30-نوفمبر-2018

المحبوب عبد السلام (ألتراصوت)

لم يستشعر المحبوب عبد السلام رئيس الرابطة العربية للتربويين والتنويريين بأي تناقض بين رؤيته "الحداثوية" والنهل "الانتقائي" من التراث الإسلامي، فهو ابن حركة إسلامية انقضت على الحكم في السودان لتسويق ما عرف بالمشروع الحضاري، لكنه تحين أوان الصراع بين العساكر والمدنيين للخروج نهائيًا من ذلك المأزق، منحازًا للإنسان عوض السُلطة، وقد انشغل بعد ذلك بالعمل البحثي والأكاديمي، الذي من دون شك استفاد بدوره من تراكمات تجربة صاحبه في ميدان السياسية والسلطة.

المحبوب عبد السلام: التاريخ فى تعريف فلاسفته هو تحذير شديد للحاضر من النتائج الوخيمة لتكرار أخطائه على المستقبل

يحاول المحبوب في هذا الحوار تفكيك إشكالات متصلة بالراهن العربي والأفريقي، والعلاقة مع الغرب عمومًا وكيفية التعامل مع إرث حقبة ما بعد الاستعمار والتحرر الوطني، والانقضاض مؤخرًا على الربيع العربي، ويقدم بالمقابل رؤية للخروج من الوحل السياسي والفكري، تستوعب المتغيرات في العالم، تحديدًا في مسألة الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان، دون طمس خصوصية المجتمعات المحلية، عطفًا على أنه كان جريئًا جدًا وهو يتقدم نحو اليسار، فما الذي يشغل باله أكثر؟

 ابتداءً، بما أنك تترأس الرابطة العربية للتربويين والتنويريين، ألا تعتقد أن العلاقة شائكة بين التنوير والتربية، ومن ثم هل كان دافع هذا المكون غلبة الخطاب المضلل أم أن الفئة المنضوية في حاجة لترابط نقابي؟

 الحاجة إلى الترابط التى أشرت إليها فى آخر السؤال والتى يسميها المفكر الجزائرى مالك بن نبي "شبكة العلاقات الثقافية" ربما تكون الدافع الأساس فى التجمع فى رابطة، فإذ ظلت الاتجاهات والقوى التى نصفها بالورائية الرجعية إلى الخلف والجامدة والظلامية ونصنفها إرهابية، تستعمل أحدث شبكات التكنولجيا لنسج أبشع شبكات الوحشية وتمتينها، فلماذا لا يترابط المفكرون والباحثون التنويريون فى شبكة علاقات ثقافية تتبادل الروئ والتجارب وتتعاون وتتناصر لخلاص العالم العربي المتوطن منذ قرون فى مناطق الضغط الحضاري الواطئ، تهب عليه رياح الحداثة فتربك جذوره وهويته، ثم تقوم عليه فى دورات أخرى هبات السلفية تريد أن تعيده إلى الماضى المستحيل.

اقرأ/ي أيضًا: الحقيقة غير الجذابة عن إفشال الربيع العربي

لماذا تأسست هذه الرابطة وما هي الفئة الغالبة المنضوية تحتها بما يمكن أن تؤثر في صناعة المستقبل؟

 الرابطة العربية للتربويين التنويريين تأسست منذ أربعة أعوام أو أقل بين منظمات عاملة فى مجال البحث ضمن منظمات "المجتمع المدني"، ولكنها انفتحت لتضم مفكرين وباحثين أفذاذ لهم إسهامهم فيما نسميه "القراءة التنويرية للدين"، والحق كما يقول الكاتب المستشار "عبد الجواد ياسين": لا يوجد مجال آخر يحتاج للقراءة التنويرية سوى الدين. الأمر الثانى أن أغلب المنضوين فى الرابطة يعملون فى التدريس بالجامعات فهم معنيون جدًا بالمادة التي تلقى وبأساليب التلقي أى بالمناهج وبالطلاب، وهذا يضعنا مباشرة فى مجال التفاعل والانفعال والحوار مع القوة الحية فى المجتمع أي الأجيال الجديدة، واحتياطي الأمل فى الظرف النفسي والتاريخي العصيب الذى تكابده الأمة العربية اليوم، كما يخرجنا فى ذات الوقت من التقوقع فى الأبراج الأكاديمية. وبالنظر لتاريخ التنوير وعصر النهضة العربي المنصرم نجد أن أغلب رواد التنوير كانوا معلمين وباحثين، بل إن حلم الإمام محمد عبده كان إصلاح المجتمع عبر إصلاح مناهج الجامعة. 

برأيك لماذا يتموضع المثقفون كثيرًا في موضع التمرد على العمل الجماعي وعلى السُلطة بصورة عامة؟

إذا بسطنا الدائرة لمدى أوسع نجد شعور المفكر والفنان بالغربة ظاهرة معروفة فى تاريخ الإنسانية، فإذ سماها كارل ماركس بالاغتراب، اجتهد غرامشى تعيين سمات المثقف العضوي الذي ينخرط فى العمل لخلاص المجتمع، أو كما أسماه المفكر الإيرانى على شريعتى بـ"المفكر المسؤول". فى التاريخ الإسلامي تجد أن أئمة الفقه الأربعة كانوا معارضين ولو آثرو الإصلاح على الثورة التى كانت تسمى الفتنة، كما أن تجربة الربيع العربي الماثلة ربما حملت اليأس من الأنظمة ليشمل المجتمع أيضًا، لكن بالمقابل بسطت ثورة الاتصالات اليوم حريةً وآفاقًا لا يستطيع قهر السلطة المادية أو الأدبية أن يبلغها ليعطلها أو ليمنعها، فالمثقف أو المفكر أو الفنان لابد أن يعبر عن ضميره الحر وإلا سيقوده الصمت إلى اليأس ويقود اليأس إلى الجنون والانتحار، ولذلك عبر غرامشى عن تفاؤل الإرادة إزاء تشاؤم العقل، فالعمل الصبور الدؤوب هو سبيل المثقف للتغيير مهما بدى الواقع مظلمًا، الأمر الثاني الجيد بالنسبة لتمرد المثقف هو تبلور ظاهرة المجتمع المدنى التى تتيح له أن يتواصل مع بيئة لا تحمل قهر السلطة الذي ينفر منه.

المحبوب عبد السلام: العمل الصبور الدؤوب هو سبيل المثقف للتغيير مهما بدى الواقع مظلمًا، أي بكلمات غرامشي تفاؤل الإرادة إزاء تشاؤم العقل

هل من الإنصاف أن نسلم بفشل تجربة الربيع العربي ولماذا تراجعت فكرة استبدال الأنظمة القديمة؟

 الثورة منذ أن وصفها المفكر الفرنسي غوستاف لوبون بأنها هوجة عمياء بلا ضمير، وطابق أفكاره بنجاح مع الثورة الفرنسية، أو كما وصفها ابن خلدون بأنها فتنة إثمها أكبر من نفعها، ثم التعديل الذى أضافه مفكرون آخرون أن الثورة لابد لها من فكرة ملهمة، تقول أنه كان ينبغى أن نبحث عن دوافع وأهداف الربيع العربي بكثير من الحذر والعمق، فطول عمر الأنظمة وثبات وجوه الحكام ثم الفساد وامتهان الكرامة فى سبيل لقمة العيش، وهذه أسباب كافية للانتفاض، ولكن ليس بالضرورة ضمن صيرورة مفضية للحرية والديمقراطية بأشد مضامينها عمقًا ومعاصرة.

كأنك تريد أن تقول أن الربيع العربي عمل غير مكتمل؟

غير مكتمل نعم، إذ جاء بغتةً فى توقيت داخلى رنّ جرسه من أعماق المجتمع، ولكنه سمع فى كل بيت فخرج الجميع ليستلم الشوارع، فهذا الرنين الذى لا يقدر توقيته أحد على وجه الدقة هو شرط الخروج الشامل من أدنى طبقات المجتمع معاشًا وثقافة، إلى أرقاها فيلتقي الجميع بغير ميعاد، ولكن التحول الشامل المرجو له شروط أخرى يقع غالب عبئها ومسؤوليتها على المثقفين، إذ هم المنوط بهم الاجتهاد لإبداع الأفكار والأساليب والوسائل التى تخرج المجتمع العربي من القرن الخامس عشر الهجري، الى أفق العصر دون خلل فى توازن التقويمين.

الإخوان المسلمون وصلوا للحكم في مصر عن طريق تجربة ديقراطية ولم يصمدوا، وفى السودان وصلوا عن طريق الانقلاب العسكرى وتمكنوا. كيف تقرأ هذه المقاربة حول النيل؟

 الإجابة فى تقديري تكمن فى الفرق بين مصر والسودان، حيث بدأت دورة الحداثة مبكرة فى مصر وقطعت أشواطًا كبيرة.

المحبوب عبد السلام: الإيمان فى وصفي ديمقراطي لا يقيم أي حاجب بينك وبين الله

فى إطار تجديد الفكر الدينى، كيف يمكن أن ننتهى إلى صيغة فكرية مع الأطروحة الديمقراطية، ونشيد عليها دولة حديثة؟

الدين جوهره التوحيد والحرية ثم الأخلاق، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا إكراه فى الدين وإن كل إلا آتيه يوم القيامة فردًا، والإيمان فى وصفي ديمقراطي لا يقيم أي حاجب بينك وبين الله، والتنافس فيه مفتوح، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. بهذه الأصول يقترب الدين من الإنجاز الإنسانى فى التوافق على الديمقراطية بوصفها أفضل صيغة لتنظيم المجال العام، بل إن الانسانية تقترب بفطرتها من قيم الدين الجوهرية بأكثر مما شهد التاريخ فى مراحله السالفة، فلم تمجد البشرية حرية الإنسان وفرديته وكرامته وحرماته وحصانته كما حدث فى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والشرعة الدولية فى توقيعها من غالب الدول فى أخريات العقد الأربعين من القرن، لم تجد ولاءً وتعظيمًا من المجتمع الإنسانى كما تجد اليوم.

كيف يمكن توخي نهضة آلية الشورى مقابل أو مع الديمقراطية ورصدهما في التراث الاسلامي؟

صحابة النبي عليه السلام كانوا يدركون من القرآن أن مصدر السلطة هو الأمة وأن الشورى هي آلية مجتمع المسلمين للإجماع أو التى كانوا يسمونها الأكثرية، ولم يستعملوا كلمة الأغلبية التى تشير إلى الغلبة على الأقلية، ولكنه مجتمع يتشاور فى تداول حر حتى إذا اختلف مضى مع رأي الأكثرية دون مغالبة، بل ربما تنشرح صدور القلة بعد توالي المداولة، ولذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب: لقد كانت بيعة أبابكر فلتة وقى الله الناس شرها، بمعنى أنها تجاوز لشورى المسلمين مصدر السلطة والأخذ برأى أكثريتهم، وفي بيعة علي بن أبي طالب رضى الله عنه، عندما جاءته بيعة المدينة قال: فأين بيعة مكة، فلما جاءت بيعة مكة قال إن المسلمين انتشروا فى الأمصار فأين بيعة الأمصار. لكن بحكم الظرف النفسي التاريخي لمجتمع ما قبل الحداثة، نقصت سنة التأسيس عن أمرين هما من لوازم النظام الديمقراطي للدولة الحديثة، وهما كيفية اختيار الحاكم ثم مدة ولايته. لكن منذ فقهاء العصر الإسلامي الوسيط قاس الفقهاء عقد الولاية على عقد الإجارة، ففى قصة موسى على أن تأجرنى ثمانية حجج فإن زدت عشرًا فمن عندك، فالحاكم مستأجر لدى الأمة  لعهدتين لا تزيد عن عشرة، لكن تبقى العهد الموضوعة فى الدساتير والوسائل المفتوحة اليوم للتصويت الإلكترونى مفتوحة لتقدم أفكار الإنسانية وتطور وسائلها. 

اقرأ/ي أيضًا: "المركز العربي" يبحث في تاريخية الجامعات العربية

 عالمنا العربي منقسم على ذاته بتبادلية "الصراع" بين سنة وشيعة، فما هو العامل الفاعل فى ذلك، التاريخ أم السياسة؟

فى سؤالك الأول عن تأسيس الرابطة العربية للتربويين التنويريين لم أذكر لك فى الإجابة أن الجهة المبادرة كانت منبر الحوار الإسلامى فى لندن، ولعل الشعور بالحاجة لحوار أوسع من ثنائية السنة والشيعة للحفر فى جوهر معنى التنوير الديني، ثم البحث عن أنجع الوسائل للدعوة لتلك الأصول والقيم التنويرية. فالعامل الفاعل فى أن يظل إشكال على ومعاوية مستمرًا هو التاريخ الذى يوجه السياسة اليوم، فالتاريخ فى تعريف فلاسفته هو تحذير شديد للحاضر من النتائج الوخيمة لتكرار أخطائه على المستقبل، وكما انقسمت أوروبا العلمانية أيام حرب الكروات والصرب تستدعي ماضيها الكاثوليكى وماضيها البروتستانتي والأرثوذكسي من ظلمات القرون، ظل العالم الإسلامي يرتد إلى تاريخه بعجلة مرعبة كل ما سنحت الفرصة ليستدعى ثارات الحسين أو مواجد يزيد، وما قامت به أوروبا من تصفية حادة وقطيعة معرفية مع ماضيها عبر قرون ما يزال يعبر عن نفسه فى السياسة.

هل من سبل ملموسة، أو ممكنات، لتصفية الخلاف المذهبي/الطائفي المتوارث عربيًا؟

 حاجة المسلمين أشد إلحاحًا وأعسر مهامًا للقطيعة مع الأفكار الميتة فى تاريخهم والأفكار القاتلة فى حاضرهم، وليكون لهم دور فى حاضر الإنسانية ومستقبلها يساهم فى شفاء أدواء المادية والماضوية.

المحبوب عبد السلام: أنهيت تجربة الحزب الشيوعي السوداني  في عجالة من السنوات بإعدام قادته وتمخضت عن إحدى تراجيديات التاريخ

  يبدو للكثيرين أن تأثير المرأة في واقعنا ضعيف وتحت قبضة بطريركية رغم تأهيلها وصوتها العالي، فما الإشكال بالضبط؟

 يجب الانتباه إلى أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر متساويين وهو منزه سبحانه وتعالى من أيَما انحياز للذكور على الإناث، والأمر كذلك بالنسبة للقرآن وكل وحي منزل من عليائه، لكن لابد من الانتباه أن بيئة التنزيل فى المجتمع العربي كانت بيئة ذكورية بامتياز، ولذلك ارتقى القرآن درجًا بعد درج بأوضاع المرأة الاجتماعية والقانونية وبحقوقها المالية والسياسية، وكذلك كانت سنة النبي، ففي قول لعمر بن الخطاب: كنا لا نقيم للنساء بالًا فى مكة فلما هاجرنا وجدنا الأنصار يقيمون بالًا لنسائهم فسارت سنة النبي بسنة الأنصار. والحق أن سنة الله والرسول سارت أشواطًا بقدر ما يطيق وسع ذلك المجتمع بما فيه مجتمع الأنصار الذى كان مجتمعًا أبويًا ذكوريًا.

هل بالإمكان الإدعاء أن الرسالات السماوية أوفت المرأة حقها الإنساني باكرًا، وقد أدركت هى ذلك متأخرًا، بما جعل خطواتها في المجتمعات المعاصرة أكثر تنظيمًا لانتزاع الحقوق؟

 قضية المرأة عمومًا وقضاياها الخصوصية، من المسائل التى وافت فيه خطوات تقدم الإنسانية الهائلة جوهر الدين بخلق مجتمع متساوٍ يصعد نحو الله سبحانه وتعالى بقدمين ويطير إليه بجناحين، ولكن كما نخوض فى السياسة أحيانًا فى أوحال التاريخ نتورط فى المجتمع وفي أوضاع المرأة خاصة فى أخلاق الجاهلية وأعرافها، بل إن قضايا المرأة واحدة من الميادين التى انطلق فيها البحث بالمناهج الجديدة لا سيما مناهج علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، وفي علم نفس الدين، وإذ تتوطد مباحث النوع والأسرة فى ظل أزمات عميقة تحيط بهما فى ظل المجتمعات المعاصرة، ينفتح البحث فى الدراسات الإسلامية المعاصرة لتأسيس موقع جديد إنسانى معاصر للمرأة، ولأن قضايا المرأة الموصولة بقضايا الجنس والشرف المتجذرة فى المجتمعات العربية تظهر حساسية بالغة، كلما ظهر اجتهاد ولو محدود يعتمد ذات مناهج الفقه التقليدية ولكنه يمس مثلًا التعدد أو الميراث أو زواج الكتابي من المسلمة، ولكن لأن مواجهة الحداثة والتجاوب معها حتمي، فقد بدأت المفارقات منذ مدونة الأسرة التى منعت التعدد إبان البورقيبية اللائكية إلى المساواة فى الميراث عبر مجلس تشريعي الأغلبية فيه لحزب حركة النهضة.

المحبوب عبد السلام (ألتراصوت)
المحبوب عبد السلام (ألتراصوت)

فى كتابك الذي حمل عنوان "دائرة الضوء خيوط الظلام.. تأملات في العشرية الأولى لحكم الإنقاذ" ظهر تأثير كبير لأدب اليسار رغم أن الكتاب يرافع عن تجربة حكم إسلامي، كيف تفسر ذلك؟

 يؤكد تاريخ العلاقة بين الإسلاميين واليساريين فى السودان، بوضوح جلي أنها كانت علاقة إقصائية استئصالية كما هو الشأن فى غالب البلاد العربية التى شهدت بأسباب الحداثة ظهور تلك التيارات، وكان كلاهما يتصور أنه لا حياة له إلا بموت الآخر، وكأن الوطن لا يسعهما معًا أو لا يسعهما والجميع.

اقرأ/ي أيضًا: كريم مروة: ثورات الربيع العربي بوصلة نحو المستقبل

بالنسبة للسودان رغم دورة الصراع الجهنمية، إلا أن البعض ظل يعتقد أن كل تيار يستمد قوته من الآخر، فهل كان اليسار قويًا؟ وهل تصح هذه المقولة أساسًا؟

فى الحالة السودانية الخاصة حظي اليسار بقيادة الحزب الشيوعي السوداني، بخلاصة النخبة السودانية وتوفرت له قيادة فكرية وسياسية قديرة، استطاعت رغم عمرها الصغير وحيواتهم القصيرة أن تقدم إسهامًا وتضع بصمةً، وعاشت تلك التجربة بزخمٍ بالغ وانتهت فى عجالة من السنوات بإعدام قادة تلك الحركة، فتمخضت التجربة عن إحدى تراجيديات التاريخ فى بلد محدود النخب والتجارب.  جيلنا واكب سنوات بعد المحنة بما تفرز من أسئلة ومراجعات وبما يعتورها من فن وأدب يمتح من تلك المحنة، وينشد الصمود قبل الفن والجمال، ولم يعد ممكنًا لمن واكب تلك المرحلة أن يتحصن من رياحها وأعاصيرها، بالمقابل كانت الحركة الإسلامية محدودة بقيود التراث وبطبيعة الذين ينتمون إليها، ثم بقيادتها ذات الخلفية القانونية والفقهية.

كيف ترى مستقبل اليسار العربي؟

بتوسعة مجال النظر فإن اليسار العربي كله كابد تجارب مشابهة، وإلا لم تكن ملهمة بذات الملامح السودانية، وهو اليوم مدعو للتدبر بعد مضي ثلاث عقود على تلاشي تجربة الاتحاد السوفيتى، وتطورات القضية الوطنية منذ نكبة فلسطين إلى أوان الربيع العربي، ثم الكشوفات التي أشرت إليها فى التراث الإسلامي، وتطور مناهج البحث الإسلامي يستدعى زيارة جديدة من اليسار العربي بعد مؤلفات حسين مروة والطيب تزينى. كذلك هنالك قضايا الاستعمار الجديد والتحرر من التبعية ثم إضفاء العدالة على اقتصاد السوق وكبح جماح توحش الرأسمالية. كل تلك مبادئ وقيم تتيح تعاون وتكامل بين الإسلام ومن يستلهمه وبين التفكير اليساري العربي.

بما أنك عشت ودرست فى فرنسا ثم انتقلت إلى بريطانيا حيث عشت ودرست أيضًا، كيف ترى تجربتي البلدين مع الاستعمار فى العالم العربي والأفريقي؟

الاستعمار والاستشراق من حيث هما ظاهرتين معقدتين بعيديتين غورًا فى أعماق التجربة الغربية، ثم تأثيرهما على العالم العربي أو كما قال مالك بن نبي فى مقال "إنتاج المستشرقين والمبشرين وأثره على الفكر الإسلامي المعاصر": سيمر وقت طويل قبل أن نكتشف مدى الفعل الحقيقي الذي خلفه الاستعمار على محيطنا العربي والإسلامي. فالاستعمار في جوهره يحيل إلى الروح "الاستعمارية" التواقة إلى الرحلة واكتشاف الإنسان الغريب هنالك بعد البحر وملامسة ثقافته الغرائبية ودينه البدائي الشهواني وإلهه المتعطش للدماء، ثم الحالة الطبيعية للمركز الحضاري الفائض طاقته أن يتقدم ويتوسع ويستعمر الآخرين، من حيث هذا الجوهر يتطابق المستعمر الفرنسي والإنجليزي، أما الاستشراق فهو حالة أكثر اتساعًا لأنه يشمل دولًا وأممًا لم تستعمر قط مثل ألمانيا وروسيا وأمريكا، وحيث أن إسهام الاستشراق الألماني مثلًا لا يقل عن البريطاني أو الفرنسي ويتكامل معهما، لكن فيما يتعلق بتفاصيل السلوك الاستعماري للبريطانيين والفرنسيين نجد اختلافًا فى نظم الإدارة والحكم، كما نجد فروقًا بين تعامل المستعمر مع كل بلد استعمره، فقد لا تجد استعمار الفرنسيين للبنان مطابق لحالتهم مع سوريا ومصر، وكذلك استعمار البريطانيين للسودان مختلف عن استعمارهم لكينيا ويوغندا، كما أن الثقافة البريطانية المتحفظة قد تترك أثرًا أقل عمقًا من أثر الاستعمار الفرنسي الذى يمعن فى الاستلاب.

المحبوب عبد السلام: لفت نظرى التماثل الذي أشار إليه الطيب صالح عبر حالة مصطفى سعيد وتفسير فرانز فانون فى كتابه "معذبو الأرض" للعدوان التعويضي 

كيف قرأت فكرة الانتقام من الاستعمار فى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للأديب السودانى الطيب صالح من خلال رؤية بطلها مصطفى سعيد: "جئتكم غازيًا في عقر داركم.. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ"؟

لفت نظرى فى حالة موسم الهجرة إلى الشمال التماثل الذي أشار إليه الطيب صالح نفسه بين حالة بطل الرواية مصطفى سعيد وتفسير فرانز فانون فى كتابه "معذبو الأرض" للعدوان التعويضي على الاستعمار الذى يتخذ صورة سلوك جنسي، رغم أن الطيب صالح يقول إنه لم يقرأ فانون إلا بعد صدور روايته موسم الهجرة إلى الشمال.  لكن الطيب صالح نفسه فى الرواية ومن خلال شخصية الراوي يتعرض للجيل الذى تلى جيل البطل فى السفر إلى بلاد المستعمرين والدراسة في جامعاتهم وبالطبع الحياة بينهم والتعامل معهم، أي جيل بعد التحرير حيث هدأت العواطف الجياشة وأصبح الوافد يرى أن مجتمعات مواطن الاستعمار هي مجتمعات إنسانية تدور فيها سنن الاجتماع البشرى كما هو الحال فى المواطن التى كانت مستعمرة، وبالتالي تأسيس علاقة جديدة قائمة على الندية دون عُقد عميقة كالتى كانت أيام الاستعمار.