكرت آنفًا، بدأت العمل عليه في سنة 1999، مصادفة خرج بهذا الشكل، لم أعد أتذكر إن كانت هناك فكرة من ورائه أو مرجعية له… ما أتذكره انني كنت أرسمهم بطرابيش تركية وان بعض العيون كانت تأخذ شكل حجر لعبة النرد، والأسنان تظهر أحيانًا كمدماك من الحجر... وبدأ يتطوّر إلى أن وصل إلى المرحلة التي هو عليها الآن. وفي بعض الأحيان اللوحة نفسها تفرض عليك أن ترسمه بشكل آخر.

  • هل يرتبط الحضور الكبير لمدينة دمشق في أعمالك بكونك بعيدًا عنها؟ بمعنى أن الرسم هنا يأتي كنوع من التعويض؟ على سبيل المثال قضيت فترة طويلة في باريس، لماذا لم ترسمها؟

صحيح، احتمال كبير. بعد حريق نوتردام أنجزت لوحتين، لأنّ الحادثة كانت محرّضة بفعل قساوة المشهد، خصوصًا أنّني أعرف المكان، وكنت أمرّ جانبه دون أن أكترث له، ولكن عندما رأيتها وهي تحترق، لم يكن الأمر سهلًا، انتبهت إلى أن علاقة قد صارت بيننا، خفية قوية لم أدركها إلا بعدما فارقتها. ولكن بشكل عام أنا لست من باريس، ولا تعني لي المدينة شيئًا والعكس صحيح أيضًا. وأنا لم أخذ من ثقافتها إلا القليل، وليس للدرجة التي تدفعني لرسمها كما رسمت الشام. لن ننسى هنا أيضًا أنني كرست معرضًا كاملًا عن إقامتي فيها. لكن ربما هنا كنت أتحدث عن مشاهداتي كسائح فيها أو كعابر سبيل… عليك أن تعرف الأمر جيدًا حتى تنجح في تصويره.

بطرس 4

  • يُقال إنّ العمل الفنّي لغة بصرية، فما هي مفردات هذه اللغة عندك؟

بالنسبة إلي، التوازن في اللوحة مهم جدًا، أي توازن الكتل، كذلك هارموني الألوان بحيث لا تنفر العين من المشهد.

الفكرة تكون حاضرة، لكن لا أبدأ برسم اللوحة عبر دراسة مكتملة، وإنّما أترك لسير العمل القيادة، فتبدأ المفاجأت السعيدة وغير السعيدة أيضًا. حينها تبدأ أشكال بالدخول إلى اللوحة، بينما تخرج أشكال أخرى، وتنتهي العملية بتأمّل اللوحة للتأكد من أنّ كل شيء على ما يرام. هناك شيء من العراك الممتع مع العناصر والألوان حينما لا تعرف إلى أين ستذهب أو ستنتهي.

أما ما تجده من كتابات، فهي جزء من نسيج اللوحة وليست مضافة أو دخيلة عليها.. لها أحيانًا معنى.

  • هل تعلّمت كل هذا من أبو صبحي التيناوي؟ أإلى هذه الدرجة أثّر فيك؟ كيف اكتشفته؟ في فترة مبكرة أو متأخرة؟ وكيف بدأت فكرة أن تُدخل نكتة على اللوحة؟ لا سيما أن التيناوي لم يكن يفعل ذلك؟

الفكرة أنّك تعيش في حارة شعبية، وترى أناسًا بسطاء بطباع مختلفة، وتسمع كلامًا مضحكًا. وإذا كنت تملك حس الدعابة والسخرية، فإنّ هذه الأجواء تنمو مع عملك وهنا هو اللوحة، وبالتالي، لماذا لا أكون فنانًا بالشكل الذي أنا فيه كإنسان عادي؟ لماذا لا تكون لوحته مثله؟ حينها تكون صادقة أكثر. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، شكّل كلّ ما سبق عندي مخزون أستعين فيه في بناء اللوحة، بما في ذلك حكايات عنترة وأبو صياح وغيره. وبالنسبة لأبو صبحي التيناوي الذي كان يسمّي الأشياء في اللوحة، أعتقد أنّه كان يحاول لعب دور التلفزيون أو الراوي بشكلٍ مصوّر.

بطرس المعري: يقولون لك عندما تكتب شعرًا أن هناك أشياء زائدة لا حاجة لها. ولكن عندما أبني قصّتي أبنيها تمامًا كمصوّر لا يستطيع تجاهل "الزوائد" أو التفاصيل الصغيرة

كركوتلي أيضًا كان يكتب، وكان يضع قصته حول اللوحة. هناك لوحة من لوحاته أحبّها واشتغلت على نسخها أكثر من مرّة بطريقتي الخاصّة، وهي قصة رجل يدعى أبو فهد الميداني الذي وجد كنز في سقف منزله، ليتزوج بعدها أربع نساء، يتخلين عنه عندما يفلس.

  • أسلوب التنكيت والسخرية عندك غريب أحيانًا. والفن عادةً يأتي لتصفية هذه الشوائب، بينما تستخدم أنت الشوائب نفسها في بناء اللوحة.

صحيح. مثلًا، يقولون لك عندما تكتب شعرًا أن هناك أشياء زائدة لا حاجة لها. ولكن عندما أبني قصّتي أبنيها تمامًا كمصوّر لا يستطيع تجاهل "الزوائد" أو التفاصيل الصغيرة، على فكرة، شيطان التفاصيل عندي لطيف قريب من القلب. على سبيل المثال عندما تريد تصوير حارة دمشقية، سوف تشاهد أشياء عديدة أمامك؛ حاوية قمامة، عامود إنارة مكسور، لمبّة معطّلة. أمّا لماذا أضع هذه الأشياء في اللوحة، فهذا ليس من شأن الآخرين، وإنّما شأن خاص لأنّني أنا أريد فعل ذلك.

  • نرى الفكاهة والسخرية حتّى في العشاء الأخير. وبالتالي، بات هذا الأمر علامة عندك، بمعنى أنّك حتّى في مواضيع تراجيدية تُدخل عنصر السخرية.

ربما هو تصوير الأشخاص كما أراهم، بسيطين وربما في حالة مَرحِ ما قبل "مجيء الساعة"…

  • ولكن في بعض الأحيان يكون جو لوحتك كئيبًا، وألوانك كذلك. وأحيانًا يكون مناخ اللوحة أيضًا مناخَ رعب، وتكون الفكاهة حاضرة فيها، وهذه مفارقة غريبة جدًا.

هذا نتيجة أنّنا نعيش الآن في الوقت الراهن أكثر من صراع. وفي هذا السياق، هناك ثلاث لوحات كبيرة أنجزتها عام 2009، (دعوتها حرب 1 و 2 و 3)، أي عندما لم يكن هناك حتّى علامات لما يحدث الآن. واللوحات انعكاس لرؤيتي أو لإيماني بأنّ لا تغيير سيحصل إلا بهذه الطريقة، أي العنف وإراقة الكثير من الدماء (ولست سعيدًا بأن رؤيتي قد تحققت). ولا أقصد هنا أنّني تنبأت بكلّ ما يحدث الآن. وبالتالي التراجيديا موجودة في اللوحة، خصوصًا بعد الغربة وعدم اليقين بأنّك هنا أو هناك، في البلد. أما عن الفكاهة التي تتكلم عنها فهي ربما كوميديا سوداء أو هي سخرية تلزمنا لاستعادة التوازن، لا أعرف إن كانت موجودة حقًا، ولكن إن رايتها أنت فهي إذن موجودة… "هيك طلعت" أصبح!

  • في لوحاتك وتصميماتك التي تنشرها في الفيسبوك، تطرح علينا السؤال التالي: هل يوجد في داخلك رسام كاريكاتير؟

مارست رسم الكاريكاتير في جريدة الموقف الرياضي لما كنت طالبًا في السنة الثالثة، كانت الرسومات بدائية ولم أطورها كما لم اتابع في هذا الخط. أما بالنسبة إلى صفحة "أبو عذاب وأصدقائه" الكاريكاتيرية، فهي أعمال غرافيكية مشغولة بشكلٍ سريعٍ، لأنّ هدفي إيصال فكرة مُعيّنة للناس بأقلّ وقتٍ ممكن، وببساطة.

  • هل المنتج الفني هو استيراد من العالم الخارجي، أم تصدير لعالمك الداخلي؟

بعض الأعمال التي أنجزتها، رسمتها مستندًا إلى العين أو القراءة أو التجارب الشخصية، وكذلك الاحتكاك بالناس. وبالتالي، يمكن القول إنّ هذه الأشياء التي تشكّل دون شك مخزونًا أستند عليه، بالإضافة إلى أن طبيعتي هي من ينجز لوحتي أو رسمة الكاريكاتير أو القصّة الصغيرة، وأحيانًا الكتابة أيضًا. وأنا أعتقد أن الفن أو العمل الفنّي هو حصيلة تجاربك وثقافتك وبيئتك، وإذا كانت اللوحة برأيي تُنجز بعيدًا عن هذه الأشياء، فهي غير أصلية. فمن غير المعقول أن يرسم فنان لوحة ما ونرى مفرداتها أو عناصرها في أعمال فنان آخر من مكان وبلد وثقافة مختلفة. ما معناه أنّك لو قدّمت نفسك للآخر بأعمال لديه الكثير منها، فأنت لم تفعل شيئًا، ولا خصوصية للوحتك بهذا الشكل، ولا مصدر أيضًا.

بطرس المعري: أعتقد أن الفن أو العمل الفنّي هو حصيلة تجاربك وثقافتك وبيئتك، وإذا كانت اللوحة برأيي تُنجز بعيدًا عن هذه الأشياء، فهي غير أصلية

المنتج الفني هو عالمك الداخلي، إن أسعفتك موهبتك على تصديره للآخرين.

  • كيف جاءتك فكرة كيوبيد الدمشقي؟

كنت أرسم لوحة ولم تنجح، فقمت بتمزيقها، ومن بين قطعها كانت هناك قطعة مرسوم عليها ملاك يمسك كبادة. حينها خطر في بالي فكرة كيوبيد الدمشقي، وصارت الفكرة فيما بعد نصًا صغيرًا فعنوان كتاب.

  • الكتاب تعتبره شعرًا أم نثرًا؟ أو أنّك لا تسير على تصنيف معين؟

لا أعرف إن كان شعرًا أو نثرًا، ولكنّه نصوص، وأنا متمسك بهذه التسمية، لأنّها فعلًا نصوص خفيفة على المتلقي، لا سيما ممن يتهيبون الإمساك بكتاب لقراءته. وأنا أردت منه في الواقع أن يكون الكتاب وسيلة يتصالح من خلالها الناس مع القراءة. عندما ستقول إن هذا شعر، فهذا يعني أن صاحبه هو شاعر، وهو لقب كبير لا أستطيع أن أشاطره المتنبي أو محمود درويش أو أنسي الحاج شاعر…

  • لكننا نرى أنه في الكتاب الجديد "رؤيا الدمشقي" ثمة طغيان للقص، حتى إنك تضع عنوانًا فرعيًا للكتاب هو "قصص الخوف ورسوماته"، فهل أمر التصنيف أكثر تحديدًا هنا؟ وهل شعرت في هذا العمل برغبة بالحكي أكثر؟

هو متابعة لما بدأته في كيوبيد الدمشقي: صناعة كتاب فني، من ألفه إلى يائه. نصًا وتصويرًا، تصميمًا وإخراجًا. كتاب لمتعة العين كما لمتعة القراءة (وأرجو أن أكون قد توفقت فيهما). النصوص هنا تروي حكايات من لم ُيلتفت إلى حكاياتهم. أناس قد سمعت قصصهم هنا وهناك، جمعتهم المحنة كما فرقتهم لاحقًا جغرافيًا ولا أحد يهتم لحياتهم أو لمماتهم، لأنهم ليسوا بيادقَ فريق من الفرق في أرض المعارك. أردت أن أرصد حياتهم اليومية وعلاقتهم بالحدث الذي يجري على مقربة منهم أو وهم على بعد آلاف الاميال منه.

بطرس 5

الكتابان في النهاية هما جزء من مشروعي، إن أردت أن ترى المشهد كاملًا، فهو هنا كما في اللوحة كما في رسومات الكاريكاتير القاسية منها والهزلية.

  • ما الذي تغير في تجربتك، وما الذي ظل ثابتًا؟ لا سيما بعد كل ما حصل في سوريا؟

ربما بدأت الحكاية عندما أعدموا صدام حسين يوم العيد. لم أكن أكنّ له أي مشاعر، (لا هو ولا غيره من حكامنا)، لكن المنظر آلمني وأحسست بضعفنا. لقد أُكلنا، يوم أُكلت بغداد.

بطرس المعري: التيناوي فنّان من عامة الشعب، تعلم الرسم بطريقة ما نجهلها، ومارسه بطريقة حرفية. كان الأهم والأغزر انتاجًا، وربّما الوحيد أيضًا

كلّ ما حصل في سوريا جعلني أنتبه إلى أنّني كنت بعيدًا عن السياسة (كان هناك من يشتغل عني بها!). وفجأة، رأينا ارتدادات ما حدث وشكلها. ما الذي تغيّر؟ شعرت أولًا بأن بلدي، رغم الحضارات والتاريخ وكل هذه التفاصيل، ورقة خفيفة جدًا يلعب بها الجميع وهو غير قادر على تحمّل ضرباتهم.

لكن أستطيع أن أقول أن المسؤولية قد كبرت، رغم قلة حيلتك. فأنت لا تستطيع أن تحمل غير السلاح الذي تجيد حمله. سلاح ربما لا ينفع في وقت الجنون والتكبر والعناد. بعد كل هذا الخراب تتساءل عن جدوى الرسم والكتابة… بذات الوقت "بتحتار شو بدك تقدملهن"، ويمكن هنا نعود إلى بداية حديثنا عن الذاكرة وعن التوثيق، وهذه الأخيرة ليست مهمتي ولا مهنتي. لقد أصبح الأمر ملحًا على ما يبدو بعدما كان حنينًا وربما ترفًا… البلاد تتغير، أناسها وأحجارها، وأخشى أن يأتي اليوم الذي لا تعرف فيه الأجيال القادمة وجه هذه البلاد . الذاكرة هي هوية ونكهة، إن فقدتها تصبح بلا وجه أو وجه بلا معالم محددة.

  • أخيرًا، أبو صبحي التيناوي، ماذا يعني لك؟

في البداية كان جزءًا من الدراسة في الفنون الشعبية. هو فنّان من عامة الشعب، تعلم الرسم بطريقة ما نجهلها، ومارسه بطريقة حرفية. كان الأهم والأغزر انتاجًا، وربّما الوحيد أيضًا.

ورغم أنه كان يكرر ما عنده دائمًا من "كليشيهات" دون أن يبدع، إلا أنه، مع الأيام، قد أصبح معلمًا و "صاحب طريقة" بالنسبة إلي. وعندما أقول إنه معلم، فأعني بذلك التصوير الشعبي برمته. ما أخذته من هذا الفن عبر التيناوي هو السذاجة في الطرح كما في الرسم أحيانًا، وفكرة الكتابة على اللوحة. هذه الأمور التي عمقتها تناولي لتجربة الكركوتلي كسليل للتيناوي، أو لنقل الوجه الأكاديمي له. آمل أننا قد وضعنا ثلاثتنا حجر أساس أو طورنا قاعدة لمزاج دمشقي محلي في التصوير بطرق مختلفة مرجعيتها واحدة وتمتلك أصالة ما.

بطرس 6