17-أبريل-2023
المثنى الشيخ عطية وكتابه

المثنى الشيخ عطية ومجموعته الشعرية

أصدرت "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، مؤخرًا، مجموعة شعرية جديدة للشاعر والروائي السوري المثنى الشيخ عطية (1953) بعنوان "كوانتوم بقطط مجنّحة"، وهي الثالثة في رصيده بعد مجموعتيه "نعم هناك المزيد" (1979)، و"فم الوردة فم الهاوية" (1989).

تنطوي المجموعة التي تقع في 152 صفحة من القطع المتوسط، على تجربة جديدة يشير إليها عنوانها الذي يُحيل إلى فيزياء الكم. وهي تجربة تقوم على تفاعل الشعر مع العلم من جهة، ومع الكون بمختلف تفاصيله وأصغرها من جهة أخرى. ناهيك عن أن القصائد منفتحة لا على العلم فقط، وإنما على الأساطير الوثنية والتوحيدية والحياة اليومية وما تحيل إليه من تفاصيل وأفكار وصور. إنها، لذلك، محاولة في تأسيس حركة شعرية جديدة لا بد من قراءة المجموعة للوقوف على الجديد الذي تقدّمه.

في هذه الوقفة الحوارية حديث مع المثنى الشيخ عطية حول مجموعته وتجربته في كتابتها.


  • يُحيلنا عنوان مجموعتك الأخيرة "كوانتوم بقطط مجنّحة" على تجربة "قطة شرودنغر" وفيزياء الكم. ما الذي أردته من هذا العنوان؟ هل تريد للشعر أن يذهب إلى أصغر الأشياء من أجل فهم العالم؟ أم هي طريقة لخلق مجاز شعري؟

أنت محق في إحالة "كوانتوم" القارئ إلى فيزياء الكم، وإشارات القطط المجنّحة إلى قطّة العالم شرودنغر، في أشهر تجربةٍ للدلالة على عدم يقينية الحقيقة، وإلى الاحتمالات المفتوحة التي لا تعدّ وتشكّل جوهر فلسفة هذه الفيزياء، وهو عنوان إشكالي عرفت منذ البداية مدى خطورته على مجموعةٍ شعرية، ومدى خلقه للتساؤلات من قبل الشعراء قبل القراء والنقاد!

المثنى الشيخ عطية: إلهام العلم موجود في عوالم الشعر وصوره وتراكيبه، وروائع قصائد الشعراء منذ بدء التعبير بالشعر إلى يومنا تنبض بإلهام العلم

وقد حسمتُ أمري إلى خوض تحدّي وضعه، ربّما لأنني أردت من تجربة قصائد هذه المجموعة أن تصل إلى ما تريد من هزّ بحيرة الشعر التي شعرتُ أنها ركدتْ أمام عالم يتغيَّر ويغيِّر رؤية الإنسان عن نفسه ووجوده في الكون. وربّما لأنني أردت إيقاظ شاعري المفضّل "لاعب النرد" الذي أعتبره رائد الشعر الكمومي، محمود درويش، من سرير أبديته البيضاء للعب دورة نردٍ معه أمام أينشتاين، على طاولة مقامرة المجرّات، متشابكيْن كموميًا في قصيدة: "شاعر يفتح للشعراء ألف باب وباب بضربةِ نرد".

وربّما أردت ببساطةٍ لفتَ نظر حبيبتي الذي انزاح إلى وحدتها إلى أنني معها، فرميتُ نردي بالعنوان الذي يمثّل المجموعة، كحجر جريء مغامرٍ في عملية لعب النرد مع الكون. وكان عليَّ أن أعيد المجموعة إلى شاعريتها التي هي عليها، تناغمًا مع تكوين القصائد، فركّبتُ أجنحةً لقطّة شرودنغر، تطير بها خارج صندوق خيارات مراقِبِها، بأسرع من الضوء، إلى واقعٍ افتراضي تحضُر فيه مؤتمر شعراء الكوانتوم في افتراضيّات خروجهم من السوريالية إلى "نهاية الواقع".

لم أعرف بالضبط ماذا أردت، ولا أريد بهذا التشابك للشعر في الحقيقة أن يذهب إلى أي مكان لفهم العالم، حتى إلى صغائر الجسيمات التي نتكون منها جميعًا حسب فيزياء الكم، لأنني أعرف مدى لا جدوى إبقاء صخرتي على القمة، فسرعان ما تتدحرج.

الشعر لا سلطة عليه، يذهب ويأتي إلى ما يشاء، ويخلق مجازاته التي تفاعلتْ مع داخلي وإحساسي أنني ذرة من ذرات الكون، ومع ثقافتي وعالمي الذي ينفتح على كشوفاتٍ تغيِّر رؤية الإنسان عن نفسه، على الصورة التي خرجت بها القصائد.

  • إلى أي حدّ تعتقد أن بوسع العلم أن يكون ملهمًا للشعر؟

الشعر كما أرى يتفاعل مع علوم عصره، ويرتقي إلى فتح آفاق أوسع للإنسان بهذا التفاعل. ومثلما كانت الأساطير التي شكّلت علوم عصورها، والدين الذي حمل القليل من العلم وحاول أن يحصر العلم فيه عبثًا، يقوم العلم الذي يكاد أن يكون أسطورة عصرنا بالتفاعل مع جميع الفنون ومنها الشعر، إلى حدود إنتاج أفلامٍ ومسلسلاتٍ مثل "حرب النجوم"، و"ماتريكس"، و"آلة الزمن" وغيرها الكثير، بإلهام العلم.

وقد وصل هذا الإنتاج إلى التفاعل مع فيزياء الكوانتوم التي تفوق فتوحاتُها الخيالَ، وألهمتْ إنتاج مسلسل "دارك" الذي يعالج عبور الزمن، و"1899" الذي يعالج الأكوان المتوازية، و"أفاتار" الذي يعالج التحول، وفيلم "كل شيء في أي مكان وبآن واحد"، الذي فاز بسبع جوائز أوسكار أعتقد أن أهم أسبابها التفاعل مع مفهوم الأكوان المتعددة في فلسفة الكوانتوم. وبالنسبة إلى الشعر، أعتقد أن إلهام العلم موجود في عوالمه وصوره وتراكيبه؛ وروائع قصائد الشعراء منذ بدء التعبير بالشعر إلى يومنا، تنبض بإلهام العلم.

  • كيف ولدتْ فكرة المجموعة؟ وما هي ظروف كتابتها؟ وأين تضعها في سياق تجربتك؟

بعد كتابتي لمجموعة قصائد تداخلتُ فيها مع طفولتي، وشكّلتُ منها مجموعة "فتى الدراجة على الجسر" التي أنوي نشرها قريبًا، وجدتُ نفسي أفتح بابًا يُدخلني في غرفةٍ كانت أمي تحذّرني في قصصها من دخولها، وتحرّضني بهذا المنع على الدخول.

وفي تلك الغرفة التي وضعتُها خاتمةً لمجموعة كوانتوم، انفتحتْ أمامي أبوابٌ على أكوان لا تحصى، سافرتُ فيها على ظهر براقٍ يطير بأسرع من سرعة الضوء، حتى الوصول إلى شجرة الحياة أو "سِدرة المنتهى" التي انفتحت على لا منتهى ينتهي إلى نفسه ويعيدني إلى نفسي بقصائد تتآخى مع مُثنّاها وتنفتح على جمعِ نساءٍ مجنّحات يخلعنَ ثياب الريش ويدعون الميت بين أيديهن على صورة "أفاتار" لتسميتهنّ كي يحيا، فنطق لساني بكلمة "كوانتوم".

(صورة)

عرفتُ بعدها حين أفقت أن هذا يعني المجهول الذي أسير فيه لاكتشاف ما ستؤول إليه نفسي في ارتحالاتها التي لن تصل سوى إلى مرآة نفسها، كما يحدث لطيور فريد الدين العطار؛ ومن هنا انطلقتُ كما أعتقد في كتابة هذه المجموعة، ضمن ظروف عيشي في مجتمعٍ حرّ، وثقافةٍ مفتوحة على التعدّد في باريس، وتفرّغي للتأمّل والقراءة والثقافة، والأهمّ حقيقةً، ظروف عودتي إلى الكتابة بتحريضٍ لا مرئيٍّ خلّاق من صديقي الناقد والباحث المبدع صبحي حديدي، حول الشعر والرواية وما تتطلّب الكتابة عنهما من متابعة، في القدس العربي.

وقد عدتُ كما أفعل عادةً إلى مقارنة هذه المجموعة بتجربتي السابقة التي انقطعتْ بعد مجموعة "فم الوردة فم الهاوية" (1989)، فاكتشفتُ أن الزمن لم يمرّ عليّ من جهة أولى، بالنسبة لأسلوبي ولغتي وجنون قصائدي في التجوال والاكتشاف واجتراح الجديد غير المطروق؛ ومرّ عليّ في ذات الوقت بالكثير من الإنضاج وانفتاح الخيال.   

  • تبدو القطط أساسية في مجموعتك، ولأنها تحيل إلى قطة شرودنغر التي تحمل دلالات فكرية عديدة، وتعتبر في الوقت نفسه طريقة فكاهية تسهّل تقديم الأفكار المعقدة. بالمثل تحمل القطط في قصائد كتابك دلالات كثيرة، كيف حدث ذلك؟ ومن جانب آخر، باتت علاقة الكتابة العربية الحديثة مع عالم الحيوان شديدة الضعف، إلى درجة أن الحيوانات اختفت من معظم الكتابة الأدبية العربية، ولا تكاد تحضر إلا في إطار رمزيّ، فما الذي يدفعك إلى استعادة هذه العلاقة شعريًّا؟

أنا سعيد باكتشافك لعوالم التداخل مع القطط وعالم الحيوان في المجموعة، وإشارتك إلى عوالم الفكاهة التي تحيل برأيي إلى فلسفة العبث التي تتجلّى أكثر مع الموت والحروب التي يعيشها عالمنا ويضع السوريين في مركز دوامتها. وقد لا أستطيع فعلًا معرفة كيف حدث دخول القطط كمجازات في المجموعة، فأنت تعرف القطط، إنها كائنات غير مباليةٍ وفضوليةٌ كما الشعر، ولا يُستبعَد أنها تتحوّل لتصبح ما تريد، نمرًا يُزمجر، أو زهرةً تلتهم، أو ذئبًا يعوي في اكتمال القمر. كما أنّ لديها سبعة أرواحٍ، وأستبعد أن نجدها في صندوق شرودنغر حيّة أو ميّتة، مهما بقي أو انتهى سمّ الخميني النووي الذي سينطلق للقتل، إذ إنها تطير بعد أن ركّبتُ لها أجنحةً، وقد تكون قد عادت مُجمِّعة نفسها في قطّ ثنائيٍّ إلى منزل جارتي الفرنسية التي تورطتُ بسؤالها عن قطّها الهارب في القصيدة الأولى.

أما عن حضور الحيوان القليلِ في الأعمال الأدبية العربية المعاصرة، وأذكر منها رواية خليل الرز الجميلة "الحيّ الروسي" وبطلتها الزرافة، فقد يكون مردّه غياب حقوق الإنسان. بالنسبة لي تحضرُ كائنات ومكوّنات الطبيعة مثل الذئاب، الأحصنة، الأفراس، الفهود، الدلافين، القروش، اليمام، الصقور، الأشجار، الفراشات والأزهار، وما إلى ذلك، كمكوّنات لي ولمن أحب، أكثر من كونها مجازات، حيث أعتقد أننا متقاربون في طبائعنا مع إخوتنا وأولاد عمومتنا.

  • تحضر في المجموعة مواضيع الحب والحرب والكتابة الشعرية وإشارات إلى كتب وكتّاب... كيف استقامت هذه الخلطة؟  

الشعر بالنسبة لي ولمعظم شعراء قصيدة نثر ما بعد الحداثة، هو الحياة بكل ما تحفل، مترافقةً مع الموت الذي يرافقني في الدوران والانتقالات على أفلاك الكون. ولا أتعامل مع الشعر كموضوعات منفصلة كما يحدث في الشعر الكلاسيكي؛ لهذا تستقيم الخلطة وتنصهر في قصيدةٍ كما أعتقد، ناهيك عن حسباني لكوني شاعرًا ما فوقَ واقعيّ، وأكثر من ذلك أحاول أن أجيد كوني شاعرًا كموميًا، يعيش "كل شيء في كل مكان بآن واحد"، ليصل إلى ما أدعوه "نهاية الواقع".

المثنى الشيخ عطية: الشعر يتفاعل مع علوم عصره، ويرتقي إلى فتح آفاق أوسع للإنسان بهذا التفاعل

وتمنحني قصيدة النثر التي صاغت جميع قصائد المجموعة ماعدا الأخيرة التي أحبّت أن تُذكّرني أنني شاعر تفعيلةٍ أيضًا وأنها في داخلي، حرّيةً لا محدودةً في تداخل مكونات الحياة ومعرفتي وأحلامي، وتفاعلها لتَخرجَ بخلطة القصيدة الحياة، مع طموحٍ مجنونٍ إلى أن يأخذني الشّطح الصوفي الكمومي مع جلال الدين الروميّ، وهاجسي يقول لي ذلك، إلى خلطةِ القصيدة الكون.    

  • تميل القصائد إلى القصّ والسرد. هل هناك شيء من المثنى الشيخ عطية الروائي في هذه المجموعة؟

أعتقد ذلك معك، في تبادلٍ مع مغامرة روايتي "سيدة الملكوت" بالمقابل في كتابتها بأسلوبٍ شعري، مراهِنةً على النجاح لكون بطلها شاعرٌ في وسط صحفي، وقد أشار الناقد نديم جرجورة إلى ذلك وقتها. مع إضافةِ أنّ قصيدة نثر ما بعد الحداثة، ولدى جميع شعرائها تقريبًا، تمتلك حريةَ تداخل القص والسرد والاسترسال، بشرط الإدهاش طبعًا في تركيب الجملة الشعرية، بعد أن تداخلت فنون العصر، مع إتاحتها إدخالَ روح العبث والسخرية، وبالأخص في القصائد التي تضربها الحروب بنيران أسلحة الفساد والاستبداد وضيق أفق المصالح.  

  • هل تغيّرت نظرتك إلى الشعر مقارنةً بما كانت قبل "كوانتوم بقطط مجنّحة"؟ ما الذي تغيّر؟

لا أعتقد أن جوهر نظرتي إلى الشعر تغيّر، الشعر مازال عندي شغفٌ ومغامرةٌ واكتشاف وتوقٌ إلى الكشف الذي يبدأ آن ينتهي إلى ما لا نهاية، وأعتقد أن مجموعة "كوانتوم بقطط مجنّحة"، بخصوصيتها كما في كل عمل لدى كاتب ضمن أعماله التي تشكل موزاييكه، شكّلتْ تجربةً أنضجتْني، وأشكرها على ذلك، للدخول في تجارب أخرى، وخوض ارتحالاتٍ ومغامرات إلى الجزر الغامضة والمدن اللامرئية والحبيباتِ اللواتي يخلعن أجنحة الريش للدخول في شغف مياهي، وإلى ما لا أعرف ويدفعني بشغفٍ إلى محاولة أن أعرف، وإلى عبثية أن أعرف ولا أعرف.     

  • تتحدث في القصيدة الأخيرة المعنونة بـ "غرفة محرّمة على غير الشعراء" عن غرفة غامضةٍ، تتداخل مشاعرك أمامها بين الحيرة والقلق، أهي مجازك الخاص للكتابة؟

يعيدني سؤالك المربك إلى تلك الغرفة في حكايات أمي الألف لي وأنا طفل، تلك الغرفة التي يشكّل قُفلُها "المحرّم وتحريض خرق تحريمه"، كما لو كان شجرة التفاح التي أمرَ الربّ آدمَ وحوّاء أن لا يقْرَباها، وكأنه يدفعُهما إلى أن يقْرَباها، ليُنزلهما إلى الأرض ربّما، وربّما تكون هي كما اكتشفتَ أنت َبقدرةٍ تذهلني وتقودني إلى التفكير والتساؤلِ معكَ، والعودةِ إليها لأسألها أيضًا إن كانت هي مجازي الخاص للكتابة:

"تلك الغرفة بعد الألفِ الصامت من ليل حكاياها/ في ساحة بيتٍ مهجورٍ/ لا أجرؤ أنْ أفتحَها/ لا أجرؤ أن أتخطّى حيرة خوفي من أنّ/ المنبثقَ هو النور أم الخارج منها سيلَ شرورٍ.../ حُجُبُ الوادي المسحور تحذّرني أنّ الكلماتِ هنا/ أنيابُ طيورٍ جارحةٌ إن لم تدعوها باسمٍ يفردُ أجنحةً ويطير.../ بحارٌ وشواطئُ تتقاذف كلماتي السابحة على ريح قلقها.../ فوق البحر تغالبني حيرةُ خوفِ طوافي/ في هذا الفلك المسحور بدون ثيابٍ/إن كان هو الأقرب للنار أم النور؟/ حجابُ البحر الساكن في عينيْ تلك المرأة فوق الشاطئ/ يكشف حيرة أسئلتي إن كان المستور يسلّحها بعصا سحرِ الغامض/ أم أن المكشوف المتلامع في خصلات الأبيات على الكتفينِ/ هو الغامض يطْلِق سحرَ الأسرار من المكشوف المستور.../ على شاطئ تلك الغرفة/ أتهالكُ بعد الموج لألمس رمل الطفل/ بأسئلة الخوف تذوب مع الزبد المتهالك تحت الشمس.../ على شاطئ أحلامي بعد البحر أنام سلاماً في عريي/ إلا من ثوب الشمس تدور بسحر النور".